الإمام الماوردي و التربية
ذ . احسايني
بسم الله
الرحمان الرحيم
قال
الإمام الماوردي : " أم الشروط التي يتوفر بها علم الطالب ، وينتهي معها كمال
الراغب، مع ما يلاحظ به من التوفيق، ويمتد به من المعونة ، فتسعة شروط ؛ الأول: العقل الذي يدرك به حقائق
الأمور، الثاني: الفطنة التي يتصور بها غوامض العلوم ،الثالث: الذكاء الذي يستقر
به حفظ ما تصوره ، وفهم ما علمه ، الرابع: الشهوة التي يدوم بها الطلب ، ولا يسرع
إليها الملل، الخامس: الاكتفاء بمادة تغنيه عن كلف الطلب، السادس: الفراغ الذي
يكون معه التوفر، ويحصل به الاستكثار، السابع: عدم القواطع المذهلة من هموم وأشغال
وأمراض، الثامن: طول العمر، واتساع المدة، لينتهي بالاستكثار إلى مراتب الكمال ، التاسع:الظفر
بعالم سمح بعلمه ،متأن في تعلمه. فإذا استكمل هذه الشروط التسعة فهو أسعد طالب
وأنجح متعلم "
من كتاب: أدب الدنيا والدين
،ص 111/112
يحيلنا نص الامام حبيب البصري
الماوردي المتوفى سنة 450هـ، الذي تحدث في كتابه اداب الدنيا و الدين
عموما عن سبل اصلاح الدين و انتظام الحياة ، لتصح العبادة و تحصل السعادة ، و قسمه
الى خمسة ابواب ؛ باب خاص بالعقل وذم
الهوى ، و باب بخاص بآداب العلم ، و باب خاص بآداب الدين ، و باب خاص بآداب الدنيا ، و باب خاص بآداب النفس.
فجرد في كتابه من اقوال
الفقهاء ما يعينه على بغيته ،و اختار من حكم الادباء ما يعضد مذهبه و يسمي رأيه , فجعل عظم الوسيلة مأخوذة من عظمة
النتيجة ، و تحقيق عظيم نتيجة متوقفة على جهد الجاهد و رغبة الراغب و سلامتها من
العوارض المرغوب عنها .
فأحالنا النص على طرح
اشكالية كبرى و جوهرية في مجال علم
التدريس مفادها :
·
كيف
يحصل التعلم ؟ او كيف يتعلم المتعلم ؟
·
اللجوانب
المكونة لشخصية المتعلم الاجتماعية، و السيكولوجية ،و البيولوجيا ،اثر على مستوى
التعلمات ، سواء في جودته ام ضعفه ؟ ام ان
ذلك كله راجع للمعلم فقط ؟
يعتبر التعليم
كدعامة اساسية في العملية التعليمية التعلمية ، اذ هو عملية مقصودة تتطلب نشاط
تبادليا يتفاعل فيها المعلم مع الطلبة ، لهدف
مساعدتهم على التعلم و تغيير سلوكهم .
وقد نص الامام
الماوردي رحمه الله تعالى ، في نصه اعلاه
في معرض حديثه عن اداب العلم في كتابه ، على عوامل جعلها اسس تعلم المتعلم ، واجملها في تسعة عوامل
تتنوع على حسب عناصر العملية التعليمية التعلمية الى ما هو خاص بالمنهاج ؛ التدرج
في التدريس : وذلك بقوله في الشرط الثامن " لينتهي بالاستكثار
الى مراتب الكمال"، فأوحى لنا لفظ مراتب الى ضرورة التدرج في التعليم من
السهل الى الصعب وهذا يستدعي عدة امور الانتقال من المحسوس الى المعدوم ، ومن الجزء الى الكل ، ليصل الى الكمال
المبتغى ، وهو ما يصطلح عليه الان في علم التدريس
بالنقل الديداكتيكي .
ملاءمة التعلمات لقدرات
المتعلمين في تنصيصه على الشهوة في الشرط الرابع ، اذ بملاءمة المادة لميولات
المتعلمين تتولد لديهم الرغبة و الدافعية نحو التعلم و المثابرة و الاستمرارية ، و
كلما كانت المادة فوق طاقتهم و قدراتهم العقلية ، الا و تولد لديهم الملل و تكونت
لدبهم عقد نفسية تجاه تلك المادة .
ومنها ما هو مرتبط
بالركنين الاساسيين للعملية التعليمية التعلمية ؛ المعلم و المتعلم، فراعى للمعلم
و المتعلم حاجياتهما المادية ، فعلق الاكتفاء بما يغنيهما عن كلف الطلب ، لكي لا
يتكلفا عناء المعاش ، و مشاق طلبه ، و افراد سبيلا لكسبه ، فيكون التعليم و التعلم
مسلك كسبه و سبب اكتفائهما ، و غاية التفرغ له .
و راعى الجانب
السلوكي للمعلم ، و لما لسلوك المعلم من اثر نفسي على المتعلم ، فكان ظفر المتعلم
بمعلم سمح بعلمه ، حليم في تعامله ؛ لمن ركائز الاستقرار النفسي للمتعلم و ذلك في
شرطه التاسع .
ثم راعى للمتعلم عدة
جوانب بيولوجية و سيكولوجية ، حيث صدر نصه بما هو نقطة تشريف و تكليف ، و اداة
تعلم و تعليم ، و سيلة تقوى و تنمو بالاستعمال ، و تضعف و تحفى
بالوهن و الكسل ، فجعلها مرقاة السمو في العلوم و اداة الاكتساب و الاستعاب ،
فقسمه في كتابه اداب الدنيا و الدين الى عقل غريزي ومكتسب ، فكان الاول ما جعل
الانسان انسانا و الحيوان حيونا ، و كان الثاني من جعل العالم عالما و الجاهل
جاهلا ،ثم ثنى بمجهر العلوم وكاشفت الغموض و هاتكة الحجب عن المضمر وهي الفطنة ،
ليثلث باداة جوهرية تعين المتعلم على قدرة التكيف مع مختلف الوضعيات المستجدة و
المستحدثة في حياته وهي الذكاء ، ثم ضمن نصه ما يضمن اسمرارية حصول التعلم ويدفع
الكلل و الملل ، و يبعث لدى المتعلمين الحيوية و النشاط الذي يدفع بهم الى الجد و
المثابرة لاكتساب التعلمات ، والفراغ وعدم
شغل المتعلم بغير التعلم ، و السلامة من العوارض
البيولوجية كالأمراض و غيرها ، و
السيكولوجية كالهموم .
ويمكن تقسيم هذه
الشروط و العناصر الى ثلاث وحدات كبرى :
·
الوحد
السيكولوجية : و فيها العقل ،و الفطنة، و الذكاء ،و الشهوة.
·
الوحدة
الاجتماعية : و فيها الاكتفاء، و الفراغ .
·
الوحدة
التربوية و البيداغوجية : و فيها اتساع المدة ، و الظفر بمعلم سمح .
وهي شروط لم يكن
الامام الماوردي رحمه الله الوحيد من تفطن اليها من علمائنا المسلمين ، بل نجد
معظم المفكرين التربويين المسلمين قد اشاروا الى بعض هذه العناصر ، فهذا الامام
الزرنوجي يشير الى ضرورة التركيز على لذة العلم التي هي من دواعي تحصيله ، وهذا
الامام القابسي رحمه الله - 403- يشير الى ضرورة التفرغ للتعلم و عدم الانصراف الى
غيره ، و الرفق بالمتعلمين ، و على المعلم ان يكون هاشا باشا في تعليمه و ان اظهر الغضب على المقصر، وهو عينه ما دعى
اليه الامام الغزالي رحمه الله – 505-
الشفق على المتعلمين و الا ينتقل من فن الى فن حتى يتقن الفن الاول ، وهذا
ابن خلدون رحمه الله -808- يجعل التدرج في التدريس للوصول الى الكمال من الوسائل
المعينة على ذلك الى غير ذلك من اراء اعلام التربية في الفكر التربوي الاسلامي .
ان كان هذا ما نادى
به الامام الموردي في القرن الرابع الهجري في مجال التربية ، و اعتمده في تربيته
للناشئة ، و في تعليمه ، ونادى بمراعاته
في التعلم ، وهو عينه ما سيتبين لبعض المدارس
الحديثة في علم النفس التربوي ، و ستتلهث
اليه مدارسنا لتطبيقه مع ان علماءنا قد اصلوا له منذ قرون ، فالى أي حد يتم مراعاة
هذه العناصر في مدارسنا الحالية ؟
اليس ما نادى به
امامنا رحمه الله في القرن الرابع الهجري
، هو عينه ما تمخض عن مدارس علم النفس التربوي حديثا ؟
اذا كانت المقاربة
بالكفايات جاءت لتعتبر المتعلم هو محور العملية التعليمية التعلمية ، اليس هو عينه
ما توحيه الينا هاته العناصر المتضمنة في النص ؟ اليست جل عناصره متعلقة بالمتعلم
لا المعلم ؟
0 تعليقات
السلام عليكم و مرحبا بكم يمكنكم التعليق على أي موضوع ،شرط احترام قوانين النشر بعدم نشر روابط خارجية سبام أو كلمات مخلة بالآداب أو صور مخلة.غير ذلك نرحب بتفاعلكم مع مواضيعنا لإثراء الحقل التربوي و شكرا لكم.