الكتاب المدرسي و تحريف المضامين
قد يسمي البعض عملية الانتقاء والزيادة والحذف تصرفا في النصوص تمليه ضرورات تربوية مختلفة (تضمين ظواهر لغوية/ تفادي عبارات شاذة أو نابية ..) لكن التصرف الذي لا يراعي المبادئ العامة والخطوط العريضة وأسس النص الأصلي سيسمى تحريفا للنصوص وأحيانا مع سبق الإصرار والترصد، ومن أبرز تجليات ذلك في الكتاب المدرسي (المفيد في اللغة العربية) نص :(إنه من أهل الجنة)، حيث نجد أنفسنا أمام نص لصاحبه :عبد القادر زمامة . فالذي يقود القافلة في النص الأصلي هو الابن (الحبيب)في رحلته الأولى وليس الحاج المكي، وعوض أن يثبت الشاب أهليته لقيادة
القافلة في أول رحلة له من سجلماسة باتجاه فاس وتلمسان، فإنه سيضيع صرة النقود التي فيها ماله ومال رفاقه الشباب. وبعد أن أوشكوا على الاستسلام لقضاء الله وقدره، سمعوا مناديا بجانب المسجد ينادي بأوصاف صرة النقود، فيهب الشاب الحبيب مقدما الأوصاف المطلوبة، ومن شدة فرحه أقسم أن امرأته ـ التي هو حديث عهد بالزواج بها ـ طالق ثلاثا إن لم يكن الرجل الأمين من أهل الجنة. وبعد أن كان هؤلاء الشباب يتهددهم الفشل الاقتصادي، ها هو قائد قافلتهم يتهدده الفشل الاجتماعي حين أمسك الرجل الأمين أمام حشود الناس بتلابيب الشاب "الحبيب " ويقوده لدار القضاء لإثبات صحة ما ادعاه. وفي النص الأصلي فإن الذي يأتي بالإثبات القرآني على ما ادعاه الابن من أن الرجل الأمين من أهل الجنة هو أحد العلماء في مجلس القضاء لا الحاج المكي كما نجد في الكتاب المقرر (المفيد).أي أن المسألة الشرعية المطروحة في النص أصبحت أمام أنظار المحكمة وليس أنْ يفحم المكي خصمه أمام المسجد بالآية القرآنية :(وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى). هذا التحريف مسخ النص الأصلي وأفقده طابع التشويق الذي يميز "النص الحقيقي" (راجع النص الأصلي في كتاب "المطالعة الجديدة" الجزء الثالث ص:161). لقد أصبحت هذه القصة مسخا ممسوخا في الكتاب المدرسي (المفيد في اللغة العربية)، أي مجرد حكاية عادية يفقد فيها بطلها (المكي : رجل طاعن في السن ) صرة نقوده ثم يعثر عليها رجل أمين وينتهي الأمر بكل بساطة، لكن النص الحقيقي يتضمن أبعادا أكبر بكثير، النص الحقيقي فيه سعي الشباب لإثبات الذات ، وفيه بوادر فشل وفيه تسرع وفيه خروج من عقدة أولى للوقوع في مزالق عقدة ثانية، وفيه وقوف أمام مجلس القضاء الذي سيصدر حكما تترتب عليه أحكام تهدد مسار حياة وليس مسار قافلةٍ منطلقةٍ من سجلماسة باتجاه فاس..
تُرى ما الأسباب التي تدعو إلى مثل هذا التحريف الفاضح؟ هل هو الهروب من كل إشارة للصراع بين الأجيال وما يترتب عن ذلك من قضايا سياسية وفكرية...
لكي نفهم ونتلمس أبعاد هذا التحريف الذي يطال النصوص المدرسية، سنعرج على مقرر مدرسي آخر هو (المطالعة والنصوص) طبعة سنة1992للسنة الثامنة من التعليم الأساسي، التي تُسمى حاليا السنة الثانية من التعليم الثانوي الإعدادي.
من النصوص الواردة في هذا الكتاب نص: "البنفسجة الطموح" بالصفحات: 34 ـ 35 ـ 36.
يتحدث النص عن بنفسجة كانت تعيش في حديقة حيث الرياحين والأزهار. لكنها فجأة أصبحت غير راضية عن نفسها، فهي ترى نفسها ملتصقة بالأرض لا تنعم بالإحساس بالجمال في الوجود، وترى في نفسها القبح والهوان في الوقت الذي تنعم فيه باقي الورود بالقامة الهيفاء والصورة الرشيقة. فالتمست من الطبيعة أن تمنحها الجمال والسحر مثل غيرها، لكن الطبيعة حذرتها من عواقب طموحها الذي يمكن أن يجلب لها سوء العاقبة. لم تحفل البنفسجة بتلك التحذيرات وألحت في طلب التحول إلى الصورة البهية التي تحلم بها، مدت الطبيعة أصابعها السحرية ولمست عروق البنفسجة، فتحولت بلحظة إلى وردة زاهية متعالية فوق الأزهار والرياحين. ولكن لما جاء عصر ذلك النهار، تحول هدوء المكان إلى عاصفة هوجاء اقتلعت كل الأزهار المتشامخة، ولم تُبق إلا على الرياحين الصغيرة الملتصقة بالتراب. وينتهي النص في الكتاب المدرسي المقرر بهذه العبارة: (رفعت مليكة البنفسج قامتها ومدت أوراقها ونادت رفيقاتها قائلة: تأملن وانظرن يا بناتي، انظرن إلى البنفسجة التي غرتها المطامع فتحولت إلى وردة لتتشامخ ساعة ثم هبطت إلى الحضيض. ليكن هذا المشهد أمثولة لكن).
هذه هي النهاية في الكتاب المدرسي.
لكن النهاية الحقيقية لصاحبها جبران خليل جبران في كتابه العواصف شيء آخر مختلف تماما.
لنقرأ النهاية من المصدر:( عندئذ ارتعشت البنفسجة المحتضرة .. واستجمعت قواها الخائرة .. وقالت بصوت متقطع لا يخلو من لهجة تدل على الطموح والافتخار : لقد عشت حياة الوردة ساعة ..كحياة الملكة.. مكنتني من النظر الى الكون.. وملامسة النور .. فهل بينكن من تستطيع ادعاء هذا الشرف ؟ ثم لوت عنقها وبصوت لاهث قالت : أنا أموت الآن .. وفي نفسي مالم يكن في نفس بنفسجة من قبل .. أموت وأنا عالمة بما وراء المحيط المحدود الذي ولدت فيه !! ثم أطبقت أوراقها.. وارتعشت قليلا وماتت وعلى وجهها ابتسامة من حقق أمانيه في الحياة .. ابتسامة النصر والظفر )..
لا يخفى على القارئ أهداف مثل هذا التحريف الفاضح للنصوص، إن مجرد الترجمة الحرفية للنصوص من لغة إلى أخرى يعد خيانة للنص الأصلي، فما بالنا بالتحريف المتعمد للنصوص بغية إيصال معنى مغاير ونقيض لما يريده صاحبه.
إننا هنا أمام أهداف واضحة الأبعاد والدلالات، يراد بها تكوين جيل على المقاس ، جيل يفتقد المبادرة والفعل والرغبة في تغيير الواقع، جيل مكبل بمثبطات داخلية مفادها: "كل تغيير وكل طموح عواقبه لن تكون محمودة المآلات". لقد مضى ذلك العهد الذي كان يراد فيه للإنسان أن يتمثل قول الشاعر المتنبي:
إذا غامرت في شرف مروم # فلا تقنع بما دون النجوم
فطعم الموت في أمر حقير# كطعم الموت في أمر عظيم
0 تعليقات
السلام عليكم و مرحبا بكم يمكنكم التعليق على أي موضوع ،شرط احترام قوانين النشر بعدم نشر روابط خارجية سبام أو كلمات مخلة بالآداب أو صور مخلة.غير ذلك نرحب بتفاعلكم مع مواضيعنا لإثراء الحقل التربوي و شكرا لكم.