إبداع أدبي تربوي (قصة) بعنوان: من طرائف السيد كريم
بقلم المصطفى سالمي
كان السيد "كريم" قد قضى سنوات طويلة وهو يُدرس مادة الفرنسية. وقد عمل في مناطق مختلفة، آخرها في عمق الصحراء. وقد انتقل أخيرا إلى بلدة قروية بها إعدادية مستحدثة. لم يعد صاحبنا في الآونة الأخيرة متحمسا للعمل. وبدأ يعد السنوات للحصول على تقاعد يريحه من التنقل لبلدة "العجيلات". كانت المؤسسة الإعدادية أشبه بمدرسة ابتدائية، تلاميذها كلهم حياء وأدب، وكان السيد "كريم" يستغل ذلك ليذهب لقاعة الأساتذة لتهييء الشاي لفترة الاستراحة، وكان يكلف تلميذا بتسجيل اسم من يحدث الضوضاء،
وأحيانا أخرى كان يكلف مجموعة من الذكور بغرس بعض المغروسات كالبصل والكزبرة والبقدونس والفجل والشويلاء ..وكان يكلف الفتيات بتنظيف القسم. وأحيانا حين يحس بالتعب كان يطلب من التلاميذ الخروج من خلف الأقسام عبر سور المؤسسة، ولا يرسلهم دفعة واحدة، بل يرسل واحدا بعد الآخر ، وبعد ذلك بلحظات ينسل هو بدوره ويمر خلف الأقسام بعيدا عن الإدارة والأعين، ويقفز من على السور القصير.
لم يعد السيد "كريم" بعد ذلك يكتفي بتلك المغروسات الهينة، بل بدأ يطالب التلاميذ بإحضار بعض المزروعات من حبوب ويقطين وأحيانا بعض البيض أو الدجاج.. وأشياء أخرى. والحقيقة أن الأستاذ "كريم" في الآونة الأخيرة لم يعد مهتما بردود فعل الآخرين وكلامهم، فهو يصرح بأنه لم يعد قادرا على العطاء في الفصل. وهكذا أصبح معظم الوقت يقضيه في الحديث عن السوق وأسعار الأكباش والإيجار وتقلبات أثمنة الخضر والفواكه.. بل إن هذه الأحاديث يشارك فيها صاحبنا التلاميذ، وليس فقط الأساتذة. هذا ما أصبح يفعله طوال الحصة المفرغة من أية دروس، دفاتر المتعلمين تخلو عنده من المكتوب، وحين يخرج التلاميذ من الفصل من حصته، كان الجميع يسمع ضحكاتهم وكأنهم كانوا يتابعون مشهد (الحلقة) في ساحة جامع الفنا بمراكش. وأصبح عاديا أن يقدم التلاميذ لصاحبنا ما يسميها هو "الهدايا"، فينال من يقدمها الحظوة والامتيازات في النقطة أكثر من غيرهم. لم يكن السيد "كريم" يكترث لشيء، إذ يعتبر انتقاله لهذه البلدة قرارا تأديبيا، فليفعل المسؤولون ما يحلو لهم. وحين يقترب عيد الأضحى كان يقدم شهادة طبية للمدير ، ويأتي في تلك الفترة للسوق الأسبوعي للبلدة ـ بل والأسواق الأخرى ـ حيث يشتري كبشين أو ثلاثة ويضعها في صندوق سيارته المتهالكة، وينقلها إلى مدينته الساحلية حيث مسكنه، وهناك كان يبيعها بأثمنة مربحة. وكان في أوقات أخرى من السنة يكلف التلاميذ الذكور بجني أشجار الزيتون المغروسة بالمؤسسة وثمار التين.. ويكلف الإناث بإحضار الفطائر المدهونة صباحا بدعوى أنه لا يتاح له الإفطار لخروجه المبكر جدا من مدينته. وكان يضع تلك الغلات في أكياس ينقلها أحيانا لسيارته من خلف الأقسام بعيدا عن أعين الرقباء. ومن طرائف السيد (كريم) أن الحارس العام ضبط تلميذا يختلس شيئا بجوار مسكنه حيث خم الدجاج، فأطل كريم برأسه من باب القسم زاعما أنه كلف التلميذ بإحضار بعض ثمار التين. لكن تلك الفترة من السنة كانت تشهد شبه انعدام لهذه الفاكهة، مما جعل الحارس العام يشكك في الرواية، وحين لاحظ الأخير التلميذ في الساحة في اليوم الموالي بعيدا عن قسم الفرنسية، ناداه وانفرد به وعرف منه الحقيقة المرة. لقد كان مدرس الفرنسية يكلفه بسرقة بيض الدجاجات من الخم. كان الحارس العام السيد (سعيد) قد اشترى عدة دجاجات ليس فقط للحصول على بيضها، ولكن أيضا لأنه كان يخاف من الحشرات وخاصة العقارب، وكان يأمل أن يخلصه الدجاج من هذه الحشرات التي تأتي من الحقول المجاورة. وفي قاعة الأساتذة بدأ السيد (سعيد) يرسل التلميحات إلى أن هناك سارقا يسرق بيض الدجاجات، فثارت ثائرة الأستاذ (كريم)،ولولا تدخل المدرسين لوقع بينهما ما لا يحمد عقباه. وتستمر طرائف المدرس (كريم) بعد ذلك، ومنها أن مرض أحد المدرسين، ونقل لعيادة خاصة ، وعزم أطر الإعدادية على الذهاب للعيادة للاطمئنان عليه والتخفيف عنه، وهنا تدخل السيد (كريم) مبديا رغبته في القيام بهذا المعروف والإحسان نيابة عن الآخرين ، ثم إنه يتوجه يوميا للمدينة حيث مسكنه ، فلم التعب والإرهاق وزيادة المصاريف وتعطيل الدراسة بالمؤسسة؟!. أخذ (كريم) مبلغا ماليا قدمه له أطر المؤسسة ـ من مدرسين وإداريين ـ في ظرف على أساس أن يقوم بالواجب نيابة عنهم. مرت الأيام وعاد المدرس وقد استعاد عافيته، وربما ظن السيد (كريم) أن لا أحد سيكتشف فعلته، فإذا الجميع يصدمون بأن مدرس الفرنسية العجيب قد استولى على المبلغ المالي بعد أن زعم أنه اشترى للزميل المريض الفاكهة والأدوية وأغراضا أخرى.. لقد أصبح صاحبنا محاصرا بالقطيعة لمدة ليست باليسيرة. وتطول إقامة (كريم) ببلدة (العجيلات) والتي كانت في الحقيقة صدرا حنونا على هذا المدرس، فزملاؤه يقولون: (لو كان السيد "كريم" يقوم بمثل هذه العربدات أو حتى ربعها في منطقة أخرى لتلقى ردة فعل صادمة له، ولكن الناس هنا طيبون يقدرون تقدمه في السن، ويجدون له الأعذار الكافية).
ومع مرور الزمن أصبح صاحبنا مريضا بآفة النسيان، وتأزمت نفسيته مع شبح تمديد سن التقاعد الذي يروج له البعض، في ظل رحلة الذهاب والإياب بواسطة سيارته المتهالكة كثيرة الأعطاب، وقد أصبح يتوقف في الطريق حتى يركب معه بعض الأشخاص بمقابل مادي ، وأعجبته الفكرة، فهي ذات مردودية مادية لابأس بها، فأصبح يمارسها خارج أوقات عمله. وذات يوم يتفاجأ الجميع بانتقال السيد العجيب. وبقدر فرح أهل البلدة بانتقاله إلى مدينته لأنه لم يكن يدرس أبناءهم شيئا بالمرة، بقدر حزن بعض المدرسين على فراق شخص طريف نسج الناس حوله غريب الحكايات والروايات.
0 تعليقات
السلام عليكم و مرحبا بكم يمكنكم التعليق على أي موضوع ،شرط احترام قوانين النشر بعدم نشر روابط خارجية سبام أو كلمات مخلة بالآداب أو صور مخلة.غير ذلك نرحب بتفاعلكم مع مواضيعنا لإثراء الحقل التربوي و شكرا لكم.