تابــــــــــــع فقرات من كتاب "شاهدونا ونحن نخرب بيوتكم: الحداثة والإعلام"
مجــالات التنــافسية في العالم القروي
عبد الله لخلوفيمشروع كهربة العالم القروي مشروع جريء يحدث نقلة نوعية على طريق التحديث الشامل للريف المغربي وفك عزلته عبر ربطه بشرايين البلاد الاقتصادية وانفتاحه على العالم الخارجي عبر أطباق استقبال البث التلفزيوني. فهل تم فعلا إحداث هذه النقلة النوعية، وتم ربط العالم القروي بشرايين البلاد الاقتصادية؟ رأينا جميعا أنه لم يحدث شيء من كل هذا، فكل ما حدث هو انفتاح كلى على
فضاءات إعلامية من كل الآفاق، وبكل ألوان الطيف، لا حد لتأثيراتها السلبية في عقليات سكان قرانا وبوادينا المعزولة؛ أما مدننا فلها السبق فيما حدث ويحدث. يحدث كل هذا في غياب تام لإعلام وطني وقائي يعمل على التأسيس لحداثة تحديثية حقيقية للمجتمع، تدفع بالمواطنين والمسؤولين للعمل على إحداث أوراش اقتصادية متنوعة، من كل الأحجام، تنقل العالم القروي من العزلة المطبقة إلى الانفتاح الإيجابي والفعال على اقتصاد البلاد وباقي اقتصاديات العالم. بل، فكما رأينا، فإن قنواتنا التلفزيونية كانت أشد سلبية على العالم القروي من الفضائيات الأجنبية، حتى المغرضة منها. لقد تم إحداث دمار شامل في النسيج الاقتصادي القروي المحلي الهش، بحيث تحوّل القروي من منتج لما يستهلك من حبوب وخضراوات وفواكه ولحوم وبيض (مواشي ودواجن) إلى مستهلك، لا إمكانيات مادية له، تمكنه من الاستجابة لمتطلباته اليومية التي عمل الإعلام التلفزيوني، عبر المسلسلات المكسيكية المدمرة والوصفات الإشهارية المستفزة، على الرفع منها إلى حد كبير. فزيادة على حاملي الديبلومات، العاطلين والمعطلين، الذين يملؤون شوارع الرباط العاصمة وباقي المدن الأخرى، ساهم الإعلام "الدوزيمي" (يشمل هذا المصطلح كذلك كلا من القناة "الأولى" و"ميدي سات") الرائد في إحداث التوازن مع البادية بالتسبب في خلق معطلين (لا يعملون ولو مع وجود فرص العمل) قرويين يشكلون بدورهم قنبلة موقوتة في النسيج الاجتماعي المغربي (في السنين الأخيرة يتم البحث عن رعاة الغنم بـــ 2500 درهم شهريا ولا وجود لهم......).
قلت من قبل، يا ليت قناتي "دوزيم" و"الأولى"، وكذا "ميدي سات" عملت على بث مسلسلات من صنف مسلسل "دالاس" الأمريكي الذي يؤسس لثقافة رأسمالية متطرفة، لا مكان فيها للعاطفة والأحاسيس. فلا يمكن مقارنة هذا المسلسل الغربي، الذي تم رفضه حتى من الألمان في بداية الأمر، مع المسلسلات المكسيكية المنحطة التي تؤسس لثقافة التعاطي للمخدرات (ترويجا واستعمالا) كشرايين اقتصادي قائم بذاته، وكذا التطبيع مع الإباحية الجنسية المولدة لثقافة الأطفال الطبيعيين (وهل أطفال الأمهات المتزوجات غير طبيعيين؟) والأمهات العازبات (في مقابل ماذا؟). إنه التأسيس لحداثة تدمر كل المقومات الحضارية وتؤسس لأنماط من العلاقات الاجتماعية بين الرجل والمرأة لا طابوهات تحدها؛ علاقات تؤدي إلى تفريخ جيوش من الأطفال المفتقدي الهوية، المتخلى عنهم والذين تعج بهم المؤسسات الخيرية التي لم تعد تف بالحاجيات من هول تفشي الظاهرة واستحكامها.
نعم، يربي مسلسل "دالاس" المشاهد على الرجولة والخشونة والندية، بحيث يتعاطى أفراد عائلة إيوينغ الغنية لتربية المواشي (الأبقار) والخيول والعمل داخل الضيعات، زيادة على الاستثمار في البترول والمضاربات في أسواق المال. فقد كان على دوزيم، كقناة إعلامية وطنية يمولها المغاربة، أن يكون لها السبق في التأسيس للحكامة الحقيقية كمنهج عمل لترشيد مشروع كهربة العالم القروي، وتوجيهه وجهة التأسيس لثقافة العمل والتحفيز على أخذ المبادرة للقطع مع ثقافة الخمول والتواكل. فلكي يستفيد المغرب من مشروع الكهربة القروية على أحسن وجه ممكن، كان على إعلامنا أن يساير الركب ويوجهه الوجهة السليمة، عبر بث مسلسلات وأفلام ووصفات إشهارية تمجد العمل في القرى والضيعات وتحث عليه. فكم هي المسلسلات التلفزيونية الغربية والأفلام القيّمة، التي تربط الإنسان بالأرض للعمل على إحداث نهضة فلاحية واقتصادية فعلية شاملة، تؤمن للبلاد المتقدم ضمان تقدمه واحتلاله للصفوف الأمامية على الصعيد العالمي. فما على إعلامنا إلا أن يوضح للمغاربة بجلاء أن الدول المتقدمة هي التي تؤمن المواد الغذائية (حبوب، لحوم) لشعوبها وللشعوب التي تستشري فيها ثقافة "الصرار" والقيل والقال والخمول. فلو تراجع الإنتاج الفلاحي للدول المتقدمة لانحدرت وتأخرت إلى صف الدول المتخلفة. من هنا يتبين أن مقولة البلدان المتخلفة بلدان فلاحية، مقولة غير صحيحة نهائيا؛ فلو كانت فلاحية بما تعنيه الكلمة لتقدمت وازدهرت.
يهاجر الشاب المغربي بطريقة شرعية، أو بركوب قوارب الموت، ليصل إلى الضفة الشمالية للبحر الأبيض المتوسط ليعمل عملا مضنيا كأجير في ضيعات الإسبانيين والفرنسيين والإيطاليين، وغيرهم من الدول الأوروبية التي يعمل سكانها ليل نهار، كالنمل. ولا أجد هنا بدا من إعادة الإشارة إلى تلك القصة الغنية عن التعليق، التي مرت بنا أعلاه، لذلك الشاب من مدينة الفقيه بن صالح، الذي باع هكتارا من الأراضي الفلاحية ليغامر بحياته في قوارب الموت بحثا عن جنته الموهومة على الضفة الأخرى للأبيض المتوسط. أظن قطعا أن هذا الشاب يمثل الأنموذج المثالي للشاب المغربي الذي تواطأت على إفساد تفكيره وتجهيله وتدجينه، كل من المنظومة التربوية والمنظومة الإعلامية. لكن، بعد الاطلاع على القصة كلها يتبين أنه لا يمثل الأنموذج، لأنه استوعب الدرس بعد أن اصطدم بالواقع، فعزم أمره وشد رحاله ليعود إلى أرض الوطن، ليحول ما يملكه من أرض (الثلاث هكتارات المتبقية له) إلى ورشة للعمل على طريقة الاسباني السينيور لوبيز، إن تهيأت له الظروف الموضوعية لذلك. هذا الشاب خلق الإعلام (إعلامنا الرسمي على الخصوص والإعلام الشعبوي الذي يعتمد القيل والقال) في مخليته عالما أوروبيا خرافيا، شبيها بمغارة علي بابا، كل من توفق في الوصول إليها، وساعده الحظ في العثور على الجواهر والياقوت والزمرد واللؤلؤ والذهب المخبئ فيها، يصبح من أغنى الأغنياء، من دون كد وجد ومن دون أي عناء. شباب ضائع، تلف الأغبرة والأدخنة الإعلامية الملوّثة مراكز التفكير عنده إلى حد التسبب في قلب المفاهيم رأسا على عقب، أو اضطرابها اضطرابا شديدا. وإلا، كيف يمكن للعاقل أن يستسيغ تكوين كل من نادي "ريال مدريد" ونادي "برشلونة" في المدن المغربية، وخلق جمعيات لدعمهما، مؤشر عليها من طرف السلطات المختصة؟ لقد بلغ الحد بشبابنا حد الهوس من جراء الشحن الإعلامي العبثي الغير مسؤول لذي يعمل على توجيههم كيف يشاء، كالريشة في مهب الرياح
0 تعليقات
السلام عليكم و مرحبا بكم يمكنكم التعليق على أي موضوع ،شرط احترام قوانين النشر بعدم نشر روابط خارجية سبام أو كلمات مخلة بالآداب أو صور مخلة.غير ذلك نرحب بتفاعلكم مع مواضيعنا لإثراء الحقل التربوي و شكرا لكم.