حين تلتقي عقليات مختلفة عن الأخرى ، و بينها أمد
بعيد من طريقة التفكير و نمط العيش و النظرة إلى الحياة و فهمها فهذا كفيل بخلق تصادم أجيال اِخْتلفت في كل
شيء فكان الصدام سمةً تطبع علاقاتها اليومية ، إنها تمثل حالة طبيعية لما سمي
بالصراع بين القديم و الحديث ، فالحداثي
يسعى إلى التمرد على القديم و الخروج على طوعه ، أما القديم فهو حريص على
التشبث بتقاليدَ ماضيةٍ منافحاً عن إرث سلف الجيل الذي رتع فيه ردحاً من الزمن ،
هذا السّجال عُرف في كل مجالات الحياة و ضروبها ، و أُلّفت في شأنه كتبٌ كثيرة تبين هذه الحالة التي قد تكون محمودةً من باب
رحمة الاِخْتلاف ، لكنه يصير خلافاً عنيفاً في تارات أخرى حين تختلف الذات المجددة
و الذات التقليدية.
مجال التدريس لا يخلو البتة من هذا
التصادم بين الأجيال ، هناك عقلية تقليدية تشربت معين برامج انتهت صلاحيتها
و ولى عهدها ، و قضى مفكروها
نحبهم ، لكن تجد من لا زال يعض عليها
بالنواجذ ، مطبِّقَهاَ بحذافيرها في علاقاته مع محيطه المدرسي ، و هناك عقلية
مجددة تسعى إلى البحث عن الجديد ، و تفتش عن الإبداع ، و تتقاطع مع القديم ، و تنفتح
على البرامج المستجدة.
تحتاج العقليتان إلى نوع من
التكامل و الانسجام في العمل لسريان
مهمتهما بسلاسة و حسن تدبير ، لكن الواقع للأسف يشهد عكس ذلك ، فهناك تدافع رهيب بين هذه العقليات ، فالعقلية
التقليدية تعتبر أي خروج على النظام الذي تشبعت به ، و اهتدت بهديه تمرداً و
عقوقاً و شقَّ عصا الطاعة ، و من ثم فهو يقتضي الإبادةَ و القمع و التجاهل ، أما
العقلية المتجددة فتعتبر العقلية التقليدية صدوداً عن مشاريع راودتها منذ أن أنيطت
بها مهمة التدريس ، مما يحتم التمرد عليها و إحداثَ ثورة مطالبة بالتغيير و ضرورة
التجديد.
هيئة التدريس ذات العقلية
التقليدية تنظر إلى المحيط المدرسي نظرةً
مطلقة ، كل استنتاجاتها و خلاصاتها الماضية منزهة عن الخطأ، و معصومة من أي زلل أو
شائبة ، يحاولون إسقاط تجاربهم مع عصر عرف بالقمع و الرأي الواحد على واقعهم
الحالي المتغير الذي انقلبت فيه الأمور إلى تعدد الآراء ، و نسبية الأحكام ، لذلك
طبيعي أن تكون أفكارهم اجتراريةً في المحيط المدرسي ، و تساهم في امْتهان المدرسة
، و تكريس وهنها الضاربة أطنابُه...
أما هيئة التدريس ذات العقلية
المتجددة فهي تنظر إلى المحيط المدرسي نظرةً تتسم بالمرونة ، و قَبول الرأي الآخر،
و أخذ الأمور في نسبيتها ، و بسط أفكار جديدة هي وليدة آخر ما تم التوصل إليه من
نظريات حديثة ، و هذا يساهم في ازدهار المدرسة ، و تفتق ذوات مبدعة قادرة على خلق
التطور المنشودة مراميه في التعليم .
حين تلتقي العقليتان يكون الصدام
أمرا طبيعيا ما دام التمايز بينهما ملقٍ
ظلالَه على العلاقة القائمة بينهما ، رغم أن وضعيتهما تحتم عليهما خلق تكامل
لتحقيق النتائج المنشود تحقيقها ، من كلا الجانبين ، العقلية التقليدية راكمت
تجارب كثيرة ، و استوعبت الكثير من أسرار المهنة ، لكن غياب ملكة التجديد حرمها من
تقديم أنموذج حديث يطور عملها التربوي ، و هذا ما لا يتم استساغته من لدن العقلية
المتجددة التي ترفض هذا التحجر ، و تحاول الانعتاق منه ، هي تنشد تطبيق مخططاتها
التربوية التي خامرتها في ذهنها ، مخططاتٍ وليدةِ العصر الذي نعيشه ما داموا فردا
حديثي العهد به .
من باب التجني أن ننعت كل هيئة
تدريسية كبيرة السن بالعقلية التقليدية ، لأن التجديد لا سن له ، فكما أن
الأربعيني أو الخمسيني قد يطور عمله التربوي ، و يجعله مسايرا لأهم مستجدات علوم
التربية و المناهج الحديثة فهناك عقليات شبابية ما زالت ترهن نفسها في خندق أفكار بالية
و جامدة أكل عليها الدهر و شرب .
جدير بالبيان أن منظري علوم
التربية لم يتطرقوا كثيرا إلى مثل هذه القضايا الهامة مستغنين عنها بالانكباب على
القضايا المفاهيمية ذات الطابع النظري .
إن الاهتمام بمثل هذه القضايا في
المجال التربوي حري بخلق مؤسسات تعليمية تقصي الهوة السحيقة التي تخلق بين هيآتها
التربوية ، خاصة فيما بتعلق بالمشاريع التربوية التي تخص المؤسسات ، و تنهي
الخلافات التي تدب دائما في فضاءاتها ، و التي صارت ميدانا تتداعى إليه أعين ساعية
إلى استئصال شأفة التعليم و إدخال القلاقل
إليه ، أما تهوين الأمر و التغاضي عنه
فمن شأنه زيادة الهنات التي توهن التعليم
و تجعله دائما القهقرى.
أشرف سليم , أستاذ مادة اللغة
العربية
0 تعليقات
السلام عليكم و مرحبا بكم يمكنكم التعليق على أي موضوع ،شرط احترام قوانين النشر بعدم نشر روابط خارجية سبام أو كلمات مخلة بالآداب أو صور مخلة.غير ذلك نرحب بتفاعلكم مع مواضيعنا لإثراء الحقل التربوي و شكرا لكم.