مقتطف من مقدمة كتاب "الهدر الجامعي"
أ د عبد الله لخلوفي
الحالة العامة للمنظومة التربوية والتعليمية إسهاما مني في توضيح الأمور بكل جلاء، ليتسنى اتخاذ القرارات الصائبة والمبادرات المطلوبة الرامية لمواجهة الاختلالات وإصلاحها، أقول ما قلته من قبل، بأنني أخذت على عاتقي أن أسهم بفعالية في تحسس مكامن الخلل الحقيقية والمعاطب التي قوضت صرح منظومتنا التربوية والتعليمية وكل المحاولات المتتالية لإصلاحها، حتى تبدو الصورة واضحة جلية للعيان. من هذا المنظور، وجدت نفسي على طرفي نقيض مع التيار الجارف الذي يتعامل مع ما تعرفه منظومتنا التربوية والتعليمية من تردي، من منظور تربوي بيداغوجي منفصم تماما عن الواقع ومجانب للوقائع، بحيث أصبحت شجرة المقاربات البيداغوجية للتدريس تحجب تماما غابة الاختلالات اللغوية والمعرفية المخيفة، المتداخلة الأغصان والأدغال. ولكي أسهم بجدارة، من موقعي كأستاذ باحث بالمدرسة العليا للأساتذة (مؤسسة "أوديت" كما
عرفتها من قبل)، في تقييم مسلسل الإصلاحات التربوية والتعليمية، ثم الحث بكل الوسائل المتاحة على تقويم ما يمكن تقويمه، فقد أخذت على عاتقي، من خلال كتاباتي، القيام بالتشريح الدقيق لصرح منظومتنا التربوية والتعليمية لمعرفة مكامن الخلل والأعطاب الحقيقية التي تهدد بنيانه بالتصدع المؤدي للانهيار. كما أخذت على نفسي أن أتحرى الوضوح في الرؤيا على أسس علمية مجردة، انطلاقا من المعطيات الميدانية، وأن أتسلح بالصراحة المطلقة في قول الحقيقة الكاشفة ولو كانت موجعة، حتى يتسنى للمسؤولين عن منظومتنا التربوية والتعليمية (وكلنا مسؤولون، كل من موقعه)، ولكل مكونات المجتمع، الوقوف على مكامن الإعاقة الحقيقية ومسبباتها، ليتأتى لنا اتخاذ القرارات الإصلاحية والتقويمية الملائمة التي تخرجنا من عنق الزجاجة الذي أصبحنا عالقين داخله. هذه القرارات يتوخى منها وقف الدوران في حلقات مفرغة، دوران أدخلنا في دوامة لا تترك لنا أي فرصة للتوقف وأخذ النفس للعمل على التموقع الجيد الذي يمكّننا من تفحص الغابة في شموليتها، بدل أن نبقى عالقين بين بعض أدغالها. لازلت أصرخ وأصيح بأعلى صوتي، لأقول أن منظومتنا التربوية والتعليمية تئن وتتوجع من جراء التشنجات الناتجة عن عسر الهضم المعرفي الذي تسبب فيه ما تعرفه المعارف المدرّسة في التعليم الابتدائي والتعليم الثانوي الإعدادي والتأهيلي من تخمة مفرطة (من حيث الكمّ والنوعية)، في الوقت الذي عرفت فيه كثافة أنزيمات الهضم اللغوية عند التلاميذ نقصا حادا. هذه الاختلالات أعجزت كلا من التلميذ والمدرس والأطر التربوية، وحتى مؤلفي الكتب المدرسية، كما يبدو ذلك جليا مما تحويه من أخطاء وتشوهات معرفية خطيرة. فالتخمة المعرفية العسيرة على الاستيعاب والهضم، والمتسببة للتقرحات الدماغية والفكرية وحتى المعدية (العضوية)، ووجهت، من دون تشخيص للحالة المرضية، بتخمة علاجية مسببة للإسهال المعرفي، تركزت على المقاربات البيداغوجية التي لم تزد الحالة المرضية إلا استفحالا. فهذه التخمة المعرفية (المسببة للأمراض والتقرحات) تفاعلت سلبياتها مع التخمة العلاجية البيداغوجية (المسببة للإسهال والتجفف)، فأجهزت على مواصفات ومقومات التعلم السليم التي تتمثل: ـ في الامتلاك السليم لآلية الفهم والتفاهم والتواصل والتجاوب، المتمثلة في اللغة، خلال طور التعليم الابتدائي على الخصوص؛ ـ في اكتساب المعارف والمفاهيم العلمية السليمة المدرّسة في أطوار التعليم الابتدائي والثانوي الإعدادي والتأهيلي، وكذا في طور التعليم العالي. اهتزت قاعدة وأركان صرح منظومتنا التربوية والتعليمية بسبب الاختلالات العميقة المزمنة التي تراكمت مع مرور الزمن، ففزع المسؤولون عنها، بحيث غلب التسرع على تدخلاتهم؛ فبدل أن نركز بداية، كما تقتضي ذلك كل منهجية علمية، على تقصي مكامن الخلل الحقيقية، فقد عملنا على إيجاد الحلول السريعة بالتركيز على وصفات "الأسبرين" البيداغوجية الجاهزة، وهو ما جعل الأمور تتخذ الوجهة الخطأ وتزيد الطين بلة وبللا. هذه الأخطاء التقديرية للأمور، نتجت عنها أخطاء لا حصر لها، أثّرت بكل سلبية على دور المدرسة كمؤسسة تربوية تعليمية في المجتمع وعلى الجامعة كمنارة وقاطرة، بحيث أصبحت مهامهما مهدورة على كل المستويات. وهنا كذلك، تمت مجانبة الصواب تماما في تعريف الهدر المدرسي، بحيث تم حصره في انقطاع التلاميذ عن التمدرس، وهو الأمر الذي تم التعامل معه عبر رفع شعار "تكافؤ الفرص ومحاربة الهدر المدرسي"، بحيث تبنى البرنامج الاستعجالي 2009/2012 شعار "جميعا من أجل مدرسة النجاح". فهذان الشعاران يرميان إلى محاربة الانقطاع عن التمدرس (الذي سمي بالهدر المدرسي)، بالعمل على تكافؤ فرص النجاح (الإنجاح)، في أفق تأمين مدرسة النجاح للجميع (بدل رفع شعار "إنجاح المدرسة" بالعمل على إعادة الاعتبار للتكوين السليم الذي يتوج بنجاح من يستحق ورسوب من يتبين أنه لن يكون قادرا على مسايرة التكوينات اللاحقة). و في أفق التصدي للتدهور اللغوي والمعرفي للتلاميذ، فقد تم الاعتماد على الوصفات البيداغوجية المستوردة الجاهزة، وهي الوصفات التي أصبح التعليم العالي مطالبا بتبنيها هو كذلك. وبما أن هذه الوصفات لم تزد المنظومة التربوية والتعليمية إلا انفصاما عن الواقع، ولم تزد المناخ التربوي التعليمي إلا ترديا واضطرابا، فقد تمت محاولة الالتفاف على كل هذه السلبيات البادية للعيان بالتركيز على التصدي للانقطاع عن التمدرس، عملا بالإبقاء على التلاميذ داخل جدران المدرسة حتى سن معينة. من هذا المنظور الضيق، وبهذا النهج العقيم، تم التأسيس للهدر المدرسي الحقيقي والأخطر؛ إنه الهدر الملازم لفضاء الحجرات الدراسية داخل المؤسسة التعليمية، بل أجزم بأنه تم العمل على تثبيت مرتكزات هذا النوع من الهدر المدرسي، الذي لم يعد غريبا عن مؤسساتنا التربوية والتعليمية، منذ أواسط التسعينات من القرن الماضي. نعم، نعمل على محاربة الهدر المدرسي المتوهم بالتأسيس لهدر مستقبل أبنائنا وتضييعه، حيث يحتفظ بهم داخل جدران مؤسسات تعليمية موبوءة حتى سن متقدمة نسبيا، ليخرجوا منها فيما بعد، وهم مفتقدون لأدنى المؤهلات التي تمكنهم من الانخراط الإيجابي في النسيج الاجتماعي. والغريب العجيب في الأمر، أن الأساتذة الباحثين فعلوا تماما ما فعله أساتذة الأطوار التعليمية السابقة؛ فلقد انخرطوا ضمنيا في مسلسل محاربة "الهدر المدرسي" (الذي يقابله "الهدر الجامعي" في التعليم العالي)، بالعمل تلقائيا على إنجاح من لا يستحق النجاح، حتى قبل أن تتبنى الوزارة الوصية هذا الشعار في السنين الأخيرة. فكما قلت، فقد رفع المسؤولون عن التربية والتعليم هذا الشعار قصد الإبقاء على التلاميذ بين جدران المؤسسات التعليمية خلال طور التعليم الأساسي (الابتدائي والثانوي الإعدادي)، عملا على تطبيق شعار آخر؛ شعار "تكافؤ الفرص"، وفي أفق النفخ في النسب المئوية للناجحين، أيا كان هذا النجاح، ولو بإنجاح الراسبين بميزة ضعيف جدا. والمثير في الأمر كذلك، أن يوصي تقرير المجلس الأعلى للتعليم، لسنة 2008، بإنجاح ما يقارب 100٪ من التلاميذ في نهاية السنة السادسة من التعليم الأساسي (الشهادة الابتدائية) في أفق سنة 2014 عملا على محاربة الهدر المدرسي برفع شعار مدرسة النجاح. وهنا لا بد من التأكيد على أن ما هو مطلوب من المجلس الأعلى للتعليم هو أكبر بكثير مما قام به لحد الآن، فعليه أن يسهم بجدارة في تكوين رؤية مستقبلية واضحة المعالم والمسارات لإعادة تأهيل منظومتنا التربوية والتعليمية على أسس علمية سليمة، تعيد للمؤسسات التعليمية قدسيتها عبر إنجاح رسالتها النبيلة في المجتمع. نعم يجب العمل على إنجاح المدرسة، بدل رفع شعار مدرسة النجاح "الهبة" للجميع الذي سيجهز تماما على ما تبقى لهذه المؤسسة الحيوية المحورية من بقايا المناعة والقدرة على التفاعل مع المجتمع. في المقابل، إن كانت هذه هي هواجس المسؤولين عن المنظومة التربوية والتعليمية وكذا المجلس الأعلى للتعليم، خاصة فيما يتعلق بطور التعليم الأساسي، فما الذي حدا برجال التعليم العالي إلى اتباع هذا النهج المجانب تماما للصواب. ما الذي دفع بالأساتذة الباحثين لتخريج حاملي دبلومات جامعية بميزات مميزة، بيد أنهم "يحتاجون إلى دروس لمحو الأمية"، كما قال أحد الصحافيين (انظر أسفله)، وهو الأمر الذي تسبب للجامعة المغربية والتعليم الجامعي العمومي في كثير من الحرج، إن لم أقل في كثير من المصائب كما سنرى.
0 تعليقات
السلام عليكم و مرحبا بكم يمكنكم التعليق على أي موضوع ،شرط احترام قوانين النشر بعدم نشر روابط خارجية سبام أو كلمات مخلة بالآداب أو صور مخلة.غير ذلك نرحب بتفاعلكم مع مواضيعنا لإثراء الحقل التربوي و شكرا لكم.