المصطفى سالمي
كان الأستاذ (نبيل) منهمكا في إنجاز درسه، والأصابع البريئة ترتفع وتنخفض، وفجأة أطل وجه غريب من باب الفصل الدراسي، ونقر على الباب بنقرات خفيفة، توقف سيل الشروح والنقاشات، وخرج المدرس عند ضيفه الذي توارى قليلا، ظنه الأستاذ (نبيل) أحد أولياء الأمور جاء ليسأل عن مستوى تلميذ من تلاميذه، لكن الأخير فاجأه وهو يقدم له كتبا مجلدة، ويفتح أحدها حيث تظهر صور وألوان..(إنها الموسوعة الشاملة التي يستفيد منها الصغير والكبير) يقول السيد الغريب الذي يظهر أنه بائع أو موزع في شركة لطباعة الكتب، اكتفى الأستاذ بإبداء الإعجاب، ثم لزم الصمت، واعتذر ـ أمام سيل شروحات الآخر ـ بضرورة استكمال الحصة الدراسية، فتلاميذه في انتظاره، وعاد الثاني ليؤكد أن كتبا أخرى معروضة في قاعة الأساتذة، وأنها أكثر جاذبية، وعده المدرس (نبيل) بالاطلاع عليها وقت الاستراحة على الساعة الرابعة، ثم عاد الأستاذ إلى فصله واستمر في عمله لم يقطعه إلا صوت جرس المؤسسة.
كان الأستاذ (نبيل) ينزل أدراج الطابق العلوي حين لاحظ أن زميله الأستاذ (عبده) في حوار حميمي مع الرجل الغريب صاحب الموسوعة وكأنهما صديقان حميمان.
في قاعة الأساتذة كانت كتب كثيرة معروضة على الطاولة الكبرى، ألقى عليها نظرة سريعة، كان شخص ثانٍ يشرح للمدرسين فوائد ومنافع كتب الموسوعة، بينما الأول بقي ملازما للأستاذ (عبده). حمل الأستاذ (نبيل) سجادة الصلاة وانزوى في ركن من أركان القاعة.. مرت لحظات سُمع بعدها جرس المؤسسة يعلن انتهاء حصة الاستراحة.
كان الأستاذ (عبده) يحب الشعر والمسرح والقصة، وكان أيضا مهووسا بالنشر، إذ سبق له نشر مسرحية أدبية، وكان هذا بمثابة مدخل استغله بائع الموسوعة الذي يظهر أنه "موسوعي" في استمالة العقول والتلاعب بها مستغلا ما يعتبرها نقاط ضعف للإيقاع بضحاياه، فمجموعة واحدة من كتب الموسوعة كان يباع بثمن يعادل أجرة شهرين من العمل، وقد كان الأستاذ (نبيل) يسمع حكايات كثيرة عن هؤلاء الذين يورطون بعض الموظفين في قروض وشيكات يتم دفع مستحقاتها على مدى شهور طويلة. بدأت المخاوف تنتاب الأستاذ (نبيل) الذي يعرف طيبة زميله الذي كان في بداية تكوين حياته، وما زال يقطن في دور الإيجار، فهل يتم توريطه في حبال أشباه اللصوص هؤلاء. إن الموسوعة إياها يمكن تحميل محتواها في قرص مدمج لا يتعدى ثمنه ثلاثة دراهم، بينما هؤلاء يبيعونها بسبعة آلاف درهم.
تأخر الأستاذ (عبده) في الالتحاق بقسمه، فأدخل زميله (نبيل) التلاميذ الذين كانوا يقفون في الطابور أمام الفصل، ثم وقف ينتظر قليلا. أخيرا بدا زميله قادما وأساريره منبسطة وكأنه عاد من فتح عظيم. لقد حصل ما كان يخشاه (نبيل). شعر بالصدمة وصاحبه يخبره أنه وقّع على شيك لهؤلاء. قال له:
ـ ألا تلاحظ أن المبلغ مرتفع، بل مبالغ فيه!؟ وهل أنت محتاج فعلا لمحتوى هذه الموسوعة؟! ما رأيك في موسوعة شبيهة بها لا تكلفك أكثر من ثلاثة دراهم بدل آلاف الدراهم؟!
استفاق فجأة زميله (عبده) من غفوته، لقد أقنعه ذاك الشخص الذي كان يتأبط ذراعه أثناء الاستراحة أنه سيساعده على طبع كتبه وإخراج أفكاره للنور.
كاد الأستاذ (نبيل) يسلم بالأمر الواقع، لكنه أحس أن ضميره سيوبخه إذا لم يقم بفعل "ما" لصالح زميله الطيب الذي يعتبره أخا وليس مجرد زميل، كان (عبده) يمتاز بصفاء الروح ونقاء الجوهر، ولم يكن زميله ينقصه الكتب، فقد دخل إلى بيته وشاهد رفوفا من المجلدات والمجلات.. في مجالات مختلفة، وكتبا أخرى غيرها مكدسة في علب من الورق المقوى مما لم يسعها المكان.
تساءل رفيقه:
ـ ولكن ما العمل؟ لقد أخذت كتب الموسوعة وجعلتها داخل علبة ووضعتها في صندوق سيارة زميلنا (كريم).
عاد (نبيل) إلى تلاميذه وشغلهم ببعض التمارين، ثم انطلق مع صديقه الذي زالت الغشاوة تماما عن عينيه، وفي الطريق هدّأه وطلب منه أن لا ينفعل في الحوار، وأن يبدي للبائعين أنه حين فكر في الأمر، وجد صعوبة في الالتزام بدفع أقساط المبلغ، ثم فارقه وتوجه صوب مكتب المدير، وطلب منه التدخل لمساعدة الأستاذ (عبده) بعد أن شرح له القصة.
في قاعة الأساتذة كان البائعان يجمعان الكتب استعدادا لمغادرة المؤسسة، كان المسؤول الأول يبدي بشكل قاطع استحالة التراجع عن صفقة البيع، فرب الشركة لا يقبل بأن تتم تعبئة ورقة الالتزام وأن يتم التراجع بعد ذلك. اقتحم المدير والمدرس القاعة فانتبه الثلاثة للقادمين، وهنا تدخل مدير المؤسسة بشكل حازم وقاطع موجها كلامه للبائعين:
ـ أنتما دخلتما هذه المؤسسة التربوية التي أديرها دون موافقة مني، وأنجزتما صفقة دون علم الإدارة، ما دام الأمر كذلك، فإنني سأتخذ الإجراءات القانونية في حال لم تعيدا الشيك لصاحبه!
نظر البائع الأول للأستاذ (نبيل) نظرة يتطاير منها الشرر، فقد عرف ببديهته أنه المسؤول عن فشل الصفقة.
عاد المدرسان إلى فصليهما بعد أن انتزعا الشيك الثمين وكأنهما انتزعا عضوا ثمينا من الشخصين الغريبين. وفي الطريق إلى فصول الدراسة، ظهرت الابتسامة الحقيقية الصافية على محيا (عبده) الذي كان قبلها يبدو شاحبا ممتقعا، لقد شعر أنه نجا من المصيدة بأعجوبة، يكفيه الخسارات الصغيرة بشراء كتب وجرائد ببضعة دراهم ولا يقرأ منها ـ غالبا ـ إلا عناوينها الكبرى.
0 تعليقات
السلام عليكم و مرحبا بكم يمكنكم التعليق على أي موضوع ،شرط احترام قوانين النشر بعدم نشر روابط خارجية سبام أو كلمات مخلة بالآداب أو صور مخلة.غير ذلك نرحب بتفاعلكم مع مواضيعنا لإثراء الحقل التربوي و شكرا لكم.