يوم أول في المدرسة...
المصطفى سالمي
كان مروان يترقب الموعد بكثير من التوجس والحذر الممزوج بالخوف والهلع. وقد أمضى الأبوان أياما في إغراء الصغير بالمدرسة وتصويرها كأنها جنة الصغار:
ـ سيعطونك الحلوى اللذيذة واللعب الجميلة الملونة...
ولكن الصغير كان يبدي ـ باستمرار ـ انزعاجه من مكان لا يسمع من أخيه الأكبر إلا الشكوى من معلمة لا تنفك تحمل عصاها المخيفة، والويل لمن لا ينجز التمارين والواجبات التي لا تنتهي إلا لتبدأ من جديد. كان الصغير يرى أخاه يُحرم في كثير من الأحيان من رسومه المفضلة.. ويعود الصغير ليسأل أمه:
ـ هل سأذهب للمدرسة مرة واحدة يا أمي؟
وتطمئنه أمه بأنه سيذهب لمرات قليلة فقط، ولسان حالها يقول: (سامحني يا ربّ!) وتردف :( مع الوقت سينسى ويندمج مع الآخرين ويحب المدرسة). وأما الوالد فوعد من جهته صغيره بأن يشتري له دراجة جميلة في العطلة القادمة. وكان الابن يثق في كل كلمة ووعد من والده الذي كان ينفد كل طلباته. وأغراه الأب أيضا بأنه سيلتقي في الفصل الدراسي بصغار الحارة وسيرافقونه في الذهاب والإياب.
قضى الصغير أيامه الأخيرة يترقب هذا المكان المجهول الذي يخيف الصبيان ويبتلع صراخهم ويغيّبهم لساعات، ويعودون منه متلهفين على اللعب والأكل مترقبين العطل باستمرار مبتهجين بمقدمها دائما. والحقيقة أن الصغير كان مدللا للغاية من أبويه، ومرتبطا بهما أشد الارتباط، لدرجة أنه لم يقض إللا أسبوعين فقط في رياض الأطفال لينتفض بكاء وصراخا بسبب مكان مكتظ بوجوه غريبة، لقد كان المكان يحكم إغلاقه على البراعم الصغيرة من مُدرسة ضخمة الجثة تلتهم أكل الصغار البسيط الذي يُفترض أن يتناولونه وقت الاستراحة. لقد كانت تلك التي سماها الصغار بـ:(الفيلة) تخرج للحديث مع صديقة لها في الغرفة المجاورة تاركة خلف باب موصد صغارا بعضهم يشاغب والآخر يبكي أو يعتدي على غيره وخاصة مع ضيق المكان حيث يجلس على الطاولة ثلاثة وهي بالكاد تتسع لاثنين فقط. فاضطر الوالد لإخراج ابنه باحثا عن روض آخر في بلدة صغيرة ولكن دون جدوى، وقنع من الغنيمة بالإياب منتظرا إقبال ابنه على مدرسة حكومية للتحصيل الدراسي بشكل رسمي.
حل الصباح المعلوم ورافقت الأم الصغير للمدرسة محملا بالحلوى في جيوبه، وبعبارات تزخرف المكان على أنه أجمل من رياض الأطفال، ففيه اللعب والصور والأناشيد والرسوم.. وفي الباب طُلِب من الآباء الانصراف، فقد انتهى دورهم هنا، وعليهم الرجوع في الوقت الذي حددته الإدارة لهم في استعمال الزمن الذي تلقاه أولياء التلاميذ.
بقي الصغار في ساحة المؤسسة يستمعون لأسمائهم، وكل مدرس أو مدرسة كان يتلقف مجموعة ويقودها نحو فصل من الفصول. بينما كان قليل من الصغار يلعبون ويمرحون بين أشجار المؤسسة ومرافقها التي يحيط بها سور مزخرف برسوم لحيوانات و أناشيد ..
وقف مروان بجانب العلم الوطني يلتهم الحلوى اللذيذة التي كانت أمه قد دستها في جيبه متأملا الصور والمشاهد العجيبة هنا وهناك..
كانت المدرسة (زهرة) قد تجاوزت الخمسين من عمرها، لقد أفنت أكثر من ثلاثة عقود في التدريس لمختلف مستويات الابتدائي وفي مناطق مختلفة من هذه البلاد. لقد أصبحت تترقب نهاية الخدمة بفارغ الصبر بعد أن ذبل شبابها وأرهقت أعصابها بفعل شيطنة صغار تزداد حدة تمردهم وشغبهم عاما بعد آخر. لقد كانت تعتقد أن هؤلاء الصغار في هذه المرحلة الابتدائية أصعب من ترويض الكبار في المراحل الثانوية.
ها هي الآن تتجول في الساحة بحثا عن أسماء لم تعثر عليها بعد. عليها أن تفرض هيمنتها منذ بداية السنة، فسمعتها وقسوتها كانت ترهب الكبار قبل الصغار. فجأة لمحت صغيرا يأكل الحلوى بجانب العلم الوطني . دون شك سيكون شيطانا آخر يتوجب ترويضه. اتجهت نحوه مباشرة وأمسكت بأذنه:
ـ لماذا لا تقف في الصف أيها اللعين؟
رفع الصغير إليها عينين بريئتين كأنما يستفسر من خلال نظراته عن مغزى كلامها. وحقيقة الأمر أم الطفل لم يكن يعرف لكلمة :(الصف) أي معنى ، فهي ليست في قاموسه الشخصي، وهو لأول مرة يسمع بها.
ـ مُدّ يدك وبسرعة!
مد الصغير يده كأنما يريد مصافحتها، فحركت (زهرة) اليد جاعلة الكف إلى الأعلى ، ثم انهالت بالعصا البلاستيكية على اليد الطرية، وكررت الأمر مع اليد الأخرى...
قبيل منتصف النهار رجعت الأم لاستقبال فلذة كبدها محملة ببعض الحلوى والجبن والفاكهة في كيس بلاستيكي.
خرج مروان متخلفا عن رفاقه، كانت الدموع تنهمر من عينيه كالمطر وقد أحاط به صغار وهم يرددون: (ضربته الأستاذة زهرة).
كانت هذه الكلمات تزيد الصغير إحساسا بالمهانة. وبمجرد أن لمح أمه أسرع إليها واحتضنها وهو يردد:
ـ لن أذهب بعد الآن يا أمي للمدرسة، لن أذهب .. لن أذهب!
0 Comments
السلام عليكم و مرحبا بكم يمكنكم التعليق على أي موضوع ،شرط احترام قوانين النشر بعدم نشر روابط خارجية سبام أو كلمات مخلة بالآداب أو صور مخلة.غير ذلك نرحب بتفاعلكم مع مواضيعنا لإثراء الحقل التربوي و شكرا لكم.