وماذا بعد ..؟!
|
بقلم مصطفى سالمي قضى سنوات من عمره يمارس مهنة التدريس في وطن ما عاد أبناؤه يقيمون وزنا للمدرس أو للمدرسين، ولكنه أحس ذلك اليوم إحساسا مختلفا عن كل ما مضى من أيام عمره. تمنى لوكان ما وقع في الخميس الأسود في موطنه حلما مزعجا، أو كابوسا أليما من أن يكون واقعا مرا. لقد رأى بأم عينيه بني جلدته ينهالون بالعصي والهراوات على إخوتهم في الوطن والدين واللغة...كان ضربا بلا شفقة ولا رحمة. لقد كان يمكن له تصور وقوع هذا في بلاد عربية أخرى كما وقع فعلا في مصر الكنانة وسوريا الشام وليبيا الأنفة، وقبل كل هذا في فلسطين المباركة. لكنْ، ها هو الكره الدفين والغل المقيت يحل بك أيها المغرب السعيد. كان ضربا حقيقيا نابعا من كراهية شديدة وليس فقط تنفيذا لأوامر من أعلى. كان السباب واللعن والدم المنسكب طاهرا زكيا يسيل على الأسفلت. تكسرت حتى الأضلاع وتشوهت الوجوه. حتى عتاة المجرمين في وطنه لا يحظون بمثل هذا. والضحية من؟ مجرد أساتذة متدربين يحتجون سلميا على مطالب معينة، وقبل ذلك دكاترة معطلون..
حمل صاحبنا جريدة مسائية فأطلت عليه نفس العناوين. تركها وفتح حاسوبه الشخصي فوجد في أول موقع يتصفحه أحد الغربان من بني جلدته ينضم لجوقة الشامتين. ازداد العجب أكبر وأكبر لدى صاحبنا. حاول تفسير كل هذا بشكل مقنع بعيدا عن الانفعال. أحد من أبدوا كرههم الطافح تحدث عن فشله الدراسي الذي سببه رجل تعليم، وعمم الأحكام على كل رجال التربية. و لو سأله أحدهم: "هل توجد في الشوارع ساقطات منحرفات؟"، سيقول لك على الفور: "ما أكثرهن..!". ولو سالته ثانية: "هل تعمم الحكم على أخواتك؟" سينتفض صاحبنا في وجهك ويصر على عفة وشرف أخته. إذن لماذا تحتكر يا هذا العفة والشرف في من تريد وتسحبها ممن لا تريد، ما دمت تؤمن بنسبية الأحكام؟ وآخر يتحدث عن الأجرة المرتفعة وكثرة العطل ....
وجد صاحبنا غِلاّ من نوع آخر. أمثال هذا الشخص ـ إذا افترضنا فيه حسن النية ـ هو لا يعرف أن المدرس يحمل معه عمله للبيت في شكل دفاتر وأوراق تصحيح، ولا يعرف شيئا عن شغب هذا الجيل ، ولا يدري عن الاكتظاظ قليلا أو كثيرا. ولا يفقه أن بناء الإنسان أصعب من رفع البنيان والعمران.
وتأمل صاحبنا باقي التعليقات ، فإذا بشخص ثالث قد تحدث أو بالأحرى كتب أن العقاب الشديد الذي تلقاه من أحد مدرسيه لا يمكن أن ينساه أو يسامح بسببه كل رجال التعليم. وسبحت المخيلة بصاحبنا نحو ماضيه البعيد. تذكر كم عوقب من مدرسيه في فترات السبعينات أوالثمانينات. رحمك الله يا سيد سبعاوي حيا أو ميتا. كان مدرس الابتدائي بالنسبة لصاحبنا لا يتوقف عن الشرح والكتابة بطبشورة بيضاء، ما يكاد يمررها على اللوح الأسود حتى يتطاير غبارها، كان يتحرك بخفة يمينا وشمالا ويشرح ويتصبب عرقا، يسأل هذا التلميذ في الطاولة الأولى، وذاك المنزوي في الطاولة الأخيرة في حركة دؤوبة. عصاه في يده ينهال بها على أيدي ورؤوس كل ذي إجابة خاطئة في الحساب أو التلاوة أو حفظ القرآن، بل وينهال بها أحيانا كيفما اتفق. وكم مرّة شج رأس واحد من تلاميذه. لكن الآباء ما كانوا يشتكون، بل كم مرّة يحثون المعلم على مزيد من العقاب والتأديب. كانت نوايا ذلك الجيل طيبة للغاية رددها صاحبنا في نفسه. ما كانوا يعاقبون تلاميذهم من أجل مكسب لهم. وتذكر قول الشاعر:
لا تحزنن على الصبيان إن ضُربوا ≠ فالضرب يبرا ويبقى العلم والأدب
الضرب ينفعهم والعلم يرفعهم ≠ لولا المخافة ما قروا وما كتبوا
لكن بعض مرضى النفوس يحسبون ضرب المعلم إهانة لهم وتنقيصا منهم ويسرونها في أنفسهم، مع أن المتعلمين ما عادوا يتلقون التعنيف في هذا الزمن الحاضر. وحدهم المدرسون أصبحوا يتلقون العنف في بلاده المتخلفة بمعنييه المادي والمعنوي . مَن أدراه؟ ربما يكون هناك مدرسون فاشلون كما يوجد أيضا إداريون فاشلون.. فما أكثر الفاشلين في وطنه، فلماذا يرادُ للمدرس وحده أن يكون ملاكا ـ تساءل صاحبنا ـ؟ إن كل قطاعات هذه البلاد السعيد مأزومة. إنهم لا يعترضون على استعمال السيارة حين تقع حادثة مميتة، ويُرجعون ذلك لخطأ في التعامل معها، ولا يُقلعون عن قنينة الغاز في حالة انفجارها، أو عن السكين في حالة جريمة تمت باستعماله، ولكنهم ينتفضون في وجهك يا تعليم بلاد من العالم الثالث، والمشجب الوحيد الأوحد الجاهز هو: "المدرس".
عاد صاحبنا لذكريات الحاضر القريب، وتذكر أنه منذ أيام فقط احتفلت كل بلاد الدنيا باليوم العالمي للغة العربية، إلا بلاده التي تعتبر العربية دستورها، لقد خصص إعلام بلاده الرسمي أمسية الجمعة في الثامن عشر من دجنبر لبرنامج استضاف ممثليْن من زمن العري في سينما بلاده.
أيقن صاحبنا بأن المعلم في بلاد تعانق الجهل لا يمكن أن ينتظر تكريما. كلهم يكرَّمون ولو بعد حين، إلا المفكر الحر والمعلم النزيه. كم تابع على شاشات التلفاز في إعلامه الرسمي سهرات تكريم لممثلين ومغنين ورياضيين على أنغام الإيقاع والرقص. ولم يسمع أو يشاهد هذا الإعلام يكرم مفكرا مبدعا روائيا أو معلما أفنى حياته يدرس الأجيال. وحدهم المدرسون في موطنه يجتمعون في يوم من أيام العمر المشهودة عند نهاية الخدمة في قاعة كئيبة، ليتبادلوا عبارات منمقة ، وقد يلتقطون صورا بئيسة ويشربون مشروبات غازية و"بسكويتا" أو حلوى لتخفيف مرارة الأيام في الحلوق والألسنة. هذا إذا لم يصب ذاك المتقاعد قبلها بالسكري الذي يحرم عليه أكل تلك الحلوى، أو تكون أسنانه قد تهشمت أوسمعه أصبح ثقيلا لا يتيح له حتى أن ينعم بكلمات الثناء في حقه. هذا هو وطنه البئيس، وهذا هو المعلم في زمن الخزي والتهريج والانتهازية. فهل يتعلم المعلم هذه الصفات الذميمة وينسلخ من جلده كما يريدون ، بعد أن فشل في فرض قيمه على أجندات أخرى دخيلة مدسوسة مسنودة بالإعلام والمال والدعاية.
0 تعليقات
السلام عليكم و مرحبا بكم يمكنكم التعليق على أي موضوع ،شرط احترام قوانين النشر بعدم نشر روابط خارجية سبام أو كلمات مخلة بالآداب أو صور مخلة.غير ذلك نرحب بتفاعلكم مع مواضيعنا لإثراء الحقل التربوي و شكرا لكم.