دموع خريف العمر..
|
المصطفى سالمي
كان امتحان الالتحاق بالمركز التربوي الجهوي يتكون من
شقين: شق الصباح وشق المساء، وبينهما فترة استراحة لتناول وجبة الغداء. تفرق
المتبارون باتجاه المقاهي والمطاعم في انتظار الفترة المسائية، أما هو فأخرج بعض
الأكل من محفظته وجلس أمام باب المركز في مكان
ظليل، وبدأ أثناء ذلك يتصفح بعض
أوراقه القديمة لدروس في مادة قال عنها ابن جنّي:(لا يحيط باللغة العربية إلا
نبي). اقترب منه رجل عجوز ثمانيني وقد ترك عربته الصغيرة التي كان يدفعها بيده
يحمل فيها نبتة "النعنع" تفوح رائحته الزكية، والتمس منه مراقبتها ريثما
يعود ببعض العشب من الداخل. ثم انسل العجوز للداخل حاملا منجلا وكيسا فارغا مستغلا
غفلة وانشغال الجميع وقت الغداء حيث تقل الحركة في الظهيرة. ومضى زمن قبل أن يعود
بكيس مليء بعشب طري. شكر العجوز الشاب داعيا له بالنجاح، وتبادل معه كلمات تعرف من
خلالها المترشح للامتحان أن للرجل المسن خروفا اشتراه ـ هذه السنة التي عم فيها
الجفاف البلاد ـ بثمن بخس جدا، وكأنما أراد أصحابه التخلص منه بعد أن أصبح هزيلا
وأوشك على الهلاك. فكان عشب المركز التربوي الجهوي الذي يُسقى باستمرار هو الوسيلة
لعيش الخروف. كما سرد الشاب أيضا على العجوز قصته مع البطالة المتمددة على رصيف
حياته، وحاجة أسرته لعمله بعد موت والده، وتلقى مزيدا من الدعوات التي استشعر
صدقها وحرارتها من نبرات الشيخ، وافترقا ذلك اليوم..
تمر أيام الامتحانات في جوانبها الكتابية والشفهية،
وينجح الشاب ويقطن بداخلية المركز التربوي الجهوي، وتتوطد علاقته بالعجوز ويتعرف
على حكاية لا كالحكايات، فللعجوز ابن كان يشتغل بالمعمل الشريف للفوسفات، لكن
انبعاث غازات سامة ذات يوم باتجاهه أدى إلى تشنج وانقباض في أطرافه السفلى، وتفاقم
وضعه بعد ذلك فشلت قدماه وعجزتا عن حمله. حاول الوالد طلب المساعدة من الإدارة
المركزية، لكن الأخيرة اكتفت فقط بالتحليلات والكشوفات وبعض الأدوية البسيطة. وفي
إحدى العيادات كشف طبيب مختص عن ضرورة إجراء عملية مكلفة تتطلب عشرة ملايين سنتيم.
ولكن من أين للعجوز هذا المبلغ وهو الذي يعيل ابنه المشلول وزوجة الابن وأحفاده
الثلاثة ؟! وحاول من جديد استعطاف المسؤولين بالإدارة المركزية،
ولكنهم لم يهتموا لأمره وادعوا بأن إصابة هذا العامل لا علاقة لها بعمله. وأغلقوا
أبواب الأمل في وجهه. لم يكن العجوز يملك إلا ذلك البيت الذي يقيم فيه العجوزان
وابنهما وزوجته والأحفاد، ففكر العجوزان في بيعه، لكن الابن المشلول هدد بالانتحار
إن تم بيع البيت الذي يؤويهم جميعا وبدونه يتشردون، وأضاف الابن: "من يضمن
لنا أصلا أن تنجح العملية فلا نحن ببيتنا ولا أنا استعدْت عافيتي". هكذا أصبح
العجوز يتكفل بابنه وأحفاده ويبيع النعنع ليشتري ضروريات الحياة .. والتمعت عينا
الرجل ذي اللحية البيضاء بالدموع وهو يحكي تفاصيل الحكاية الأليمة، وأضاف بألم :
"لو أن ابني مات أثناء ممارسته لعمله ما تألمت كما أتألم اليوم لمنظره
ولمعاناته، إنه يموت في اليوم الواحد ألف ميتة ونحن ننقله من مكان لآخر أو لقضاء
حاجته كأنه طفل صغير.."
كان العجوز يمتاز بعزة النفس وبالأنفة، هذا ما عرفه
الشاب وما كشفه لزملائه الطلبة وهو يعرفهم على مأساة الرجل وضرورة التعاطف معه دون
الإساءة لمشاعره، فأصبح كثير من الطلبة الأساتذة يشترون منه النعنع بحاجة أو بدون
حاجة إليه، ويقدمون له بعض الهدايا عبارة عن ملابس له ولأحفاده.. وذات يوم اجتمع
الطلبة وتداولوا فيما بينهم سبل مساعد الرجل العجوز التعيس، وقرروا التعريف بحالته
عبر الجرائد، في وقت لم تكن الأنترنيت ووسائل التواصل الاجتماعي لها صيت بعد.
وتتواصل شهور التكوين بالمركز الجهوي، وكلما لمح العجوز الشاب إلا ويدعو له بدعوات
الخير والنجاح والتوفيق في حياته.
ينتهي العام الدراسي ويتشتت شمل الطلبة الأساتذة، وكل
وقدره مع التعيين عبر ربوع المملكة. وتمر سنتان قبل أن يعود الشاب الذي التحق
بالأقاليم الجنوبية إلى المدينة التي قضى فيها سنة تكوينية على أمل الالتقاء
بأصدقائه واسترجاع الذكريات.. وسأل عن الرجل العجوز، لكنه صدم حين أخبره "السيد محفوظ" صاحب
الدكان المقابل للمركز التربوي بأن العجوز بائع النعنع انتقل إلى رحمة الله منذ
عام، أما ابنه فقد استعاد عافيته دون إجراء العملية الجراحية وربما مفعول بعض
الأعشاب الطبية الشعبية كان كافيا في مزاعم بعضهم. وأما الصغار فينعمون بالحياة
ويواصلون دراستهم بنجاح، وربك يتكفل بالطير في السماء فلا يعجزه شيء في الأرض..
يضيف صاحب الدكان. ويتوجه صاحبنا إلى نفس المكان الذي جلس فيه وقت الظهيرة لتناول الغداء حيث اقترب منه
الرجل العجوز حاملا كيسا ومنجلا، وتراءت له الذكريات القديمة حين كان يتصفح
أوراقه، الآن يتصفح أوراق حياته المتناثرة هنا وهناك، لقد رحل رجل طيب أحس في
تعامله معه بعض ما كان يستشعره من عطف والده الذي رحل منذ زمن بعيد حتى قبل أن يرى
ثمرة كفاحه وذلك بعد أن ألمّ به مرض عضال
وقف الطب أمامه عاجزا، لقد رحل عجوز آخر
وقف هو هذه المرة عاجزا عن فعل أي شيء لإدخال الفرحة إلى قلبه، رحل الرجل وما كان
يدري أنه سيبكي في أرذل عمره جحود وتنكر المجتمع لأبنائه.
0 Comments
السلام عليكم و مرحبا بكم يمكنكم التعليق على أي موضوع ،شرط احترام قوانين النشر بعدم نشر روابط خارجية سبام أو كلمات مخلة بالآداب أو صور مخلة.غير ذلك نرحب بتفاعلكم مع مواضيعنا لإثراء الحقل التربوي و شكرا لكم.