الإسلام بين وهم الأصولية و زحف العلمانية
إن الأصوليين الذين يناضلون من أجل تطبيق الشريعة الإسلامية و نبذ المبادئ العلمانية مستندين بذلك إلى الاستقراءات التاريخية المستنبطة من التجربة الأوربية، و كذا المقارنة بين واقع المسيحية خلال الفترة الممتدة ما بين القرن السادس عشر و القرن التاسع عشر من جهة و واقع الإسلام المعاصر من جهة اخرى...حيث يجزمون و يزعمون أن الظروف التي توفرت لظهور العلمانية كبديل داخل المجتمع الأوروبي ليست متوفرة داخل المجتمع الإسلامي- حتى لا نقول العربي-
إن هؤلاء -في رأينا- لم يتجاوزوا المستوى السطحي من الاستقراء و المقارنة. لأن عملية التحليل يجب أن تتجاوز مستوى الوقائع و الأحداث إلى ما هو أعمق، أي آليات الصراع و تفاعلاته المرحلية التى أنتجت لنا تحولا معينا...و لنفسر ذلك طبقا لما ارتأيناه يمكننا القول:
قيام الحركة البروتستانتية في القرن 16 على يد مارتن لوثر الذي أخرج أطروحته للوجود منتقدا فساد الكنيسة الكاثوليكية المتمثل في مجموعة من الخروقات التي مارسها رجال الدين (الإكليروس) كبيع صكوك الغفران، و شرائهمم للمناصب العليا كالمطران و الكاردينال وصولاً إلى البابا...كانت هذه الأحداث ممهدة لظهور العلمانية مع بداية القرن 17 التي تمثلت في استبعاد الكنيسة و فصل الدين عن الدولة و الحياة في كل مناحيها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. و بهذا يكون الصراع قد انتقل من مواجهة رجال الدين إلى مواجهة الدين ككل...إن هذا التحول الذي عرفه المجتمع الأوروبي، مما هو ديني يستند إلى المعتقدات و الخرافة إلى ما هو عقلي يستند إلى العلم و المنطق، لم يكن نتيجة التحريف الذي وصمت به المسيحية و لا نتيجة فساد المؤسسات الدينية و رجال الدين على حد سواء، كما يجزم و يزعم الأصوليون، بل كان نتاجا لعدم قدرة المسيحية على مواكبة التطور و استيعاب التحول الكلي الذي عرفه المجتمع الأوروبي حينئذ، حيث صار الدين يشكل نشازا داخل سيمفونية الحياة...
فيما يخص الإسلام، و هذا ما يعنينا، إن كان لا يعاني من تحريف النصوص و لا من فساد المؤسسات، فإنه يعاني فعلاً من تخلف و نكوص، أي أنه لا يساير تطورات الأوضاع الحالية و لا تحولاتها الاقتصادية والاجتماعية و حتى التكنولوجية...و الدليل أن وتيرة الحياة في تسارع و لا زلنا نحلل واقع 2016 بآليات السنة الثالثة للهجرة. كما هو الحال بالنسبة لعدد من القضايا كالإرث مثلاً...و هذا إن شكل خطراً ما سيكون أول المتضررين منه هو الدين الإسلامي نفسه. و في هذا السياق، و حتى لا نتهم بالزندقة و المروق، يمكننا القول بأن المبدأ الأساسي الذي يمكن الدين من مواكبة ركب التطور و استيعاب التحول هو مبدأ الاجتهاد. أي أن الإسلام في حاجة ماسة، و أكثر من أي وقت مضى، إلى فقهاء حداثيين قادرين على استنباط الأحكام الشرعية على كل المستويات، و تقديم البدائل الدينية في المسائل الاقتصادية والاجتماعية..و ليس في حاجة إلى فقهاء من طينة المكبوتين الذين لا يبرعون إلا فتاوى الجنس و جهاد النكاح و القتل و استباحة الدماء.
إن الإسلام من دون اجتهاد في النوازل لن تنطبق عليه قولة "صالح لكل زمان ومكان" و لن يكون إلا أعرافا بدوية في جبة حداثية. وعندما نقول الإسلام لا نقصد به الممارسات الشعائرية فقط من قبيل الصلاة و الصيام و الزكاة...بل نعني به إسلام الممارسات الحيوية الدنيوية من قبيل التعاملات التجارية و الأحكام القضائية و الحياة الاجتماعية...
مجمل القول، في غياب فقه مستقل عن المؤسسات السياسية، و في غياب فقهاء حداثيين قادرين على ضخ دماء جديدة في الجسم الديني عن طريق الاجتهاد البناء طبقا لاحتياجات المرحلة و تحولاتها...في غياب كل هذا، سيغدو الإسلام غريبا في بلاده و بين أهله و سيغدو المسلم كائناً وديعا يحن إلى السلف الصالح و يجابه القرن 21 بأسلحة القرن السابع ملادي..و سيتكفل المستقبل بإدخال الدين إلى المسجد لتدور عجلته صوب التطور و الازدهار لا التخلف و الاندثار.
0 Comments
السلام عليكم و مرحبا بكم يمكنكم التعليق على أي موضوع ،شرط احترام قوانين النشر بعدم نشر روابط خارجية سبام أو كلمات مخلة بالآداب أو صور مخلة.غير ذلك نرحب بتفاعلكم مع مواضيعنا لإثراء الحقل التربوي و شكرا لكم.