هل تمزقت أوصالك؟
تحترق الأيام السعيدة مثل أوراق خريف تساقطت وتلاعبت بها الرياح في عنفوان وقسوة، هكذا أحس السيد (نبيل) وهو يتأمل نهايات شهر غشت تتوارى خلف المجهول، لقد كان الزمن النفسي يجمد اللحظة والآونة والثانية حتى يكاد عقرب الساعة خلال أيام الموسم الدراسي لا يتحرك من مكانه، بينما اليوم وفي ظل الفرح الجنوني بالأيام الجميلة التي يجتمع فيها شمل الأسرة، وتنوع الأسفار ومخالطة أجواء مختلفة تدخل البهجة على النفس، ها هو قطار الحياة بدأ يزفر الدخان ويحرق المسافات بالنسبة له، لقد أمضى زهاء عقدين من الزمن في فصول التدريس، وكل عطلة صيفية تعطيه طاقة إضافية كبطارية يتم شحنها جيدا لتصبح لديها قدرة على تحمل وعطاء أكبر. ربما أصبح يُطلب من هذه البطارية أن تتفاعل مع اختراعات تكنولوجية متنوعة وصعبة أكثر مما كان عليه الأمر قديما، وربما البطارية تقترب تدريجيا من التآكل أمام قوة وحداثة الأجهزة التي هي في خدمتها.
لقد مضى ذاك الزمن الذي كان ينتقل فيه المرء بواسطة ذهنه ليجوب الأمكنة والأزمنة محولا الألفاظ والأسطر وحدها إلى فضاءات خيالية، اليوم يراد للإنسان أن ينتقل عقليا في المكان والزمان على أجنحة الموارد المالية والتقنيات الحديثة. ما عاد أحدهم يحشر رأسه بين دفتي كتاب كما كان يفعل السيد (نبيل) الذي كان يسعده في زمن مضى أن يقفز بين الأوراق ويرتعش قلبه بين الكلمات.. هكذا كان يشحن نفسه، اليوم اكتفى هو نفسه برصيده القديم من الأشعار والحكم والأمثال، لقد بدأ يجد سعادة كبيرة وفضولا متزايدا وهو يحاول مسايرة إيقاع هذه الأجيال في أذواقها الغنائية وأساليبها "الفيسبوكية" و"اليوتوبية" وحواراتها "السكايبية" وأسفارها الجسمانية واللاجسمانية، كل هذا لعله يجد في عوالم هذه الأجيال ما يبرر اختياراتها ويعذرها على أنها تخلت عن وسائل الزمن القديم وكلاسيكياته. ربما هي محقة هذه الأجيال في أساليبها، لكن حلقة ما تبقى تشكل فراغا قاتلا في حياة هؤلاء الجدد. إنها الروح التي تغيب عن هذه العوالم الجديدة، إنها الإحساس والطعم والذوق المفتقد، إنه لا يحس بسعادة الماضي ومتعته رغم الألوان والأشكال والزخارف وكثرة الإنفاق والاستهلاك، ربما هو واهم في تصوراته وهذيانه. وربما بدأ يستشعر أنه أقرب إلى زمن مضى منه للحاضر ، فتقطعت أوصاله بين الأزمنة والأمكنة والاختيارات، فلا هو هناك ولا هو هنا.. إنه ممزق كالتمزق النفسي بين نهايات العطلة السعيدة، وبدايات موسم دراسي يحمل كثيرا من البريق، وقليلا من الذوق والطعم حتى يكاد يفقد جاذبيته بالمرة.
0 تعليقات
السلام عليكم و مرحبا بكم يمكنكم التعليق على أي موضوع ،شرط احترام قوانين النشر بعدم نشر روابط خارجية سبام أو كلمات مخلة بالآداب أو صور مخلة.غير ذلك نرحب بتفاعلكم مع مواضيعنا لإثراء الحقل التربوي و شكرا لكم.