" صور" المدرس المغربي (ج2).
يوسف ابال-جريدة الاستاذ
عود على بدء؛ففي جولتنا الأولى من هذه المقالة، كنا كتبنا بالحرف العريض:"
من الملاحظ أنه كلما طفا على السطح حدث/سلوك يسيء لشخص "المدرس" ؛سواء
من جهة تموقع هذا الأخير في مكان "الفاعل" أو "المفعول به"
،إلا و تراءت لنا، من وراء الخرجات الكلامية أو الكتابية، "الصور"
المستبطنة و المُتَمثَلة حول هذا الشخص/المدرس. صور/تمثلات بألوان مختلفة، و من
زوايا التقاط متعددة ، و بعدسات فكرية مختلفة".
وكذلك كنا فصلنا القول عن الصورة الأولى،
من تلكم الصور، التي نعتنا أصحابها بأنهم
صنف يرون ذات "مدرس المستقبل في الماضي".أي أن معايير الحكم عندهم
مستمدة من صور مخزنة و محفوظة في "برادة" التاريخ المغربي القريب.
وجدير بالذكر، أنه إذا كان حال هذه
الفئة هو ما أسهبنا في وصفه وتحليله،فثمة فئة أخرى متمايزة عن هذه الأولى.فئة
عنونا ، من ذي قبل ،صورها عن المدرس ب: صُور ترى " المستقبل في حاضر
الآخر".
ولكي نفهم دلالة الألوان التي أنتجت
لنا صور هذه الفئة،دعنا ننصت لبعض ما تبوح به صور هذه الفئة من تمثلات، ليس عن شخص
المدرس فقط،بل عن تصورها لمفهوم التقدم بصفة عامة.
إن المسألة ،بكل بساطة ،تكاد تختزل في
قول لطالما لهج به منتقدو التراث العربي الإسلامي كلما وجهوا سهامهم
"النقدية" لهذا التراث الجريح.ومضمونه-أي القول- أنه مادام "جديدنا
هو قديمهم و قديمهم هو جديدنا"؛فمسألة الإلحاق هي الحل.وهنا الإلحاق بمعناه
الإرادي ،ليس القسري.تقول هذه الفئة.
ترى من هم أولئك؟ و بمن سنُلْحق؟.
في إحدى تبويبات ابن خلدون لمقدمته الخالدة-
خلود الدنيا-نجده يقول ب:أن المغلوب مولع أبدا بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه و نحلته و سائر أحواله و عوائده".
وعليه،يمكننا أن نستلهم نص ابن خلدون
السالف ذكره ؛كي نجيب عن السؤالين اللذين سبق طرحهما.
إن المقصود "بأولئك" هم:الغالبون لنا (الغرب
الحالي).وبالغالبين وجب إما اللحاق أو الإلحاق.
وللإشارة،فالغلبة هنا ليست غلبة قوة
فقط،بل هي غلبة عموم مجالات الحياة.إذ نجد أن "جديدنا هو قديمهم و قديمهم هو
جديدنا" ؛دائما السبق لهم و التأخر لنا.
وأكبر من ذلك، و مما قيل،فالدولة التي
نتغنى نحن بوطنيتنا لها، هي في مجملها منتوج أنتجه "أولئك الغلبة" إبان
مرحلة "الاستعمار" أو ما بعدها. و بالتالي، فليس فيما يقوله أنصار هذه
الصور ،فيما يخص مسألة الإلحاق ما يستدعي الغرابة ؛مادام ما يقال من إلحاق
(المدرس/التعليم) ليس إلا إلحاقا أصغر داخل مُلحَق أكبر(الدولة).
هذا،ويضيف كذلك أنصار هذا الصنف
"التصويري" إلى التبريرين السالفين – تبرير الغلبة و الدولة الملحقة-
تبريرا آخر مستنده التاريخ؛حيث يقولون أن التنكر للذاكرة هو أحد أعطابنا المزمنة؛فالآخر
الذي ننادي اليوم للحاق به، هو نفسه فَعَل نفس الفعل الذي ننادي به اليوم؛ ففي ظل
قرون العصر الوسيط، كنا نحن ذلك الآخر الذي يجب اللَحاَقُ بِهِ،بينما كان الآخر هو
نحن في الحاضر الذي يتوجب عليه اللحاق بالركب.أترون، إنها مسألة تدوير و انعكاس
تاريخي.أو إن شئت قلت هي قضية "تلاقح الحضارات" إثر عمليتي الأفول و
السطوع.
هكذا تصور لنا هذه الفئة تبريرها
الثالث لمسألة اللحاق "بأولئك الغلبة".
وتأسيسا على ما مر بنا من
"الصور" المتمثلة لتلك الفئة،يمكننا القول أن نعتنا لهم بالصنف الذي
يرى:المستقبل في حاضر الآخر، لم يكن وصفا اعتباطيا؛بل كانت له أصوله التي هي اليوم
،في نظرنا،من المسلمات عندهم.
إذا هم كذلك يقولون.ولكي لا نقف عند
خطوة الوصف و التأريخ لهذه الفئة
"التصويرية"،دعونا نحاول مُساءلة التبريرات التي تقدمها هذه الفئة،و
التي أشرنا إلى أهمها في ما مر بنا من حديث.
في إحدى "مواقفه" نجد المفكر
محمد عابد الجابري يقول:"إني أعتقد،بل أؤمن بأن الثقافة،أيا كانت عربية أو
غير عربية،لا يمكن أن تتجدد إلا من داخلها.إن التجديد الثقافي قد يقع بفعل تأثيرات
خارجية،هذا لا شك فيه.ولكن التأثيرات الخارجية لا تنشئ ثقافة،وإنما قد تساعد على
عملية التجديد و التطوير،إما بسرعة أكبر،وإما باتجاه دون آخر......إن تجديد
الثقافة العربية هو كامن في تجديد تراثها...فإذا سحبنا التراث ووضعناه جانبا فلا
يبقى هناك شيء يسمى الثقافة العربية..."
ونجد أيضا ،في نفس السياق المذكور،
المقاوم الهندي" ألمهاتما غاندي" اشتهر عنه أنه قال:مرحبا بكل الثقافات
التي تطرق علينا بابنا،لكن دونما أن تذهب بثقافتنا".
وفي استشهاد ثالث، نَلْفي المفكر
الراحل المهدي المنجرة يذكر في كتابه "حوار التواصل" أن:"...الغرب
لا يقبل ما برهنت عليه التجربة اليابانية، وهو أن الحداثة/ التقدم يمكنها أن تتبلور
بواسطة قيم أخرى غير القيم اليهودية
/المسيحية /الغربية.وهذا مثل مهم جدا،يعاكس ما يذهب إليه بعض المثقفين في بلداننا
من أن وسيلة تقدمنا،هي:تقليد الغرب و السير على نهجه و ليس انطلاقا من
قيمنا."
و بناء عليه،يمكن اعتبار الاستشهادات
الثلاثة المذكورة أعلاه، بمثابة تصور لحدود التلاقح الثقافي بين الحضارات و الانسلاخ الثقافي من حضارة إلى أخرى.إنها
–أي الشهادات- محددات تنتقد التبريرات التي قدمت بها الفئة ،التي تقول بأنا
مستقبلنا هو كامن في حاضر الآخر، صورها عن مسمى التقدم بصفة عامة، و شخص المدرس
المرغوب فيه بصفة خاصة.
إن مبرر الوقوع في موقع المغلوب،وكذا
أن تكون الدولة المنتمى لها في وضعية الإلحاق، حسب هذه الاستشهادات الآنفة،ليسا
مصوغا للارتهان الثقافي و التبعية الإرادية؛إنك لست مهزوما مادمت تقاوم.
علاوة على ذلك، فمبرر أخذ الآخر/الغرب
للعلوم و التقنيات عن العرب و المسلمين إبان مرحلة "النهضة" و اعتباره
كدليل على أن العلوم و التقنيات مشاعا إنسانيا؛إذ هو "كالشعلة التي تنتقل من
يد إلى يد أخرى"،هو مبرر يجب إخضاعه لتشريح تحليلي؛ حتى تتبين مصداقيته
التاريخية .
يقول منير شفيق – بتصرف- في كتابه
"الإسلام في معركة الحضارة":في الواقع آن الأوان لأن ندقق في هذا الأمر
– أي أخذ الغرب للعلوم و التقنيات من المسلمين- و لا يؤخذ على علاته.....فرغم ما
يحمله من إغراء للمسلمين حينما يقال لهم أن الغرب أخذ عنهم العلوم و التقنيات و بنى عليها ما نراه من حضارة
مبهرة...يجب التساؤل عن الذي أخده الغرب و ماذا لم يأخذه؟....فمثلا في فلسفة ابن
رشد أخذ الغرب الجانب الأرسطي/الإغريقي ورموا بعيدا بكل ما هو وليد الحضارة
الإسلامية.أي أنهم استعادوا أرسطو و استعادوا الفلسفة اليونانية من خلال ابن
رشد....ولذلك فيلزم المسلمين أن يضعوا علوم و تقنيات الآخر ضمن خصوصيات نسقهم
الحضاري؛ لتلبية دوافعه و مصالحه و حاجياته و أهدافه، كما فعل الغرب سابقا"
إذا ،هكذا يشرح لنا الاستشهاد أعلاه
مسألة الاقتباس/التلاقح التي حدثت في التاريخ مابين الحضارة الأوربية و الحضارة
العربية الإسلامية،.وكذلك هو في نفس الآن هو انتقاد ضمني للفئة التي تتخذ من هذه
المسألة ذريعة للارتماء في الحض الثقافي
للآخر ؛حيث يجب التفرقة ما بين اقتباس حضارة من حضارة أخرى لما يوافق خصوصياتها و
تصوراتها للحياة ، ومابين اقتباس نمط حضاري تام يولج المُقْتبس في قفص التبعية و "المسخ
الحضاري".
وبالجملة،وأخذا بعين الاعتبار
للملحوظات التي غطت هذا المقال.يسعنا حصر مكمن العطب لدى تلكم الفئة التصويرية في
عنصر الانتماء .إذ أن انتماء أولئك الصنف"التصويري" لدولتهم/أمتهم
"الملحقة" ليس انتماء "هوياتيا" بما تحمله هذه الكلمة الأخيرة
من دلالات عميقة،بل هو مجرد انتماء "ترابي" لا غير.أي أنهم يفكرون بمنطق
و تراث الآخر الذي تم اللحاق/الإلحاق به؛ ماداموا من نتاج هذا الآخر أو مستلبون
بمنجزاته.ولذلك فهم يعتبرون المستقبل المنشود هو في حاضر من لحقوا/ ألحقوا بهم.
ملحوظة:
دفعا للالتباس،فقد يجدنا القارئ –
الكريم- عممنا "صور" الحديث لدى هذه الفئة على مسألة التقدم عامة دونما
الاقتصار على الشخص المحوري الذي يهمنا و الذي هو "المدرس". ونحن نرجع
طبيعة هذا التناول لطبيعة الموضوع ؛ فالمدرس، أو قطاع التعليم بعمومه، داخل
إشكالية التقدم ،هو لا يمكن تناوله دون ذكر قطاعات الحياة الأخرى.وكذلك حينما نذكر
تلك القطاعات الأخرى لوحدها ،فقطاع التعليم هو حاضر ضمنيا بينها؛فنموذج و رؤية
التقدم المقترحة لابد أن تكون بصيرتها هي التعليم، وبذكر التعليم يذكر
المعلم/المدرس معه.