إبداع أدبي تربوي (قصة) بعنوان: لا تُتعب نفسك..!‎

الإدارة يناير 12, 2017 يناير 14, 2017
للقراءة
كلمة
0 تعليق
-A A +A

إبداع أدبي تربوي (قصة) بعنوان: لا تُتعب نفسك..!‎

المصطفى سالمي


المصطفى سالمي
جلس الأستاذ (سمير) على مكتبه يصحح أوراق التلاميذ للفرض الثاني خلال هذه الدورة، تعمد أن تكون الأسئلة بسيطة واضحة ومحترمة للإطار المرجعي، لقد أمضى سنوات طويلة تلاءمت فيها نفسيته مع مختلف الأجوبة، فما عاد هناك جواب يستفزه كالسابق، لقد عايش ودرّس أجيالا من التلاميذ المميزين
الذين كانوا يكتبون مواضيع في الإنشاء من صفحتين أو أكثر، مع اقتران ذلك بالجودة والعمق.. كاندرسُ التعبير وقتها مستقلا عن مكوني النصوص والدرس اللغوي، رحِمها الله من أيام. اليومَ يُطلَب من المتعلم أن يكتب بضعة أسطر في مهارة أو تقنية من تقنيات التعبير، ورغم ذلك لا يجد تلميذ اليوم ما يكتبه على البياض، ربما البياض والفراغ داخل الجماجم المتحركة حيث الفقاعات والترسبات التي كرسها إعلام البرامج السطحية بقوة الصورة وجبروتها.
كانت الأوراق تمر بشكل سريع أمام ناظري الأستاذ (سمير)، تارة يضحك، وتارة تنقبض ملامحه، وأخرى يبدو جامدا كأنه في وضعية شرود ذهني.. بعض الأوراق كان أصحابها يعيدون كتابة الأسئلة لملء الفراغات، وبعضهم يعيد استنساخ نص الانطلاق، وكأن الأسئلة هي ألغاز غامضة، مع أنها تطالب أحيانا باختيار عنوان مناسب للنص أو بكلمات معدودة تنتمي للمعجم الوطني، أو تقديم شروح لكلمات إما بالمرادف أو الضد، بل إن بعض الأسئلة اقتصرت على المطالبة بوصل جمل ـ على اليمين ـ بأجوبة ـ على اليسار ـ بخط مستقيم، لقد تعمّدت أسئلة اليوم تقريب الجواب من خلال اختيارات، وهذا مثل المسابقات التلفزيونية التي تقدم الجواب جاهزا تقريبا لإشراك أكبر عدد ممكن من المشاهدين، وعوض أن يضع تلاميذ الأستاذ (سمير) العلامة في الخانة المناسبة ـ كما شرح لهم ـ كان كثير منهم يكتب العلامة في كل الخانات، و آخرون لم يترددوا في التشطيب على الجواب واستعمال المبيض هنا وهناك، مما يجعل ورقة الامتحان أشبه بلوحة تشكيلية تكعيبية، أو ربما لا تنتمي لأي من مدارس فن الرسم التي عرفها تاريخ التشكيل، فقد اختلط فيها الحابل بالنابل، وأصبحت الخطوط متداخلة طولا وعرضا وانعطافا وانحرافا والتواء.. فهل هي الكتابة المسمارية أو الهيروغليفية..؟!ورغم كل هذا لم يفقد الأستاذ (سمير) هدوءه، ولم تستفزه الأوراق الكثيرة الموضوعة أمامه، لقد كان شعاره الذي يردده في أعماقه باستمرار هو: "لا تتعب نفسك!"، لقد كان متأكدا أن أي انفعال لن يغير في الواقع شيئا، يكفيه أن يقرأ طرائف عديدة تخفف عنه وطأة المهمة الصعبة التي هي تصحيح عشرات بل مئات الأوراق، والأكثر ـ من كل ذلك ـ هو عبثية هذا الفعل حين لا يستفيد أغلب التلاميذ من أخطائهم بالمرة، إن أعينهم تنصب فقط على الدرجة والنقطة، أما الأخطاء فلا يهتمون بها، وبعضهم فَقدَ حتى الإحساس بالنقطة نفسها، إذ أثرها شبه معدوم عند الكثيرين ممن لا تؤثر فيهم درجة ضعيفة أو توبيخ أو إنذار وما شابه ذلك من أصناف التقييم والدرجات التقديرية والتصنيفات..
كان الأستاذ (سمير) يغبط ـ في قرارة نفسه ـ أساتذة اللغة الفرنسية الذين ينتهون في الفروض والامتحانات الإشهادية من تصحيح أوراق التلاميذ بسرعة فائقة، ذلك أن المتعلمين لا يجدون ما يكتبونه بلغة موليير، فيتركون البياض يسخر ويهزأ بهم، تُرى مَن يضحك على مَن في هذا الزمن؟!عقود طويلة من تصحيح أخطاء لا تنفك تتضاعف على صفحات أوراق الفروض والامتحانات، ومستوى يزداد هزالا سنة بعد أخرى، فهل هي أزمة قراءة أم تبعات وسائل إعلام وتقنيات معلومات؟ هل هو البؤس التربوي أم ضعف سلطة الآباء؟ أو هو إفلاس منظومة بأسرها؟!
لَمْلَمَ الأستاذ (سمير) أوراق الامتحان وقرر أن يستريح من عناء المهمة الصعبة قليلا، لقد انتهى من تصحيح أوراق قسم بكامله، وما زالت تنتظره أوراق أقسام ثلاثة أخرى من مستوى الأولى، قام بِعدّ الأوراق التي حصل أصحابها على المعدل، فوجد أن الرقم هو ثمانية من مجموع ستة وأربعين ورقة،إنهم أقل من الخُمس، هؤلاء الثمانية في الحقيقة هم الذين يستحقون أن تقال فيهم عبارة: "إنني أخشى عليكم!"، هكذا ردد الأستاذ (سمير) في قرارة نفسه. لقد كانوا في زمن مضى ـ منذ عقود بعيدة ـ يطلقون هذه العبارة في حق التلميذ الخامل المتكاسل، لكن الأمور انعكست رأسا على عقب، فالمهتم بدروسه في هذا الزمن هو الأحق أن يخاف عليه مدرسوه وأولياء أموره، اليوم الخشية على الجاد في زمن الهزل والهزال!

اقٍرأ جميع إبداعات الكاتب المصطفى سالمي


شارك المقال لتنفع به غيرك

إرسال تعليق

0 تعليقات


 

  • انشر مواضيعك و مساهماتك بلغ عن أي رابط لا يعمل لنعوضه :[email protected] -0707983967او على الفايسبوك
     موقع الأساتذة على  اخبار جوجل - على التلغرام : المجموعة - القناة -اليوتيب - بينتريست -
  • 1141781167114648139
    http://www.profpress.net/?m=0