مناهج التجديد في
فلسفة التربية التعليم.
ا . د /عــلــي عـــمـــا ر .
جامعة
تلمسان الجزائر.
الانظمة
التعليمية والتربوية وانسقها
المعرفية والفكرية.
المجتمعات الإنسانية بصورة عامة بتحولات ضخمة ومتسارعة ذات
تأثير عميق في بنى الوعي وأنماط التفكير وأنساق المعرفة ومناهج التثاقف وطرائق التعليم
وأساليب الاتصال والتفاعل والتعامل. وبسبب التأثيرات المتزايدة للمنجزات التقنية والتكنولوجية
والعلمية والإلكترونية والتنظيمية والمؤسسية وغيرها تواجه الأنظمة التعليمية والتربوية
وأنسقها
المعرفية وأطرها الفكرية وفلسفاتها التوجيهية تحديات ضخمة وعميقة. والعولمة كتحدي من
التحديات التي تواجهها الأمة تضع بمدها المتعاظم النظم التربوية العربية والإسلامية
في عمق التحدي الصارم. والعولمة الإيديولوجية القائمة ما فتئت تثير التساؤلات الكبرى
عن روح النظم التربوية الإسلامية وجوهرها ومقاصدها وقيمها الحضارية الإنسانية. ومن
هنا فإن النظم التربوية في البلاد الإسلامية ينبغي أن تضطلع بمهمة التوجيه الحضاري
الإنساني للعولمة حتى تتحول إلى كسب حضاري إنساني لفائدة الإنسان عموما. وبحكم الدور
الحضاري المنوط بالمنطقة العربية والإسلامية، فإن مسألة التعليم والمعلم والتربية تقف
في مقدمة أولويات المرحلة الحالية لتطورنا. ولكي نستوعب ونتجاوز وضع الاختلال والفوضى
والارتباك الذي يمكن أن تحدثه المعلوماتية والعولمة –غير الموجهة- في مسار وعينا وتحضرنا
ونظمنا التربوية والتعليمية والتثقيفية ينبغي أن ندرك أن رسالة المعلم أو الأستاذ أصبحت
اليوم أكثر من أي وقت مضى ذات أبعاد حضارية مصيرية شاملة. وبالتالي فإعادة النظر في
الأدوار الحضارية للمعلم أمسى من الواجبات الكبرى للقيادات التعليمية والتربوية والاجتماعية
والسياسية بصورة عامة. ولما كان الأمر بهذه الصورة والتعقيد، ولما كان للعولمة والمعلوماتية
أبعاد حضارية وكونية تطلب الأمر إعادة النظر في فلسفة التعليم ومراجعتها بصورة نعيد
فيها تأكيد الأصالة الذاتية لأمتنا وثقافتنا، كما نستوعب فيها المنجزات الضخمة في مناهج
وأساليب وتقنيات التعليم والتربية والاتصال والإدارة والتوجيه والتسيير الحديثة. ولكي
نناقش إشكالية الأدوار الحضارية الجديدة للمعلم ودواعي التجديد في فلسفة التعليم قسمنا
البحث إلى: مدخل عام يتضمن: الإطار المنهجي العام لدراسة دور المعلم وفلسفة التعليم
في ضوء العولمة والمعلوماتية الحديثة. أولا: من دواعي تجديد فلسفة التعليم والدور الحضاري
للمعلم . ثانيا: الأدوار الحضارية للمعلم الشروط والآفاق.
مدخل عام: : من أجل تأطير منهج إشكالية البحث :مما لا شك
فيه أن للتعليم دورا فاعلا في حياة المجتمع بصورة عامة. إذ يعد التعليم بمؤسساته
المتعددة بمثابة الإطار الحيوي الذي تتخلق فيه مضغ الوعي، وتنضج فيه مفاهيم
الإنسان حول ذاته ورسالته، وتتشكل فيه أجنة النشاط الحضاري والتنمية العمرانية
الشاملة التي يمارس فيها الفرد دورا حيويا فاعلا باعتباره يعيش ضمن جماعة لها
وظيفة تاريخية هي في الأساس بناء هذا الإنسان الصالح كفرد وجماعة ودولة ومجتمع
وأمة وحضارة متميزة. وقد دلنا تاريخ الاجتماع البشري منذ زمن طويل وبصورة خاصة في
ظل الاجتماع العربي الإسلامي الأول والاجتماع الغربي المعاصر لما للتعليم من دور
أساسي يتصل مباشرة بالفعل الحضاري للإنسان، وإنجازاته ذات التأثير التاريخي
العالمي.
والتعليم اليوم وفي ظل سيادة مفاهيم العولمة، والمعلوماتية والتكنولوجية، ومفاهيم
مجتمع المعرفة، واقتصاد المعرفة، وسياسة المعرفة، وثقافة المعرفة، وحضارة المعرفة،
وإعلام المعرفة، وحرب المعرفة، ووعي المعرفة... قد تجاوز بدوره ووظيفته حدوده التقليدية
وأدواره التاريخية التي تداولتها المجتمعات لقرون من الزمان. وعندما نتحدث عن التعليم
اليوم فإننا ندرج فيه بالإضافة إلى التعليم المدرسي الأكاديمي بكل مستوياته، والتعليم
الثقافي العام بكل مستوياته، والتعليم الاجتماعي بكل مستوياته، والتعليم الأسري بكل
مستوياته، والتعليم الإعلامي. ندرج كذلك التعليم التكنولوجي والإلكتروني بكل أنواعه
الجديدة مثل التعليم عبر الانترنيت، والتعليم عن بعد والتعليم المفتوح وغيره. ,التعليم
هنا أصبح أكثر اتصالا والتصاقا بحياة الإنسان والحضارة معا.
ومن هنا فالتعليم اليوم ليس مجرد أداة بسيطة لنقل المعلومات إلى الآخرين، وليس
مجرد إطار ترسخ فيه قيم الولاء والوطنية والاعتزاز بالتراث والذات والتفاعل مع الغير،
وليس فقط مجرد نظام يتم بموجبه تأهيل أفراد ليحصلوا على شهادات ومعلومات تمكنهم من
شغل مناصب وممارسة أدوار معينة داخل المجتمع، وليس كذلك مجرد عمل يقوم به نظام تعليمي
يحتوي على إدارات وأساتذة وطلبة ومناهج ومعارف وكتب ووسائل ومناخ تعليمي مناسب من أجل
تخريج مهنيين أو مهندسين أو أطباء أو أساتذة وغيرهم ..ولكن التعليم اليوم بالإضافة
إلى كل ما سبق أصبح هو غريزة عصر المعلوماتية والعولمة، إذ بدونه يفقد المجتمع دوره
ورسالته ووظيفته. فعلى سبيل المثال يعد التعليم في الدول المتقدمة مثل الولايات المتحدة
واليابان وأوربا بمثابة القوة الضاربة التي بها تتجسد وتتأكد باستمرار القوة العسكرية
والتقنية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والفكرية والحضارية والتكنولوجية والمعلوماتية
لهذه الدول. وعليه أصبح للتعليم ومؤسساته الدنيا
والوسيطة والعليا، والرسمية والشعبية، والعامة والخاصة موقعا راسخا في إدارة حركة الاجتماع
الحضاري للمجتمعات؛ حيث وصلت بعض المجتمعات المتقدمة إلى مستويات من النضج التعليمي
أصبح بموجبه النظام التعليمي هو مركز الفاعلية الحضارية، وأصبح لميزانية التعليم أوفر
الأقساط في كل حسابات المجتمع. كما أصبح الاستثمار التعليمي من أنجع وأفيد الاستثمارات
في المجتمعات ذات الوعي التعليمي الحضاري المتقدم.
وبحكم طبيعة العصر والمرحلة التاريخية التي تجتازها المجتمعات الإنسانية، وبحكم
غلبة منطق العولمة والمعلوماتية فإن التعليم أصبح يتأثر كثيرا بما يحدث في عالم السياسة
والعلاقات الدولية والصراعات بين الأمم والمجتمعات، وفي عالم الاقتصاد وعالم الأفكار
والمعارف الحديثة وعالم مناهج الفكر والمعرفة والعلم. ومن هنا فمسألة إعادة النظر في
دور المعلم وموضوع فلسفة التعليم أصبح من المهام الكبرى التي ينبغي أن يضطلع بها أبناء
المجتمعات على اختلاف ثقافاتهم وأديانهم. ولكن إعادة المراجعة لمفاهيم التعليم ولدور
المعلم ولفلسفة التعليم ليست عملا اعتباطيا ارتجاليا عابرا، وليست مجرد عمل فكري مفروض
من الخارج، ولكن وفي الأساس ينبغي أن يكون نوعا من النضج والتطور الطبيعي لوعي المجتمع
ولمؤسساته التربوية والتعليمية؛ بحيث تبرز داخل المجتمع، وفي هرم خبرته، وفي سقف وعيه
الحاجة الملحة لإجراء التغيير المطلوب. ذلك لأن أي تغيير أو مراجعة لدور المعلم ولفلسفة
التعليم تحت ضغط المؤثرات الخارجية غير الحقيقية، وتحت تأثير الموضة التي تجتاح كل
أنساق الحياة والوعي المعاصر وتفرض عليه نماذج وعي جديدة مستوردة، فإن ذلك التجديد
يعد نوعا من الانتحار لهذه النظم التعليمية التي تتأثر بردود الأفعال أكثر ما تكون
هي ذاتها رائدة حركة تغييرها وتجديدها. ومن هذا المنطلق ينبغي لنا أن نراعي التطورات
الداخلية والخارجية، وكذلك العوامل السياسية والثقافية والاجتماعية والنفسية والعلمية
والتقنية التي تفرض شروطا جديدة على التعليم المعاصر وبالتالي على المعلم وفلسفة التعليم.
إن أي دراسة للوضع الذي تمر به الأنظمة التربوية والتعليمية في العديد من البلدان
الإسلامية ينبغي أن يكون موضوعيا ومتوازنا حتى لا تطغى عليه النزعة النقدية السلبية
المفرطة التي تصف كل هذه النظم بالعقم والتخلف وأنها السبب الأساسي لمعظم مشكلات الأمة،
وكذلك ينبغي تجنب النزعة التبريرية التي لا ترى أي مشكلة في النظم التعليمية والتربوية،
وأنها على أحسن حال وعلى ما يرام. فالمسألة أكثر بكثير من الإفراط والتفريط وتتصل مباشرة
بالنظرة الحضارية الشمولية الموضوعية التي تعمل على تنمية وتطوير الإيجابيات، وتسعى
جاهدة لمعرفة السلبيات ومعالجتها بالطرق العلمية الرصينة. فمما لاشك فيه أن المؤسسات
التعليمية والتربوية في الكثير من البلدان الإسلامية تؤدي دورا متميزا في التنمية والتوجيه
العام لحركة التحضر داخل هذه المجتمعات، ولكن هناك بعض النقائص والمشكلات على مستوى
الرؤية التعليمية وفلسفة التعليم والأهداف التعليمية والأدوار الأساسية للمعلم وللمؤسسات
التعليمية عموما، وكذلك في القدرة على التوجيه الجيد للمقدرات البشرية والسائلية والتقنية وغيرها من المشكلات. إلا أن الكثير
من المجتمعات الإسلامية لها القدرة الفنية والمعرفية والسائلية الكفيلة بمعالجة معظم
هذه المشكلات، ويبقى الأمر كله منوط بوجود الرؤية التعليمية الاستراتيجية، والإرادة
البشرية المصممة على الإبداع، وفي التوجيه العلمي المنهجي للنظم التعليمية لكي تساهم
بقوة في التنمية الحضارية للمجتمعات الإسلامية. وفي الورقة الحالية محاولة متواضعة
لتسليط بعض الأضواء على بعض القضايا المهمة على طريق تجديد فلسفة التعليم وتحديد الأدوار
الجديد للمعلم.
ومن أجل معالجة موضوعية للدور الحضاري للمعلم وضرورة التجديد في فلسفة التعليم
قسمت الورقة إلى مبحثين هما:
-
من دواعي تجديد
فلسفة التعليم والدور الحضاري للمعلم.
-
الأدوار الحضارية
للمعلم الشروط والآفاق.
أولا: من دواعي تجديد فلسفة التعليم والدور الحضاري
للمعلم :
في الحقيقة
هناك دواعي كثيرة[1] وظروف متنوعة تستدعي إثارة السؤال حول مسألة دور المعلم وضرورة
التجديد في فلسفة التعليم. فالمجتمعات العربية خصوصا والمجتمعات الإسلامية عموما تمر
بظروف وأوضاع استثنائية متميزة وخطيرة. وهناك أوضاع جديدة تستدعي إعادة النظر في كثير
من الأمور بما فيها مسألة التعليم عموما. وقد وصف لنا أحد الباحثين بعض الدواعي التي
تدعو إلى ضرورة المراجعة بقوله: "عجز الإنسان الذي تخرجه هذه المؤسسات عن التفاعل
مع أبناء مجتمعه والإسهام في حشد الطاقات لصالح الجميع...عجز الإنسان الذي تخرجه هذه
المؤسسات عن تحديد هويته بين بني الإنسان. ولذلك ما زال المتسلط أو المستعمر الخارجي
يحدد له هوية أو جنسية إقليمية أو قبلية أو طائفية أو قومية انطلاقا من أهداف هذا المستعمر
في السيطرة والهيمنة والتصرف بالمقدرات. عجز الإنسان الذي تخرجه هذه المؤسسات عن تحديد
منهاج حياته في ضوء المتغيرات المعاصرة التي تؤثر في واقعه. فهو مازال يستورد مناهج
الحياة كما يستورد أدوات الحياة ووسائلها ومئونتها. عجز الإنسان الذي تخرجه المؤسسات
التربوية المذكورة عن التفاعل مع ماضيه وتراثه –أي دراسته وهضمه وتطوير ما كان إيجابيا
مفيدا في حاضره، واتقاء ما كان سلبيا معوقا لحركته. عجز الإنسان الذي تخرجه المؤسسات
التربوية عن التفاعل مع بيئته الطبيعية واستخراج كنوزها وتسخير مواردها لصنع الوسائل
التي يحتاجها في حاضره والطور الذي يعاصره.."[2] فإذا كان هذا الوضع صحيح- ولو بصورة نسبية وبدون مبالغة مجحفة
وبعيدا عن كل أنواع التعميم المفرط- فإن هناك دواعي أخرى ذات قيمة وينبغي اعتبارها
وهي: 1) تأثير تيار العولمة ومده المتعاظم على كافة مناحي وأوجه النشاط الإنساني في
البلدان الإسلامية بصورة خاصة، 2) الإنجازات الحضارية الضخمة والنوعية في ميدان المعلوماتية
والتكنولوجية والعلوم، 3) مرحلة التطور الحالي للمجتمعات العربية والإسلامية وضرورة
تبني المنظور الحضاري في التعليم. وفيما يأتي شرح مختصر لأهمية هذه العوامل.
1طبيعة العولمة وضرورة تفعيل
التعليم حضاريا :
حقيقة تواجه معظم المجتمعات الإنسانية حالة استنفار قصوى بسبب ما أحدثته وتحدثه
العولمة من هزات عنيفة تطال العديد من أسس وقيم الاجتماع البشري المعتادة. فالملاحظ
على حركة العولمة وعملياتها السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية أنها حركة
تكاد تكون موجهة بصورة تخدم مصالح النموذج الحضاري الذي دفع بها إلى العالم وأراد لها
أن تكون انتصارا للحرية والديمقراطية والليبرالية وقيم الاقتصاد الحر على وفق النسق
الغربي ذاته. والتعليم في البلدان العربية على سبيل الخصوص يواجه وسيواجه في المستقبل
القريب والبعيد أعنف الصدمات التي ستتلاحق مع تعاظم مد العولمة وتكاثف جهوده باتجاه
تغيير أنظمة التعليم التي لا تتماشى وقيم الحداثة الغربية أو تقف حاجز عثرة في طريقها
ومن هنا فقبل أن يتحدد موقع ودور المعلم في ظل هذا الخضم العارم من التحديات التي ستجلبها
العولمة ينبغي لنا أولا أن ندرك طبائع هذه العولمة ونحدد مديات تأثيرها في نظم التعليم
العربية والإسلامية لكي نتمكن من تحديد طبيعة ونوعية الاستجابة المناسبة.
في البداية نحاول أن نحدد باختصار حقيقة العولمة وطبيعتها ثم نعرج على صلة مسألة
التعليم والمعلم بالعولمة. فكما هو معلوم فإن هناك تعاريف كثيرة للعولمة وأن هناك مقاربات
كثيرة لتناولها ومعالجتها. ويمكننا أن نلاحظ على الأقل خمسة مداخل كبرى لتناول العولمة
يشتمل كل مدخل على آراء ومواقف ومعالجات. ولو أننا أردنا تصنيف التصورات الغربية لظاهرة
العولمة لوجدنا مجموعة مداخل أهمها:
أولا) مدخل العولمة بمعنى التكاثف والتسارع في العلاقات الدولية Internationalisation وهنا ينظر إلى العولمة على اعتبار
أنها وصف أخر لمفهوم العلاقات الدولية بين الدول، وتعني بصورة خاصة الزيادة الملحوظة
في تبادل العلاقات الدولية وتعاضدها وتكاثفها وتسارعها بصورة متشابكة ومتداخلة يتعذر
فيها الفصل والعزل لهذه الدول عن بعضها البعض باعتبارها وحدات مستقلة للتحليل كما كان
الأمر في الزمن الماضي. وفي هذا السياق يرى بعض الباحثين في العولمة أن " حجم
ونمو حركة التجارة واستثمارات رؤوس الأموال بين الدول"[3] هي التعبير المحسس عن العولمة
الحالية. كذلك الحركة المتسارعة والواسعة للأشخاص والأفكار والرسائل هي التعبير الآخر
عن هذه العولمة. وبهذه الصورة تتزايد وتتكاثف وتتسارع حركة الاتصالات والعلاقات بين
الدول بشكل يجعل صلتها وعلاقاتها متقربا مما يمكن تسميته بالعولمة هنا.
ثانيا) مدخل
العولمة بمعنى الخصخصة الرأسمالية Liberalisation وهنا يُنظر إلى
ظاهرة العولمة على أنها تلك العملية المنهجية المنظمة التي تعمل من أجل رفع
القوانين والحواجز والعوائق التي تضعها الدول على حركة الأشياء والأشخاص والأفكار
وذلك من أجل الوصول إلى واقع اتصالي وتعاملي مفتوح وخالي من الحدود والإجراءات
والقوانين التي تعيق النشاط الاقتصادي وحركة الأموال والسلع والخدمات. وهذا الذي يعبر
عنه بعض المشتغلين بالعولمة بعملية البحث عن التكامل الاقتصادي العالمي.[4]
ومن تجليات هذه
النزعة في النظر إلى ظاهرة العولمة هو التقليص من القوانين والإجراءات التي تحد من
التجارة والنشاط الاقتصادي والمالي العالمي وكذلك التقليص من الضغوط والقوانين
المفروضة على تأشيرات دخول السلع والأشخاص بين الدول.
ثالثا) مدخل العولمة بمعنى العالمية Universalisation ويرى أصحاب هذه المقولة أن العولمة
تعني بشكل خاص العالمية. يقول جون آرت سكولت "عندما حاول أولي فر ودايفس في
الأربعينيات من هذا القرن نحت الفعل (Globalise) قدما له تعريفا
يقترب من معنى العالمية وتوقعا أن يكون هناك تركيب عالمي للثقافات فيما سمي آنذاك
"بالإنسانية العالمية." ففي هذا الاستعمال لفظة "العولمة" تعني
العالم كله كما تشير إلى عملية نشر ونقل مجموعة من الخبرات والقيم والمفاهيم إلى
كل البشر على وجه الأرض. ومثال ذلك عولمة النظام الغريغوري، وانتشار السيارات في
كل العالم، وانتشار المطاعم الصينية، وظاهرة الاستقلال، ونظم الزراعة وغيرها.[5]
رابعا: مدخل
العولمة بمعنى الغربنة أو الحداثة modernisation وهنا ينظر إلى العولمة على أنها تعني
الأمركة واتباع النمط الغربي في الحياة والاقتصاد والثقافة والاجتماع. اتباعا لهذا
المنطق تبدو العولمة على أنها التعبير المحسس عن ظاهر الحداثة وعملية الأمركة بما
في ذلك مفاهيم وأطروحات الرأسمالية والعقلانية والتصنيع، والبيروقراطية، وأنماط
التسيير الغربية الحديثة وغيرها. فكل هذه القيم والمفاهيم أصبحت شائعة عالميا
ومتداولة على مستوى معولم مما يجعل قيم الحداثة الغربية عالمية الانتشار وهكذا
تعزى ظاهرة العولمة إلى هذا الأصل الغربي الذي تهمين عليه حاليا القيم الحضارية
الأمريكية. وهذه العملية التحديثية على وفق المنطق الغربي الأمريكي تقوم ضرورة
"بتحطيم وتفكيك كل ما هو قائم من الثقافات والقيم المحلية الخاصة بالمجتمع
التي تتم عليها عملية العولمة. وفي هذا السياق كذلك كثيرا ما توصف العولمة على
أنها إمبريالية ماكدو نلادز وهوليود وس. أن. أن"[6]
وقد ذكر مارتن
كوهر أن:" العولمة هي ما يسمى في العالم الثالث لقرون عديدة بالاستعمار."[7]
خامسا) مدخل
العولمة بمعنى تقلص الحدود الجغرافية Deterritorialisation et supraterritorialisation وهنا ينظر إلى العولمة على أنها إعادة
تشكيل للمجالات الجغرافية البشرية ليس على أساس الحدود الجغرافية المعروفة للدول
ولكن على أساس الاتصال والتقارب الذي به يختفي تأثير الحدود الجغرافية والمساحات
الجغرافية والمجالات الجغرافية. وفي هذا المقام يمكن القول أن العولمة تعني: العملية
أو العمليات التي يتم بموجبها إحداث تحولات جوهرية في المجال الجغرافي والمكاني
بصورة تعيد عملية التنظيم الجغرافي والمكاني للعلاقات الإنسانية والتعاملات بين
الأمم والمجتمعات.[8]
فالعولمة إذن
إما أن تعبر عن النزعة الدولية في العلاقات بين الدول والثقافات الدولية أو
العالمية أو الأمركة أو الخصخصة أو الاستعمار الجديد تحت مسميات مغايرة أو تلاشي
الحدود الجغرافية باتجاه تكثيف وتسريع انتقال واتصال وتفاعل وتبادل الأفكار
والأشخاص والأشياء بصورة معينة. ومهما يكن الأمر فإن كل هذه التحولات تؤدي إلى أحداث
واقع إنساني جديد يتسم ب: 1) انفتاح مجالات الثقافات البشرية على بعضها البعض سواء
بصورة إيجابية أو سلبية، 2) تلاقي الأديان والأجناس على خطوط التدافع الحضاري، 3)
انتقال الأفكار والأشخاص والأشياء والسلع والخدمات وتداولها عالميا، 4) تسارع
انتقال المعلومات وزيادة حركة الاتصال مما يزيد في سرعة نقل القيم والثقافات داخل
مدارات المجتمعات المختلفة، 5) انتقال قيم ومفاهيم ونماذج وأنساق المجتمعات
المتحضرة من مراكزها الأصلية إلى عالم الثقافات والقيم الأخرى مما يحدث الصراع بين
الوافد والأصيل، 6) تكريس فلسفات وأنماط التعليم الغربية المتغلبة حضاريا على
فلسفات وقيم المجتمعات المتخلفة حضاريا، 7) نقل القيم الحياتية والثقافية بصورة
متسارعة ومتكاثفة مما يؤدي إلى ذوبان الشخصية التابعة والضعيفة، 8) اصطدام الإنسان
المتخلف بثقافته المتخلفة مع قيم واقع حضاري مغاير وغلاب في حركته وأهدافه ومسيرته
مما يضع بعض المجتمعات في أوضاع المواجهة غير المتكافئة أو الاضطرار إلى الانصياع
وبالتالي فقدان الكثير من المقومات الأساسية، 9) إحياء القوميات الدينية والثقافية
كوسيلة من وسائل المقاومة والاستجابة للتحدي، 10) نشر مفاهيم ومنطق الصراع
والمواجهة كأسلوب لتكريس مقولات العولمة بكل أنواعها، 11) إن هذا الواقع الجديد
يؤدي إلى عولمة الأمراض والجرائم والمشكلات البيئية والصحية وغيرها، 12) إن هذا
الواقع الجديد يؤدي على نشر قيم التحرر الخاصة بالمرأة والديمقراطية وحقوق الإنسان
وغيرها على وفق النموذج الغالب اليوم، 13) انتشار ثقافة الاستهلاك والترفيه
والتسلية اللهية في كثير من المجتمعات.
فإذا كان هذا
هو الوضع بصورة عامة فإن هذا لا يمنع من القول أن العولمة تخلق فرصا مهمة جدا
للتحضر والتقدم لكثير من المجتمعات الواعية والذكية والتي تمتلك القدرة على
التفاعل والتعامل بصورة متكافئة وبناءة. فالمجتمعات الذكية تستطيع أن تستفيد بصورة
فعالة جدا من العولمة وتتجنب أكبر قدر ممكن من تأثيراتها السلبية القاتلة. ومن هنا
تأتي أهمية التعليم ودور المعلم. فالنظام التعليمي ينبغي أن يكون مستوعبا لكل هذه
التحولات التي تأخذ حيزها في واقعنا بالصورة التي تتيح له تفعيل إمكاناته وقدراته
البشرية والفكرية والمادية في خدمة التنمية الشاملة للمجتمع دون التأثر القاتل
بالعولمة وتحدياتها. فالنظام التعليمي الذي يعيش في عصر العولمة ينبغي أن يكون
بالقدر الكافي من الحساسية والفاعلية بحيث يستطيع أن يغرس في وعي مؤسساته وأفراده
القيم والمهارات والخبرات والوعي اللازم لفهم العولمة والاستفادة من إمكاناتها
ووسائلها وخبراتها. وعلى هذا الأساس فإن أي تغيير أو تجديد في فلسفة التعليم وفي
دور المعلم ورسالته ينبغي أن يكون على وعي تام بطبيعة وحقيقة وتحديات الواقع المعولم
الذي تتكرس فيه مركزية النمط الغربي بصورة أو بأخرى.
وعلى هذا الأساس
فإن أول عمل ينبغي القيام به من أجل الاستفادة من العولمة[9]
بصورة مناسبة
ولائقة هو تفعيل التعليم حضاريا أي البحث في الرسالة الحضارية الكبرى للتعليم ليس
فقط من أجل تخريج المعلمين والمهنيين الذين نحتاج إليهم في المجتمع ولكن بصورة
أساسية من أجل تشكيل الثقافة الحضارية والشخصية الحضارية التي تستطيع أن تفهم
تحولات العالم الكبرى وتساهم في إثراء المسيرة الإنسانية بالإنجازات والأفكار
والرجال والعلماء والمؤسسات القادرة على المشاركة الفاعلة في معالجة مشكلات
الحضارة المعاصرة وليس الاكتفاء بالإغلاق والدوران حول الذات في عالم معولم.
فالرسالة الحضارية للتعليم هي بالدرجة الأولى تشكيل هذه الثقافة الحضارية وتخريج
هذا الفرد الحضاري القادر على تكسير قيود التخلف والانعزال والانطواء والارتجال
والفوضى والكسل وخلق شروط التحضر والتفاعل والانفتاح والتخطيط والتنظيم والاجتهاد
والجد من أجل المشاركة في التنمية الحضارية المعاصرة.
إننا ينبغي أولا وقبل كل شيء أن نفك القيود التي
تجعل من التعليم عملا روتينيا رتيبا قاتلا وقد تجعله في بعض المجتمعات العربية من
أسوء وأتفه وأفقر المهن..ونعيد ثقة المجتمع بالتعليم باعتباره أكبر وأخطر الوسائل
المعاصرة تأثيرا في صناعة الفكر والتقنية والتكنولوجية والقوة. ولن يتم لنا هذا
الأمر إلا بإعادة النظر في دور المعلم ونقل ذلك الدور من مجرد نقل المعلومات
وتلقين الدروس وتعليم المهارات والخبرات إلى الدور الحضاري المتفاعل والدور
التربوي الذي ننقل فيه ثقافة وشخصية وإطارا أخلاقيا ونمطا سلوكيا أي إلى أداء دور
المربي والمرشد والموجه بما تعنيه هذه الكلمات من قيم وفضائل وأخلاق وسلوكيات
وأفعال وأعمال وتنوير وصياغة للشخصية المتفاعلة حضاريا.
2) المعلوماتية الحديثة
ومسألة تجديد التعليم :
إذا كانت
العولمة مسألة مهمة وضرورية عند التفكير في إعادة النظر في فلسفة التعليم ودور
المعلم فإن الاهتمام بالمعلوماتية الحديثة وما أحدثته من تغيير جذرية في طرائق
الأداء وأساليب التعليم والاتصال أمر ضروري كذلك. فالإنجازات النوعية التي تحققت
في عالم المعلوماتية أدخلت تطويرات مهمة جدا وخاصة كيفيات وأدوات ووسائل الممارسة
والفعل. مما سمح بتفعيل الأداء والانجاز وإتقانه وتسريعه وتنوعيه وجعله أكثر
جاذبية وتأثيرا. والتعليم من المؤسسات التي استفادت كثيرا وخاصة في الدول المتقدمة
من المعلوماتية الحديثة وتقنيات الأداء والانجاز وطرائق الإدارة والتخطيط والتنظيم
الحديثة. وقد أدخلت مفاهيم جديدة على الواقع التعليمي مثل التعليم عن بعد والتعليم
المستمر شبكيا، وتدويل التعليم، والمدرسة المركبة، وإدارة المعرفة، والتربية من
أجل الأزمات والتربية من أجل المستقبل، والتربية البيئية، وكذلك التعليم المعولم
وغيرها. ولما كان لكل هذه التحولات والتغيرات والانجازات أثر بالغ في فلسفة
التعليم وفي تحديد طبيعة الرسالة والدور والوظيفة المنوطة بالمعلم في عصر
المعلوماتية والعولمة فإن سؤالا أساسيا يثور أمامنا وهو هل يكفي أن نعتمد على
المفهوم التقليدي لدور المعلم لتحقيق هذا الدور في عصر العولمة والمعلوماتية؟
وبعبارة أخرى هل يكفي التكوين القديم الذي نقدمه للمعلم سواء في تكوينه المعرفي أو
السلوكي أو الروحي أو المهارى أو الخبراتي لكي يؤدي الأدوار الجديدة التي ستناط به
في ظل نظام تعليمي معولم؟ وهل فلسفة التعليم القائمة منذ عقود ستتماشى وتتناسب مع
طبيعة الدور الجديد للمعلم في عصر العولمة والمعلوماتية المعقدة؟
3) ضرورة المنظور
الحضاري في تجديد فلسفة التعليم العربي الإسلامي :
من أخطر
الأزمات التي كثيرا ما تواجه نظم التعليم العربية والإسلامية المعاصرة غياب الرؤية
الحضارية الكلية الشمولية لقضايا التعليم والمعلم والتربية وغيرها. بحيث أصبحت
قضية التعليم وكأنها معزولة في جزيرة بعيدة عن مختلف قضايا المجتمع الاستراتيجية
والحيوية وأصبح المعلم نفسه وكأنه معزول في جزيرة التعليم بعيدا عن مجريات الأحداث
العالمية والتاريخية والحضارية الكبرى. وفلسفة التعليم[10]
في كثير من
البلدان العربية والإسلامية تعاني من الفصام بين ما هو ديني وما هو مدني من العلوم
والمعارف، كما تعاني من مناهج وفلسفات المعرفة الوضعية والمادية التي غزت عالم
التعليم وخاصة الجامعي. فمختلف التخصصات وخاصة في العلوم الإنسانية والسلوكية
والاجتماعية تعاني من أزمات معرفية منهجية بسبب غياب الأصالة الذاتية فيها وصدورها
عن رؤى كونية مغايرة للرؤى الكونية العربية الإسلامية، وإنتاجها في واقع وظروف
مغايرة لما يعيشه الإنسان العربي المسلم في أغلب الحالات. ففرض هذا النوع من
النظام المعرفي ومن المنهج العلمي المعرفي يؤدي في كثير من الأحوال إلى تعميق
الهوة بين المعرفة والواقع وبين المعلم والمتعلم وواقع الحياة العملية للناس.
ومن هذا
المنطلق فالأمر يتطلب تطوير منظور حضاري عربي إسلامي للممارسة المعرفية والتعليمية
يسمح بإنتاج معارف ونظريات تتناسب ووعي الأمة ومرحلة تطورها وظروفها وواقعها
الراهن، كما تأكد أصالة هذه الأمة وذاتيتها.
وينبغي لهذا
المنظور الحضاري في التعليم أن يراعي ضرورة
1) التأكيد على القيم والمنطلقات الأساسية للتعليم التي ينبغي أن لا تتعارض
وقيم المجتمع ودينه وثقافته وتراثه وتاريخه، 2) التأكيد على ضرورة الإحاطة والإلمام
بالإنجاز العلمي والتقني والتكنولوجي الحاصل في واقع التعليم المعاصر ومحاولة
الاستفادة منه بالصورة المثلى، 3) التأكيد على ضرورة الوعي الواضح بأحوال المجتمع
ومرحلة تطوره ونوعية المشكلات والتحديات التي يعيشها والإمكانات التي يتوفر عليها
والصعوبات التي يواجهها وطبيعة التوازنات التي تحكمه وطبيعة الحساسيات الثقافية
والدينية والفكرية والاجتماعية التي تشكل جزءا من نسيجه الاجتماعي، 4) التأكيد على
ضرورة النظرة الكلية الحضارية الشمولية إلى الأمور بعيدا عن النظرة التجزيئية
والانتقائية والعاطفية لكي نتمكن من رؤية الصورة التكاملية للنظام التعليمي ونتعرف
على مختلف العوامل والأسباب التي تتحكم في مسيرته، 5) أن نتعرف على حال النظام
التعليمي وعلى أوضاع المعلم من واقعه ومن شروط عمله اليومية ومن تكوينه الحالي ومن
قدراته وخبراته ومهاراته الحالية ثم نضع المخططات اللازمة لنقله من وضع أو أخر ومن
مستوى إلى أخرى في سلم ترقيته وتأهيليه لكي يستوعب رسالته ودوره في عصر العولمة والمعلوماتية
بما يتطلبه ذلك من ضرورة امتلاك خبرات ومهارات وذهنية وثقافة جديدة متفاعلة.
ما ينبغي
للمنظور الحضاري في التعليم أن يركز على ضرورة أن يساهم التعليم بفلسفته الحضارية
في:
-
مساهمة التعليم
في رفع وعي الفرد وفهمه إلى مستوى الأحداث العالمية.
-
مساهمة التعليم
في إعادة ترتيب وتنظيم وعي الفرد ومعارفه وقدراته بصورة متناسقة ومنظمة.
-
مساهمة التعليم
في توجيه وترشيد موقف الفرد وسلوكياته بصورة أصيلة وفعالة.
-
مساهمة التعليم
في إعادة صياغة الصلة بين الفرد ونموذجه الكوني وتاريخه وتراثه وذاته.
-
مساهمة التعليم
في إعادة التوتر والفاعلية لحركة الفرد وترسيخ قيم العطاء والبذل والإبداع.
-
مساهمة التعليم
في إعادة تنظيم النظام المعرفي للفرد حتى تستقيم اجتهاداته وأفكاره.
-
مساهمة التعليم
في إعادة تنظيم وترتيب النظام الثقافي للفرد بالصورة التي تمكنه من تحقيق معاني وقيم
نمط حياته وطرائق سلوكه وأبنية علاقاته مع الذات والآخر.
-
مساهمة التعليم
في خلق الفرد المتعلم المتمتع باللحمة المنهجية اللازمة للتعامل مع الأحداث والوقائع
والمشكلات على وفق منهج واضح القواعد والأسس والخطوات والإجراءات والوسائل والأساليب
والأدوات.
-
مساهمة التعليم
في إعادة ترتيب سلم القيم داخل عقل الفرد وفي نظام الثقافة السائدة؛ بحيث تترتب القيم
حسب أهميتها وأولويتها فيفرق بين القيم النظرية والقيم العملية وبين القيم التعبدية
والروحية والأخلاقية والقيم الفعلية والسلوكية والاجتماعية.
-
مساهمة التعليم
في إعادة شحذ الفعالية الروحية والفكرية والاجتماعية والثقافية والأخلاقية والسلوكية
للفرد والجماعة.
-
مساهمة التعليم
في خلق النظام الاجتماعي اللازم لتحقيق الفاعلية الحضارية داخل مؤسسات المجتمع وتوجيهها
لخدمة العقد الاجتماعي للمجتمع.
-
تعليم وتربية
الفرد والجماعة على قيم رسالية وتاريخية تحقق له كينونته التاريخية وتتيح له إمكانيات
الإسهام في التطور الحضاري الذاتي للمجتمع وفي الإسهام الحضاري في تطور الحضارة الإنسانية
عموما.
-
ضرورة مساهمة
التعليم في تحديد الأدوار الاجتماعية الحقيقية لمختلف طبقات المجتمع من ساسة وعلماء
ومثقفين وحرفيين ومهنيين ورعايا وغيرهم.
-
إعادة النظر
في ضرورة إسهام التعليم في عملية ترتيب وتنظيم قيم الأسرة وشبكة علاقات الأسرة مع أفرادها
ومع النظام الاجتماعي العام.
-
ضرورة مساهمة
التعليم[11] في ضبط الصلة بين الفرد ودينه
وتراثه وتاريخه وحضارته وواقعه وحاضره ومستقبله.
ــ ضرورة توجيه التعليم لكي يساهم
في تشكيل الثقافة التي تتصف بالتسامح والسلام والأمن والاستقرار والمشاركة الجماعية
في حمل هموم المجتمع والقيام بالواجبات وغيرها من القيم.
إذن عند إعادة النظر في دور المعلم وفي فلسفة
التعليم ينبغي أن يكون الإطار النظري الذي ننطلق منه مستوعبا لكل المعطيات وواعيا
على كل العوامل والمؤثرات الداخلية والخارجية التي تتحكم في مسيرة الأشياء
ومنطقها. فالأمر ليس مجرد بحث عن التغيير والتجديد باعتباره موضة جديدة تغزو
الأسواق والعقول ولكن إحداث التجديد والتفعيل باعتباره نموا طبيعيا ضروريا لتفعيل
فلسفة التعليم ولتدعيم الدور الحضاري للمعلم لكي يرقى إلى مستوى الأحداث الإنسانية
ليس فقط في معلوماته ومهاراته وخبراته وأدواته ووسائله ولكن وبالدرجة الأولى في
ذهنيته ووعيه وثقافته وشخصيته ورسالته. ذلك لأن أي تجديد في التقنيات والمهارات
والأدوات والوسائل والتكنولوجيات ينبغي أن يسنده تجديد في الذهنية والعقلية
والثقافة والشخصية والقيم التي تحكم النظام التعليمي كله من أدناه إلى أعلاه.
ثانيا: الأدوار
الحضارية للمعلم الشروط والآفاق أ- شروط تحديد
الدور الحضاري للمعلم :
قبل تحليل الدور
الحضاري للمعلم وما يقتضيه ذلك من إعادة النظر في الفلسفة التعليمية وفي الأهداف
العامة للعملية التعليمية والتربوية ينبغي التأكيد على أن الحديث عن المعلم ودوره
لا يقتصر فقط عن هذا الفرد أو الشخص أو الإنسان الذي نسميه المعلم والذي له وظيفة
تدريسية وتعليمية متعارف عليها. فالحديث عن دور المعلم يتخذ شكل منظومة متكاملة
ومركبة يتحدد بموجبها هذا الدور في إطار كلي شمولي تتدخل فيه عوامل كثيرة وعناصر
متعددة؛ إذا ما نقص منها عنصر أو اختل ارتبكت كامل المنظومة وفقدت تناسقها
وفاعليتها، وبالتالي يفقد المعلم الدور الحضاري الحيوي ويتحول من دور حضاري فاعل
إلى مجرد عمل روتيني رتيب قاتل كما هو معروف في كثير من البلدان. ومنظومة الدور
الحضاري للمعلم لا تتحدد فقط بالمعلم وتكوينه وخبراته ومهاراته وقدراته وفنون
أدائه وأساليب عمله، ولكن بمجموعة عوامل وأدوار أخرى أساسية أهمها:
2-) العوامل
والشروط والأدوار المتعلقة بالمتعلم نفسه :كمتعلم أولا وكناقل لذلك العلم
والمعرفة ثانيا وكعضو فاعل في المجتمع ثالثا وكصاحب دور معين رابعا: فالمتعلم
باعتباره الهدف الأولي للفعل التعليمي ووسيلته الأساسية لاستمراره والضرورة
اللازمة لمستقبله له دور كبير في تحديد الدور الحضاري للمعلم. فالمتعلمون بكل
أعمارهم ومستوياتهم وتخصصاتهم والأدوار التي يلعبونها عند تخرجهم أو التحاقهم
بمواقعهم في المجتمع يشكلون واحدا من العناصر المهمة لفهم الدور الحضاري للمعلم.
ففي العالم المتقدم أصبح للمتخرجين والمتعلمين الدور الأساسي المحدد لمدى فاعلية
المؤسسات التعليمية وكفاءتها وقدرتها. فالمتعلم أصبح محدد أساسي لفائدة وقدرة
المؤسسة التعليمية على المنافسة داخل المجتمع وفي أسواق التعليم والتوظيف
والاقتصاد التي تستقطب هذه الخبرات والقيادات المتعلمة. وعلى هذا الأساس أصبحت
دراسة سيكولوجية وسوسيولوجية المتعلمين[12]
وأوضاعهم
النفسية والاقتصادية والثقافية والسياسية والفكرية والذهنية من أهم العوامل التي
ينبغي أخذها بعين الاعتبار عند الحديث عن المعلم ودوره، ومدى قدرته على الوصول إلى
هذا المتعلم وإعادة توجيهه وصياغة عقليته وذهنيته وشخصيته. كما أن رأي المتعلم
وتغذيته الراجعة في المعلم، وفي المؤسسة التعليمية، وفي البرنامج التعليمي، وفي
المواد، وفي الكتاب، وفي المقرر، وفي أساليب التوجيه والإشراف والتقويم، وفي نظام
التعليم، وكذلك رأيه في مؤهلاته وقدرته حين التخرج والاندماج في وظيفته أو عمله
وقدرته وفاعليته الأدائية والإنجازية وشخصيته وسلوكه. فكل هذه الأمور أساسية في
تحديد الدور الحضاري للمعلم. ذلك لأن الدور الحضاري للمعلم لا يحدد فقط في داخل
القسم أو في ساحات المؤسسة ولكن يتقرر جزء كبير منه في المجتمع، وفي حياة المتعلم
الذي تخرج من هذه المؤسسات، وحمل نموذج أو صورة أو مثال ذلك التعليم ونوعيته. ومن
هنا ينبغي للقائمين على نظام التعليم أن تكون لهم الدراية الكافية بالمتعلم
وأوضاعه وظروفه النفسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والفكرية والذهنية ليس
فقط حين تواجده في المؤسسات التعليمية فحسب ولكن حال اندماجه في الفعل الاجتماعي.
3ـــ الشروط
والأدوار الخاصة بالمؤسسة التعليمية : ومؤهلاتها وإمكاناتها
وقدراتها وخبراتها وسمعتها وطرائق أدائها وفلسفة تعليمها وأهدافها، وكذلك بنوع
المعارف والأفكار والمعلومات والنظريات والخبرات والمهارات التي تقدمها. فالمؤسسة
التعليمية المؤهلة هي التي تساهم في تأهيل المعلم لأداء دوره الحضاري كما تساعد
المتعلم على التحصيل. والمؤسسة هي في الحقيقة المسؤولة عن خلق الجو والمناخ النفسي
والاجتماعي والثقافي اللازم لنجاح العملية التعليمية، وفي وقتنا الحاضر تطورت
مسالك ومداخل جديدة فعالة في الإدارة والتنظيم والتسيير المبني على مراعاة
سيكولوجية وسوسيولوجية المعلم والمتعلم، وكذلك إدخال أرقى وسائل وتقنيات
وتكنولوجيات الأداء الفاعل المساعدة على تسريع وإتقان وتسهيل عملية التعليم
والتعلم والتفاعل التعليمي.
4-) الشروط
والأدوار الخاصة بالنظام التعليمي داخل مجتمع ما :
فالنظام التعليمي
والتربوي بفلسفته وأهدافه وغاياته ومبرراته ودوافعه وأسسه، ومقوماته يعد من أهم
العوامل المساعدة على تحقيق الدور الحضاري للمعلم. فالنظام التعليمي المبني على
مفاهيم استهلاك المعرفة واستيراد المعرفة والتقليد والاتباع، ويفتقر إلى أسس الإبداع
والاجتهاد والطموح، ولا يقوم على تشجيع البحث الأصيل والإبداع الأصيل، ولا يطمح
إلى تخريج مبدعين ومفكرين مجتهدين..فبطبيعة الحال نظام تعليمي يقوم على هذه المفاهيم
لا يستطيع أن ينتج معلما يستطيع أن يؤدي دورا حضاريا تربويا. فهو ينتج معلمين
وكفى!. فنظم التعليم الراقية هي التي تضع فلسفة تطمح من خلالها إلى تخريج القيادات
والكفاءات والخبرات والقدرات التعليمية الراقية، والقادرة على المنافسة في المستوى
العالمي وعلى كل الأصعدة. هذا من جهة ومن جهة أخرى فإن النظام التعليمي المؤسس على
فلسفة لا يشكل فيها تراث المجتمع وثقافته وتاريخه ورؤيته الكونية حجر الأساس نظام
لا يستطيع أن ينتج معلمين قادرين على الأداء الحضاري التربوي الذي يرتقي إلى مستوى
الإنجازات العالمية الحضارية القائمة.
5ـــ الشروط
والأدوار الخاصة بفلسفة التعليم وأهدافه :
ومما سبق يمكن
القول أن فلسفة التعليم ينبغي أن تتحدد بالصورة التي تتعمق فيها قيم الدور الحضاري
العالمي للمعلم والرسالة التربوية التاريخية التي تناط به. بصورة عامة فإن فلسفة
حضارية للتعليم تستطيع بطبيعة الحال أن تنتج معلما قادرا على أداء دور حضاري أما
فلسفة تعليمية من أجل التعليم والنفع المادي فهي فلسفة لا تستطيع أن تنتج رؤية
حضارية للتعليم. وبطبيعة الحال الخلل الذي يحدث في نطاق فلسفة التعليم وفلسفة
التربية سيؤدي بالضرورة إلى إشكالات داخل منظومة أهداف التعليم وأهداف التربية
وبالتالي التأثير في دور المعلم الذي يدور بطبيعته حول فلسفة وأهداف التعليم. ومن
هنا ينبغي التأكيد على أن فلسفة التعليم[13]
وأهدافه ينبغي
أن تكون ذات أفق حضاري ممتد لكي تخرج معلمين ذوي قدرات حضارية في الفهم والنظر
والأداء والممارسة والإنجاز والتفاعل. وكما يقول أحد الباحثين الذين حاولوا تلخيص
خطورة الأهداف التعليمية والتربوية في تشكيل دور المعلم وتحديد أفق رسالته: "وبسبب
هذا الخلاف في تحديد الأهداف التربوية وتصنيفها تنوعت هذه الأهداف إلى ما لا نهاية
من الآراء. فهناك من يقول إن أهداف التربية يجب أن تتركز حول نمو الفرد معرفيا
وعقليا. بينما يرى آخرون أن أهداف التربية يجب أن تركز على مساعدة المتعلم على
تطوير قدراته إلى أقصى مدى، وفريق ثالث يرى أن الهدف الرئيسي للتربية هو إيجاد
التوازن في شخصية المتعلم. وفريق رابع يرى أن التربية يجب أن تهدف إلى تحقيق
التوازن بين المعارف النظرية والتطبيقات العملية، أو بين الفنون والآداب وبين
العلوم، ويرى فريق خامس التركيز على التفوق في ميادين التخصص. ويرى آخرون أن
الأهداف هي تلبية حاجات المجتمع من خلال إيجاد طبقة عاملة مدربة تتمتع بمستوى
مناسب من التعليم. أو من خلال توفير الجو الملائم للديمقراطية أو الفن أو الثقافة
والأخلاق."[14]
فإذا كان هذا
هو حال المؤسسات التربوية –دون تعميم ولا مبالغة- وهذا هو نوع المنتوج والثمرة
التي تتحصل من جهادنا التعليمي فإن الأمر يحتاج إلى مراجعة شاملة للفلسفة
التعليمية ولدور المعلم.
ومن هنا يمكن
القول أنه لما كانت لفلسفة التعليم ولأهدافه دور حيوي في تحديد دور المعلم وآفاق
وحدود دوره فإن إخفاقنا في صياغة الفلسفة والأهداف المناسبة للمجتمع ولمرحلة تطوره
ووعيه سيؤدي إلى إشكالات خطيرة في مسيرة التعليم وفي دور المعلم ورسالته. وبصورة
عامة فإن كثيرا من الخبراء[15]
في مجال تحديد
أهداف التربية والتعليم يرون أهمية التركيز على الأهداف الآتية للتعليم وهي: تنمية
المهارات الأساسية، تحديد مفهوم ذات الفرد، فهم الآخرين، استعمال المعلومات
المتجمعة لتفسير ما يجري في العالم، التعلم المستمر، السعادة العقلية والنفسية،
المشاركة في عالم الاقتصاد، العضوية الاجتماعية المسؤولة، الإبداع والتعايش مع
التطور.[16]
فعلى أساس مثل
هذه الأهداف تحاول المؤسسات التعليمية وضع المناهج والبرامج الكفيلة بتخريج
المعلمين القادرين على تحقيق هذه الأهداف للتعليم. فالأهداف إذن لها وظيفة أساسية
في تحديد دور المعلم وبها تتحدد كثير من معالم رسالته.
6ـــ الشروط
والأدوار الخاصة بالمجتمع وثقافته وحضارته :
إن دور المعلم
في التعليم وفي المجتمع عموما له صلة بوضع المجتمع والثقافة[17]
والحضارة التي
يمر بها هذا المجتمع. فالمجتمع الذي تشكل فيه العملية التعليمية والوظيفة الحضارية
الرسالية للمعلمين موقعا حيويا وفاعلا يختلف عن المجتمع الذي اهتمامه بالتعليم
والتربية يأتي في مؤخرة اهتماماته وكذلك الحال بالنسبة للمجتمع الذي تكون فيه
التربية والتعليم ذات دور بسيط أو هامشي. ودور المعلم وفاعليته إنما تتحدد بفلسفة
المجتمع للحياة ورؤيته في شؤون الاجتماع البشري ونظرته إلى العلاقات والتوازنات
الدولية ومواقفه إزاء قضايا التنمية والبناء الحضاري عموما. ومن هنا فإن تحديد دور
المعلم لا يتأتى لنا إذا لم نكن على وعي تام بواقع المجتمع وقيمه الثقافية
وطموحاته الحضارية. ولهذا السبب فإن دراسة حال المجتمع وأوضاعه وثقافته وحضارته
ومعرفة وضعه ومرحلته الثقافية والحضارية يعد من العوامل المهمة في تحديد الدور
الحضاري للمعلم. فمجتمع متخلف ومنهار، ومجتمع في حروب مستمرة، ومجتمع غير أمن وغير
مستقر وغير متقدم، ومجتمع مستقر ونامي، ومجتمع متقدم ومتحضر ..فهذه المجتمعات ليست
على وعي واحد ومعالجة واحدة لقضية الدور الحضاري للمعلم. ومن هنا فلا يجوز الحديث
عن الدور الحضاري للمعلم بمعزل عن واقع المجتمع وظروف تطوره وسقف وعيه
وتحضره.
7ـــ الشروط
الخاصة بالتجديد المتنامي في وسائل وأدوات وأنماط وطرائق التعليم :
إن الحاجة ماسة
وأكيدة دائما لتأكيد ضرورة التجديد والتفعيل للوسائل والطرائق[18]
والأدوات
والأنماط والتقنيات المتعلقة بتكوين المعلم[19]
والتعامل مع
المتعلم ومع المؤسسة التعليمية ومع دور المجتمع في العملية التعليمية. فالتجديد
ينبغي أن يطول كل العناصر اللازمة لنجاح الفعل التعليمي وليس فقط بعض التقنيات أو
الوسائل. والنظم التعليمية المعاصرة تعيش تحولات وتغيرات جذرية بسبب الإنجازات
الضخمة التي تأخذ حيزها في مجالات المعلوماتية والتكنولوجيا وكذلك في مجال الإدارة
والتنظيم والتسيير، وفي مجالات الدراسات النفسية والاجتماعية والإعلامية
والاتصالية والاقتصادية وغيرها. وعلى هذا الأساس فلكي نفعل ونجدد دور المعلم يقتضي
منا الأمر التجديد والتفعيل لكثير من العناصر المهمة. فالقضية ليست تركيز على جانب
أو عنصر على حسب غيره ولكنها قضية منظور حضاري استراتيجي يعالج القضية من أساسها
ويتعامل مع مختلف أبعادها وعناصرها كما سأشرح بعد قليل.
ب ـــ آفاق
الدور الحضاري للمعلم :
فبعد أن تعرفنا
على الشروط الأساسية اللازمة لبعث وتفعيل الدور الحضاري للمعلم ينبغي أن معالجة
هذا الدور نفسه. فالمعلم كما هو متعارف عليه في أنظمتنا التعليمية يقوم بأدوار
معينة وربما في بعض المرات محددة. إذ على المعلم واجبات ومسؤوليات داخل القسم ومع
التلاميذ والمتعلمين ومع المؤسسة التعليمية ومع المحيط التعليمي بصورة عامة؛ بما
في ذلك واجبات التحصيل والزيادة في العلم والخبرة والمهارات والاطلاع على الجديد
في عالم المعرفة والوسائل والنتقينات، وكذلك في مجال البحث والإبداع والاجتهاد
والإنتاج للأفكار والأعمال، وكذلك العمل على الإثراء والإسهام في تطوير تخصصه.
وربما نزيد هنا دورا أخر للمعلم هو المشاركة في النشاط والعمل الاجتماعي.
ولكي تستوضح
المسألة يمكن تقسيم أدوار المعلم إلى ثلاثة أنواع على الأقل هي: الأدوار
الأكاديمية والأدوار الاجتماعية والأدوار الحضارية الرسالية. وتتركز الأدوار
الأكاديمية للمعلم[20]
في وظيفته وما
تتطلبه من تكوين معرفي وعقلي ومنهجي وسلوكي، ومن خبرات ومهارات في طرائق التدريس
وفي إدارة القسم والمحاضرة والتقويم للأداء وفي استعمال الوسائل والأدوات
التعليمية مثل الكتب والأجهزة والتقنيات الجديدة. وكذلك في مناهج التعامل مع
نفسيات المتعلمين وقدراتهم العقلية والمعرفية، وأوضاعهم الثقافية والاجتماعية والاقتصادية
وغيرها. وكذلك يساهم المعلم في المستوى الأكاديمي في مسائل البحث والاطلاع
والمشاركة في المؤتمرات والندوات والورشات التطويرية، وكذلك النشاطات غير الأكاديمية
داخل المؤسسات التعليمية. إضافة إلى المسائل الأكاديمية الأخرى. وهنا ينبغي
للمؤسسة التعليمية وللنظام التعليمي ولسياسة المجتمع بإكمالها أن توفر المناج والشروط
اللازمة لفعالية المعلم الأكاديمية.
وأما الأدوار
الاجتماعية للمعلم فتتلخص في إسهامه في تطوير وعي المجتمع وتنميته من خلال
المشاركة في الفعاليات الاجتماعية المختلفة والمتنوعة، وكذلك الاستفادة من وسائل
الاتصال والإعلام الحديث لخدمة قضايا المجتمع. بالإضافة إلى المساهمة في نشاطات
التوجيه والإرشاد[21]
والإشراف بكل
أنواعه داخل المجتمع. وكذلك يمكن للمعلم أن يمارس دورا اجتماعيا حيويا من خلال سلوكه
وقدوته وممارسته الملتزمة داخل المجتمع وفي نطاق الأسرة وفي ميدان العمل الخيري
والاتصالي وغيرها.
وأما الأدوار
الحضارية والثقافية وهي التي تهمنا في هذا البحث فتتلخص في دورين مهمين: 1) دور
المربي الناقل لقيم حضارة وثقافة، 2) دور الإنسان الرسالي الحامل لقيم السلام
والأمان والتسامح والحوار والتعارف العالمي.
1ــــ المعلم
كمربي وناقل لقيم حضارة :
ففي الدور
الأول يتحول المعلم من مجرد ملقن معلم ومدرس وناقل وشارح للمعارف والعلوم إلى مربي
ينقل قيم حضارية وثقافية تؤثر في الشخصية والعقلية والذهنية والسلوك. فالمربي
بطبيعة الحال يتعدى معنى التعليم لأنه يحمل نموذجا حضاريا وثقافيا وينتمي إلى دين
وثقافة وحضارة راقية ينبغي أن يجسد قيمها في ذاته وشخصيته وسلوكا ته وعلاقاته
وتفاعلاته وأعماله ونشاطاته الخاصة والعامة. فالمربي ليس مجرد معلم داخل المؤسسات
الأكاديمية ولكنه صاحب مهمة في كل مكان وفي كل مجال، وما المؤسسة الأكاديمية إلا
جزء واحد من عمله العام. وعندما نتحدث عن المعلم كمربي فإننا لا نقصد الحديث عنه
كمعلم فقط بل نضيف إلى ذلك البعد الذي يجعل منه نموذجا للتأديب والتربية الحضارية
ليس فقط لتلاميذه وطلبته ولكن للمجتمع كله.
2ـــ المعلم
كإنسان رسالي وحامل لقيم السلام العالمي :
وأما الدور
الثاني للمعلم فهو الدور الذي يتجاوز به حدود ذاته وشخصيته وتلاميذه ومؤسسته
التعليمية ومجتمعه وقوميته ليصبح صاحب رسالة حضارية كبرى يساهم من خلالها في أداء
دور إنساني يفيد كل الناس. فما أحوج الحضارة الإنسانية اليوم وهي تواجه كل أنواع
الأزمات والمشكلات العالمية الشاملة إلى معلمين يرفعون قضاياها ويساهمون في معالجة
هذه المشكلات من أجل رفع ثقل الأزمات على الكثير من شعوب العالم التي ترزح تحت
وطأة الحروب والفقر والفساد وغيرها. والمعلم حين يربى ويعد لأداء دور إنساني كبير
يصبح صاحب رسالة وصاحب قيمة وموقع في عالم الناس. وأعظم رسالة يستطيع المعلم
تأديتها للحضارة الإنسانية اليوم هي إسهامه الفاعل في حمل ونشر قيم السلام والأمن
والتسامح في وطنه وفي أوطان العالم الفسيح. فالإنسانية اليوم بعد أن استشرت فيها
أمراض الحروب والظلم أصبحت أحوج ما تكون إلى قيم السلام والأمان والتسامح والحوار
والتعارف أكثر من ذي قبل. والحضارة الإنسانية إذا لم تتغلب فيها قيم الرحمة
والتخفيف والتسامح والسلام والحوار والتعارف على قيم التشدد والتعصب والصراع
والتناحر والهيمنة فإن مصيرها سيكون خطيرا للغاية. ومن هنا ينبغي على كل معلم
اليوم بالإضافة إلى دوره كمعلم ومربي أن يتأهل ليؤدي دورا إنسانيا حضاريا رساليا
مهما للغاية. وقد بين الدين الإسلامي أعظم الوظائف الحضارية التي ينبغي أن يضطلع
بها المعلم حين يعي رسالته كخليفة استخلفه الله ليحمل قيم العلم والسلام والرحمة
والأمان والاستقرار والحرية والعدل والتسامح وينشرها بين بني جلدته وبين الناس
أجمعين. ذلك هو الدور الحضاري الكبير الذي ينبغي أن تنبني عليه فلسفة التعليم في
بلاد المسلمين. ففلسفة التعليم ينبغي أن لا تقف فقط عند حد الأدوار الأكاديمية
والاجتماعية للمعلم بل ينبغي أن ترسخ بقوة أهمية الأدوار الحضارية للمعلم. فالدور
الحضاري للمعلم يحتاج إلى ترسيخ جملة أمور في وعي المعلم وفي جوهر الفلسفة
التعليمية[22]
وهي:
-
ضرورة الإلزام بمصادر المعرفة
المتكاملة التي تشكل جزءا من واقع المجتمعات العربية والإسلامية والتي تتضمن الوحي
والعقل والكون والتاريخ والتجربة والخبرة والفطرة والوجدان كمصادر ضرورية لفهم
الحياة وبناء الحضارة المتوازنة.
-
الرجوع إلى أصول ومقومات الحضارة
الإسلامية والثقافة الإسلامية والتراث الإسلامي وترسيخها في أي فلسفة تعليمية أو
تكوين للمعلم.
-
الالتزام بقيم عالمية الإسلام وخطابه
الحضاري الإنساني الذي يدعو إلى الاجتهاد والإبداع والسلام والأمان والتسامح. فكل
هذه القيم ينبغي أن ترسخ في وعي المعلمين لكي يتأهل هؤلاء المعلمون لأداء دور
حضاري من خلال تخريج أجيال الأمة المبدعين الذين يجمعون بين القيم الأخلاقية
العالية والكفاءة العلمية والمعرفية والمهارية الإبداعية والفعالية في الأداء
والإنجاز.
-
ضرورة الانفتاح على التجارب
والإنجازات الحضارية الكبرى للحضارة الإنسانية والاستفادة القصوى من هذه المنجزات
والتقنيات والخبرات.
-
تكوين ثقافة الإحسان إلى الآخرين
والتحاور والتعارف معهم كأساس للثقافة التعليمية التي ينبغي أن تنتشر في بلاد
المسلمين. لأن هذه الثقافة هي الوحيدة القادرة على خلق المعلم الذي يستطيع الاضطلاع
بالدور الحضاري المنوط بالمعلمين الرساليين.
فإذا كان الأمر
بحاجة إلى عمل منهجي منظم ومستمر فإن ما نحتاجه هو "قيام مؤسسات تربوية تفرز
نماذج جديدة من العلماء الذين يحسنون إبراز معجزة الرسالة في ميدان العلم، وتكون
لهم الكفاءة العلمية والتفكير العلمي اللذان يؤهلانهم لاعتلاء المنابر الجديدة
التي أفرزها العلم في مسجد قرية الكرة الأرضية الطهور الذي خص الله به رسوله،
واعتلاء منابر التلفزة ومحطات الإرسال الفضائية، والطباعة العالمية، ويخاطبون
الإنسانية بأحسن مما عندها علما وفكرا وأدبا."[23]
والتعليم اليوم
ينبغي أن يتأهل لكي يؤهل بدوره الخريجين من مؤسساته ومناراته لأداء رسالة أكثر
بكثير من الحصول على المعرفة أو المهارة أو الخبرة أو الوظيفة أو المنصب
المرموق...أداء رسالة لها صلة وطيدة بأمان العالم وسلام حضارته واستمرار رسالته
الحضارية على طريق إثراء المسيرة الإنسانية بالعلوم والمعارف والمنجزات والوسائل
والإبداعات المتجددة في كل المجالات. بالإضافة إلى تحول التعليم ومؤسساته إلى مصدر
إشعار روحي وأخلاقي وحضاري يساهم في خدمة الوطن والأمة والإنسانية جميعا.
الخــــــــــــــــــــــــــــــــلاصـــــــــــــــــــــة:
إن هذه الأمور
التي ذكرناها، وأن حال النظام التعليمي اليوم في كثير من البلدان الإسلامية –بدون
تعميم-، وأن أداء المعلم ودوره في ظل الواقع العالمي المعاصر يدعونا بصورة جدية
لإعادة النظر في الفلسفة التعليمية القائمة وفي الآفاق الكبرى لدور المعلم. وإذا
كان أمر إعادة النظر والتجديد والتفعيل لدور المعلم ولفلسفة التعليم أصبح ضروريا،
فإنه كذلك ينبغي امتلاك رؤية ومنظور حضاري استراتيجي لهذه المراجعة والتجديد وإلا
أصبح الأمر ارتجالا وفوضى، كما هو الحال في كثير من البلدان حين نحاول تغيير
النظام التعليمي دون منهج ولا استراتيجية، فنجري تعديلات وتغييرات هنا وهنا ولكن
دون كثير فائدة. والمسألة كلها إذن منوطة بوجود المنظور الحضاري والرؤية المتوازنة
والمنهج المتكامل، بالإضافة إلى الوعي والتجاوب مع سقف الإنجازات الحضارية في
مجالات التقنية والمعلوماتية والتكنولوجيا الحديثة، وكذلك الوعي على تأثيرات
العولمة على الواقع العربي الإسلامي الجديد، وتأثير ما سيفرزه الوضع الدولي الحالي
على كثير من المجتمعات والشعوب.
ا. د. عــــلــي عـــمـــار
[2] ماجد
عرسان الكيلاني، أهداف التربية الإسلامية في تربية الفرد وإخراج الأمة وتنمية الأخوة
الإنسانية، الطبعة الثانية، ( المعهد
العالمي للفكر الإسلامي: الولايات المتحدة الامريكية، 1997)، ص 106-107.
[3] Paul, Hirst and Grahame, Thompson.
(1996) Globalization: Ten Frequently Asked Questions and Some Surprising
Answers, Soundings, vol. 4 (Autumn), pp. 47-66.
[4] Jan, Araft Scholte. (2000) Globalization:
A Critical Introduction, USA, St. Martin’s Press, INC., p. 16.
[7] Martin, Khor. (1996) “Globlization:
Implications for Development Policy”, Third World Resurgence, no. 74
(October), pp. 15-21.
[8] See, et al. D. Held. (1999) Global
Transformation: Politics, Economics and
Culture. Cambridge: Polity Press, p. 16.
[9] عبد
العزيز برغوث، طبائع العولمة وضرورة الحوار الحضاري، ط1، (كوالالمبور: آسليتا،
2003)، 20 وما بعدها.
[10] أنظر،
عبد الغني النوري وعبد الغني عبود، نحو فلسفة عربية للتربية، الطبعة الثانية،
(القاهرة: دار الفكر العربي، 1979)، ص 321 وما بعدها.
[11] عبد
العزيز برغوث، مشروع الفكر الحضاري: ضرورة تجديد الإنسان والفكر والتربية والثقافة،
ط1، (كوالالمبور: آسليتا، 2003)، ص 85 وما
بعدها.
[13]See, J.C. Aggarwal, Teacher and Education in a Developing Society, First Edition, (Delhi: .Vikas Publishing
House PVT LTD, 1995), pp. 3-24.
[14] John White, The Aims of Education, (London: Routledge
&Kegan Paul, 1982), 1-3.
[15] أنظر:
إبراهيم أحمد مسلم، الجديد في أساليب التدريس: حل المشكلات، تنمية الابداع،
تسريع التفكير العلمي، الطبعة الأولى، (الأردن: دار البشير، 1994)،.
[16] The ASCD Committee on Research and Theory, Measuring and
Attaining the Goals of Education, The Association for Supervision and
Curriculum Development ASCD in the USA, 1980, pp. 3-4.
[19]See, Allan C. Ornstein, Stratigies for Effective Teaching, New York: Harper Collins Publisher, Inc.,
1990).
[20] Patric Whitaker, Managing to Learn, First Ed. (London:
Biddles Ltd Guilford and King’s Lynn, 1995),
24.
[21] Ibid., p. 90.
[22] أنظر
عبد العزيز برغوث، أهمية البناء الثقافي والتربوي في تخريج القيادات في القرن المقبيل،
ورقة مقدمة للمؤتمر العالمي حول: نحو
تأسيس قيادة إسلامية مثالية للقرن الحادي والعشرين، أكاديمية الدراسات الإسلامية،
جامعة الملايا، 19-20 جون 2001، ص 12 وما بعدها.
0 تعليقات
السلام عليكم و مرحبا بكم يمكنكم التعليق على أي موضوع ،شرط احترام قوانين النشر بعدم نشر روابط خارجية سبام أو كلمات مخلة بالآداب أو صور مخلة.غير ذلك نرحب بتفاعلكم مع مواضيعنا لإثراء الحقل التربوي و شكرا لكم.