في دكان البقالة ـ حيث احترف التجارة ـ كان (سمير) يلتقي كل مساء ببعض رفاق البطالة الذين ـ على قلتهم ـ كانوا يهونون عليه أحاسيس المرارة الدفينة داخله، ذات يوم استعاد ورفاقَه ذكريات الماضي وحكايات الوجوه القديمة، وبعد أن عرجوا على المجدّين، انتقلوا للحديث عن المشاغبين والكسالى، وفجأة ورد ذكر اسم: "ماهر"، لم يكن هذا الأخير يحمل من معاني الإبداع والمهارة التي يوحي بهما اسمه شيئا، بل كان ماهرا في كل ما هو سلبي، لم يكن لهذا الشخص من مبدأ في الحياة، الثابت عنده ـ أيام الدراسة ـ أن
يجلس في آخر الصف الدراسي لممارسة هواياته المفضلة وهي تقليد أصوات الحيوانات، تارة هو ضفدع وتارة قط وأخرى بقرة، ورغم شكوى المدرسين وتهديداتهم كان يقفز على المراحل والمحطات بطرق لا يعلمها إلا عليم. رفاقه يقولون عنه إنه أثناء الامتحانات والفروض يكون بأربعة أعين هي أذرعه الأخطبوطية للسطو على أجوبة القريب والبعيد من الرفاق، ورغم شدة الحراسة في الامتحانات كان يستطيع أن يقتات على أدمغة زملائه ويمتص عصارة ذكائهم، وكان النجاح حليفه في السنة النهائية. في كلية الآداب بالدار البيضاء اكتسب "ماهر" اسما جديدا هو: "الطفيلي"، ليس لأنه يتطفل على الولائم، ولكن لأنه كان كالنبات المتطفل على غيره، وخصوصا على الزرع النافع والمفيد، فيشاركه في امتصاص المواد العضوية من الأرض، ويتفوق عليه في النمو والظهور، رغم أنه لم يكن ضمن البذور التي ألقاها الفلاح في تربته، لكن صاحبنا جمع المعنيين في المرحلة الجامعية، إذ كان مدمنا على التدخين وعلى السوائل الحمراء التي تريح الدماغ في عرف البعض. فكان يهتم بمظهره وأناقته، لكن شكله الاجتماعي وسمعته لا يأبه بهما، فكان يتلقف معارفه من الطلبة أمام باب مطعم الحي الجامعي ليشاركهم وجبة الغذاء والعشاء بدعوى أن المنحة الجامعية الهزيلة لم تسعفه هذه المرة ـ وهي التي لم تسعفه بالمرة ـ فيزاحم القريب والبعيد على مائدة الأكل دون إحساس بالخجل أو الحرج وهو يتطفل عليهم. ويتساءل الرفاق في سخرية عن آخر مستجدات الطفيلي "ماهر" فإذا بأحد الرفاق يصدم الجميع بالقول إنه عين بأحد المجالس البلدية قبل استكمال دراسته الجامعية، وتأكد الأمر بالمشاهدة والعيان. لكن الذي حز في النفوس وآلمها هو شكوى الناس من سوء معاملته للمواطنين وخاصة البسطاء منهم، إذ كان يماطل في أداء الخدمات ويجبرهم على أداء مبالغ غير مبررة يسميها القانون: "رشوة"، ويسميها هذا "الطفيلي" واجب خدمة". التقاه أحد الرفاق يوما وهو في طريقه إلى العمل فبادره الطفيلي قائلا :
ـ أصبحت يا رفيقي هزيلا! فقال الرفيق ساخرا :
ـ أنا آكل في اليوم ثلاث وجبات فقط ومن صحن واحد.
فرد صاحبنا وكأنه لم يفهم:
ـ عليك أن تمارس الرياضة لكي تقوي بدنك.
فتمادى الرفيق في سخريته قائلا:
ـ سمعتُ أنك تمارس رياضة حمل الناس من أقدامهم لجعلهم في وضعية المقلوب.
فهم الطفيلي أنه متهم بإفراغ جيوب البسطاء المتهالكة أصلا. وأحس بالهجوم يأتيه من رفيق دراسته، فقال له: " إذا أردت أن تشاركني هذه الرياضة فرئيس المجلس البلدي هو صديقي". وأردف في صوت كالهمس: " وداعا"، ثم توارى خلف البنايات تاركا رفيقه يفكر في المقاصد مدركا أن المسألة غير بريئة بالمرة. فالكائن الطفيلي يقتات على عمولات من هنا وهناك، متنقلا بين امتصاص جيوب شتى ومن فئات متباينة، بعد أن مضى ذلك الزمن البعيد الذي كان يقتات فيه على أدمغة تلاميذ صغار على مقاعد الدراسة، وتساءل أحد الرفاق في سخرية: "ترى كيف يكون الحال إذا كبرت هذه النبتة أكثر وأكثر واشتد وتصلب عودها ؟!"
0 تعليقات
السلام عليكم و مرحبا بكم يمكنكم التعليق على أي موضوع ،شرط احترام قوانين النشر بعدم نشر روابط خارجية سبام أو كلمات مخلة بالآداب أو صور مخلة.غير ذلك نرحب بتفاعلكم مع مواضيعنا لإثراء الحقل التربوي و شكرا لكم.