زمن التهريج في بلاد البهلوانات
المصطفى سالمي
وأخيرا حصل الشاب (مراد) على الشهادة المنتظرة التي أفنى
زهرة حياته من أجلها، لقد تحقق حلم نيل شهادة الدكتوراه في العلوم الفيزيائية
بدرجة امتياز، وحتما ستتحقق كل الأماني الجميلة، لقد مرت سنوات طويلة من الأبحاث
والتجارب كأنها مجرد طيف عابر أمام ناظري الشاب، لكنها لم تكن تخلو من كفاح وألم
ومعاناة، تتراءى له اليوم حياته كسحابة مرّت وانقشعت، وسيكون الأروع والأحسن في الانتظار،
هكذا يأمل (مراد) ويتوقع.
خرج الشاب من قوقعة عوالم الكتب والمختبرات والتجارب
المصغرة، إلى مرارة واقع حقيقي عليه أن يجربه ويختبره، الواقع الخارجي صخرة حقيقية
تتكسر عليها عظام الحالمين ما لم يتسلحوا بالواقعية اللازمة. بدأ (مراد) يقدم
طلبات العمل لعدة إدارات ومؤسسات علمية في بلده، ولكنه اكتشف سريعا أن معايير
الاختيار لديها كانت شيئا آخر غير الكفاءة والتميز، فهل هي المحسوبية والانتهازية؟! كان الشاب يعتقد ويؤمن بأن الكفاءة العلمية لا غنى عنها
حتى في عوالم اللامبدأ، هكذا كان يفسر الأمور ويبررها، إذ لا بد للرديء أن يستعين
بالجيد شاء أو أبى وذلك لتستمر دورة الحياة، لكنه اكتشف أن المطلوب في بلده هو
الخامل فقط ولا غير، ولتذهب الأمور إلى الجحيم على ظهر هذه السفينة المتآكلة. كان
(مراد) يرى بأم عينيه من هم دونه كفاءة وتميزا ينقضون على المناصب بقدرة قادر، وهو
الذي كان الأول في الفصل وفي البلدة وفي كل مراحل الدراسة أصبح كأنما لا تدركه
أبصار هؤلاء القوم، وما عاد يلفت انتباههم..
جرب (مراد) مهنا مختلفة في زمنه المتمدد، وكأنما ليثبت
للعالم بأنه غير مترفع عن المهن البسيطة، وأنه لا يطلب المستحيل، وأن تخصصه العلمي
لن يعتبره عائقا لو أسند له عمل قريب من مجال تكوينه، كان يتمنى من أعماقه أن
يستفيد هو، وأيضا أن يُفيد وطنه وأمته بعصارة دراسته وأبحاثه، ولكنه يجد نفسه اليوم
يمارس بيع الملابس المستعملة، أو يساعد أحيانا أخرى والده في دكان البقالة..
استمر وضع الشاب
إلى أن كان ذلك اليوم المشهود، لقد قرأ صاحبنا في إحدى الجرائد إعلانا يبحث فيه
صاحبه عن (بهلوان)، أجل فالإعلان يطلب بهلوانا من أجل إدخال الفرحة والبهجة على
نفوس الصغار، ورغم أن الأمر كاد يثير ضحك صاحبنا أول الأمر، لكنه خاطب نفسه
بواقعية العصر:
ـ لِمَ لا أجرب وأختبر هذه المهنة كما كنت أختبر وأجري
التجارب العلمية أثناء كل مراحل دراستي؟!
ظن زملاء وحتى أهل وأقارب (مراد) أنه هازل في ما عزم
عليه، ولكنه نجح في الاختبار من حيث لم يتوقع أحد، وحقيقة الأمر أن منافسي الشاب
كانوا متوترين، أما هو فلم يكن الأمر يفرق معه، فالنجاح والفشل سيان بالنسبة إليه،
لقد مضى وانصرم عهد الإحساس بالحرج والخجل من هاجس الفشل، كان أيام الدراسة وقبل الحصول على شهادة
الدكتوراه يعد المرتبة الثانية مرادفا للفشل ونهاية للدنيا، ولكن بعد ذلك تغيرت
الأمور وتكسرت النصال على النصال، لقد أصبح واقعيا أكثر من الواقعية.
بدأ (مراد) يتجول ـ ضمن فريق "هيا نضحك" ـ بين
المؤسسات التعليمية ورياض الأطفال على امتداد ربوع الوطن، كان صاحبنا يطلي وجهه
بأصباغ مختلفة، ويرتدي ثيابا فضفاضة، ويمسك مزمارا يحدث به أصواتا، ويقوم بتقليد
الحيوانات، فهو تارة يقفز، وأخرى يقع ويقوم وينط.. والصغار يضحكون ويمرحون، كانوا
سعداء بمشاهدة حذائه الكبير وسرواله المنتفخ الذي نقشت عليه أشكال هندسية وألوان
بديعة.. هكذا انغمس البهلوان (مراد) في الدور الجديد، هل تُرى هذا المجتمع اكتشف
فجأة ملكاته ومواهبه؟!لقد رفضت في السابق عديد طلبات العمل التي كان يقدمها بدعوى عدم تلاؤم
التخصص..
كان (مراد) حين يعود في كل مساء، يقطع مع شخصية المهرج
البهلوان، ليجالس نفسه الحقيقية ويحدثها حديثا صادقا، حقا لقد أصبح مرتاحا ماديا،
عائده أحسن من كثير من موظفي بلده السعيد، لكن أعماقه كانت تسأله عن شاب لامع كانت
له ذات يوم أحلام كبرى بأن يفيد بلده في مجالات البحث العلمي، لكنه وجد طرقا
مسدودة زرعت فيها الأشواك، بينما كانت أبواب الهزل والعبث ممهدة للسالكين!
0 تعليقات
السلام عليكم و مرحبا بكم يمكنكم التعليق على أي موضوع ،شرط احترام قوانين النشر بعدم نشر روابط خارجية سبام أو كلمات مخلة بالآداب أو صور مخلة.غير ذلك نرحب بتفاعلكم مع مواضيعنا لإثراء الحقل التربوي و شكرا لكم.