إبداع أدبي تربوي (قصة) بعنوان: كلام من هنا وهناك
المصطفى سالمي
جلس السيد (رؤوف) في أحد المقاعد الخلفية للحافلة
المتجهة لمدينة الجديدة من أجل دفع ملف صحي هناك، وذلك للتعويض الهزيل عن المرض،
وما أكثر العلل التي بدأت تفتك ببدنه الواهن بعد عقود طويلة شاقة من العمل المتعب
بمهنة التدريس. ترنحت وتمايلت الحافلة قليلا قبل أن تشق طريقها نحو
مقصدها، بينما
كان شخصان أمامه لا يتوقفان عن الحديث بصوت مرتفع وكأنهما يحسبان نفسيهما وحدهما
ولا أحد في المكان غيرهما، لم يكن السيد (رؤوف) يهتم أول الأمر لما يدور بينهما،
لكن الحديث لفت انتباهه وجر مسامعه حين تشعب وأصبح ذا شجون بالنسبة له، كان أحدهما
يرتدي جلبابا رماديا والآخر معطفا أسود، وأبدى الأول ـ الذي يبدو أنه يشتغل بمهنة
البناء ـ الشكوى من رجل تعليم أثار استفزازه:
ـ تصور أن هذا الرجل المتعلم يريد مني أن أنتهي من السقف
في أسبوع واحد، هذا المعتوه لا يدري أن الله خلق السماوات والأرض في ستة أيام..
ويرد عليه صاحب المعطف الأسود:
ـ لو كنت أعلم أنك ستشتغل عنده ما وافقتك، إن رجال
التعليم لا ينبغي التعامل معهم بالمرة..
ـ هؤلاء المدرسون يحسبون أنفسهم يفقهون في كل الأمور
والقضايا، الواحد منهم يظن نفسه طبيبا وقاضيا وسياسيا وكل شيء، ويمكن أن يحدثك في
كل الأمور بثرثرة لا تتوقف، والمشكل أن الزوجة المعلمة تأتي لتطالبني بمطالب
مختلفة عن تعليمات زوجها، فأضطر لهدم جدار أو أغير مكان نافذة أو باب، لقد ندمت
أشد الندم على العمل عند رجل التعليم، وقررت التوقف عن استكمال الأشغال عنده ولو
ضاعت علي حقوقي..
ـ لا تترك له حقوقك المادية، فهو وأمثاله يتقاضون الأجرة
الكاملة حتى في العطل الطويلة التي لا يشتغلون أثناءها.
ـ لا أريد شيئا من ذاك المريض وأمثاله، إن هؤلاء
المعلمين جميعهم دون شك مرضى بالعلل العصبية وأيضا العقلية..
كانت كلمات الرجلين تنفذ في جسد وإحساس السيد (رؤوف)
كالسهام الحادة، وحقيقة الأمر أن الأستاذ الجالس خلفهما كان رأسه قد اشتعل شيبا،
بعد أن تقلب بين فصول التدريس في مناطق متشعبة على طول البلاد وعرضها، وكان يتوهم
أن المجتمع بكل فئاته لا يلهج ذكره إلا بمناقب وحسنات المدرسين وفضائلهم على
المجتمع، كان هذا هو اعتقاده الراسخ، وكان يدافع عن هذا الرأي بشكل مستميث. حقا
كانت تتوارد إلى مسامعه عديد النكت الساخرة التي تعرض بالمدرسين وتركز على شحهم
وبخلهم، ولكنه كان يعدها إقرارا غير مباشر بفضلهم وعدم تحولهم إلى نصابين أو إلى
لصوص فيكتفون بالقليل الحلال عن الكثير الحرام، وكان أحيانا يسمع اتهامات عن مافيا
الساعات الإضافية، ولكنه يعدها استثناءات، أو ربما حملات مغرضة تحاول النيل من فئة
المدرسين، وتسعى لهدم صرح التعليم برمته، وهو آخر المعاقل التي بها يمكن تحقيق
التغيير والإصلاح..
كان صاحبنا يؤمن بأن من يسميهم "ورثة
الأنبياء" من فئة المدرسين ليسوا ملائكة لا يأتيهم الباطل من بين أيديهم ولا
من خلفهم، ولكنهم ليسوا بالشياطين الذين ينبغي أن يصب المرء كل الخطايا عليهم..
لقد كانت صدمة السيد (رؤوف) كبيرة فقط لكون الرجلين المتبرمين من كل فئة المدرسين
هما من الفئة المسحوقة ومن الناس البسطاء ـ كما يبدو من مظهرهما ـ وأنهما اتهما
هذه الفئة بالعصبية والعلل النفسية، علما بأن المجتمع بصغاره وكباره هو مَن أوصل المدرسين
إلى حافة الانهيار النفسي والعصبي، وقد كان السيد (رؤوف) نفسه ـ وما زال ـ يعاني
من تبعات علل عصبية رهيبة، فكأنما كلام الرجلين صب مزيدا من الزيت على النار.. كاد
الأستاذ أن يتدخل في الحوار، ولكنه خاف أن يتهم بأنه يؤكد كلام الرجلين، أو أن
يلفت أنظار باقي الركاب الذين كان كل منهم غارقا في همومه الشخصية، ولكنه قرر فجأة
أن يعيد النظر لكل ما قالاه ومن زاوية محايدة، ألا يمكن أن يكون كلامهما هو
الحقيقة نفسها؟! لماذا إنكار الواقع ومحاولة إخفائه بالغربال، إن معاشر
المدرسين هم فعلا يتكلمون كثيرا ويحسبون أنهم يفقهون في كل كبيرة وصغيرة، ألم
يتحدث أحد فطاحل الأدباء ـ وهو الجاحظ ـ عن معلم الصبيان ولم يترك نعتا من النعوت
المضحكة إلا وألصقها به، رغم أنه رمم عباراته بقوله: (نستغرق محمود خصاله، ويستغرق
مذموم خصالنا.. ويكسبنا عقلا، ويكتسب منا جهلا)، لقد أكد الجاحظ أن عقلية معلم
الصبيان تتضاءل حتى تصبح في حجم عقلية طفل صغير لشدة الارتباط بهؤلاء الصغار
وانشغالاتهم واهتماماتهم، إن المدرسين هم هكذا شاء أم أبى، لكنهم ضحايا وهو واحد
منهم، إن الأستاذ (رؤوف) لولا العطل التي تحدث عنها صاحب المعطف الأسود ـ ويرددها
غيره ـ لما استمر في العمل يوما واحدا في هذه المهنة لا هو ولا غيره من المدرسين، هذه
العطل هي ما يعيشه حقا هؤلاء جميعا، هي ما يستمدون منه قليلا من الطاقة للاستمرار
في الحياة وفي البذل والعطاء.. تذكر الأستاذ (رؤوف) قصة الشجرة والمنشار الذي شرع
يقطع أطرافها جزءا بعد الآخر، تأوهت الشجرة وسالت دموعها، وحين سألها العصفور عن
بكائها جاوبته: (لا أبكي بهذه الحرقة بسبب حديدة قاسية صلبة، ولكن حرقتي لأن
مقبضها الخشبي هو مني، وعشت أرعاه وأتعهده)، هكذا كانت آلام الأستاذ الجالس خلف
المشتكيين المتبرمين..
انتبه الأستاذ (رؤوف) إلى أنه وصل إلى مقصده حين تعالى
صوت السائق يهنئ الركاب على سلامة الوصول، تمنى وقتها السيد (رؤوف) أن تصل به رحلة
الحياة بأسرها إلى شاطئ الأمان والسلامة، وأما كلام الناس ففيه كثير من الصحة،
وأيضا كثير من التحامل الذي ينبغي تصحيحه بالعمل الحقيقي، وبالكفاح الصامت دون
انتظار مجاملات من هنا وهناك!
0 تعليقات
السلام عليكم و مرحبا بكم يمكنكم التعليق على أي موضوع ،شرط احترام قوانين النشر بعدم نشر روابط خارجية سبام أو كلمات مخلة بالآداب أو صور مخلة.غير ذلك نرحب بتفاعلكم مع مواضيعنا لإثراء الحقل التربوي و شكرا لكم.