سنُزيّن حديقةَ الوزارة!
المصطفى سالمي
"حامد" و "محمود" موظفان بسيطان بوزارة من
وزارات الدولة السيادية في بلاد "عربستان"، كانا مهووسَيْن بحب الوطن
وخدمته، وكانا يحبان أيضا الجمال الطبيعي في الوجود، حصلا على شواهد عليا، ورضيا
بالوظيفة في السلالم الدنيا في أرشيف الإدارة، كان الانسجام بينهما تنطبق عليه
مقولة: (وافق شنّ طبقة)، إذ معظم أشغال
الوزارة كانا يقومان بها بجدية وتفانٍ، دون
إبداء تبرم أو ضجر، بينما كان المسؤولون الكبار في الوزارة متفرغين لأشغالهم
الكبرى التي تتم في الكواليس الخفية. كان مكتب الموظفَين البسيطين يقع قبالة حديقة
الوزارة، ولأنهما من محبي الجمال الطبيعي، فقد رغبا في إعادة الاعتبار لهذه
الحديقة باستنبات ورود زاهية الألوان، بدل تلك الحشائش الطفيلية التي نبتت دون
استئذان، ولأن الإدارة في بلاد "عربستان" لم تكن تسمح حتى بالسعال بدون
استئذان، فقد راسلا رؤساءهما للسماح لهما بالعمل التطوعي خارج أوقات عملهما ـ
وبدون تعويض مادي ـ لتزيين حديقة الوزارة، لكن طلبهما قوبل بالرفض ودون إبداء
الأسباب أو المبررات. احتار "حامد" و "محمود" في تفسير ذلك،
فهما فقط يريدان بث جمالية مفتقدة في حديقة الوزارة، ولا يطلبان مقابلا على ذلك،
وكان الأحرى حسب الموظفَين أن تتم مكافأتهما وشكرهما على ذلك... وحقيقة الأمر أن
حضور الموظفَين للوزارة خارج أوقات عملهما، كان يمكن أن يتزامن مع تواجد مسؤولين
وزاريين كبار للتذاكر أو عقد صفقات مما يجري في الكواليس، وكأنّ هؤلاء المسؤولين
توجسوا خيفة من تطوع مشبوه لموظفَيْن سيتحولان إلى بستانيين في بلاد
"عربستان" التي لا يعمل فيها العامل بدون مقابل، وإذا تمّ ذلك فهو أمر
مثير للشبهة والسؤال عن السبب والدواعي..!
أعاد
"حامد" و "محمود" كتابة طلب السماح للموافقة على العمل
التطوعي في الوزارة، ولسان حالهما يقول: (سنزيّنُ حديقة الوزارة..!)،
وشرحا في الطلب أنهما يريدان ردّ الحياة لحديقة بدأت تشيخ، وخاصة الناحية الخلفية
التي لا يراها الداخلون من الباب الرئيسي، فهذا الركن غزته نباتات وحشية لا جمال
فيها، وهي تحتاج لعمل بستاني، ولأن الأخير لا يعمل عادة إلا في الواجهة، فإنهما
بحكم خبرتهما في ميدان البستنة يمكن أن يتطوعا لإصلاح ذاك الركن من حديقة
الوزارة.. انتظرا لأسابيع عسى أن يأتيهما الردّ، لكن الجواب هذه المرة كان هو عدم
الجواب من المسؤولين الكبار.
في
أحد الأيام حيث كان موعد الاحتفال بالعيد الوطني، قرر "حامد" و
"محمود" أن يتطوعا للعمل في حديقة الوزارة حتى بدون موافقة كبار
المسؤولين، قَدِما بعد الظهر مزودَين بمعاول.. وشرعا في تقليب التربة اليابسة
وإزالة الحشائش الصفراء وتلك الطفيلية، كان مكتبهما يقع في واجهة هذا الركن من
الحديقة، إنهما يقضيان معظم وقتهما في أرشيف الإدارة، لقد تشبعا بحب الجمال في
الوجود مستمدين ذلك من الكتب التي أدمنا عليها وامتصا عصارتها، سواء الدواوين
الشعرية أو الروايات والمجموعات القصصية والمسرحيات العالمية..
كان
حارس الوزارة هو من فتح لهما الباب، إنه لا يغادر مسكن الحراسة أبدا، وهو يسمح فقط
للعاملين هنا بدخول الإدارة ولو خارج أوقات العمل. كانت التربة قاسية الصلابة
بالنسبة لـ "حامد" و "محمود"، لذلك استعانا بخرطوم الماء لرشها
لعلها تلين قليلا، ثم بدأ كل واحد ينثر البذور ويغرس فسائل النباتات.. كانا
يعملان بهمة ونشاط كما تعودا دائما، ثم توجها نحو مكتبهما وجلسا ليستريحا من عناء
العمل، فقد كانا يتصببان عرقا في هذا اليوم الصيفي الملتهب، وهناك سمعا محرك
سيارة، إنه المسؤول الأول في إدارة مصلحة الوزارة، أطلا من زجاج مكتبهما، فشاهدا
المسؤول الكبير يساعده الحارس في نقل علب صغيرة من الورق المقوى إلى صندوق
السيارة.. جحظت عينا الموظفين البسيطين، ونظر كل واحد منهما إلى الآخر نظرة اتهام
لبلاهة مرافقه، بل سذاجته وخيبته.. وردد "حامد":
ـ
ألهذا السبب كان الرفض والمنع يقف في طريقنا ونحن نريد فعلا نافعا لهذه الإدارة؟!
بينما
ردد "محمود":
ـ
إنه يوم الاحتفال بالوطن، وكل يعبّر عن وطنيته في بلاد (عربستان) بطريقته
الخاصة.
0 تعليقات
السلام عليكم و مرحبا بكم يمكنكم التعليق على أي موضوع ،شرط احترام قوانين النشر بعدم نشر روابط خارجية سبام أو كلمات مخلة بالآداب أو صور مخلة.غير ذلك نرحب بتفاعلكم مع مواضيعنا لإثراء الحقل التربوي و شكرا لكم.