أصحاب مخلب وناب أنيقون
|
المصطفى سالمي
كان الفتى (خالد) مهووسا بالقصص والمسرحيات والدواوين
الشعرية، وقد اختار توجيها أدبيا لأنه محب للمتعة الأدبية، عاشق للخيال وعوالم
الإبداع الأدبي، وقد كان إلى جانب ذلك حريصا على الحصول على الرتبة الأولى دائما،
ذلك أن الرتبة الثانية أو الثالثة تمثل له فشلا ذريعا.. وقد استمر على هذه
الحال
طيلة سنوات دراسته، مستفيدا من تشجيعات مدرسيه، ولم يؤثر فيه الفقر الذي اكتوى به،
وقلة ذات اليد بالنسبة لوالده الذي كان يحترف مهنة البقالة في دكانه البسيط، والذي
كان بالكاد يوفر الحد الأدنى من ضروريات الحياة، كان الوالد يتمنى أن ينجح أبناؤه
في مسار حياتهم الدراسية لعلهم يخففون عن الأسرة البئيسة بعضا من سوء الحال. كان
(خالد) إلى جانب كل هذا يحب المشاركة في الأنشطة المدرسية من تشخيص مسرحي، أو
أناشيد تتم خاصة في المناسبات الوطنية، ويتخيل أحيانا نفسه واحدا من شخصيات
المسرحيات والقصص التي يستعيرها من مكتبة المؤسسة، أو تلك التي يقوم باستبدالها
عند بائع الكتب القديمة بسنتيمات قليلة...
في السنة الثانوية النهائية، كان (خالد) يترقب نجاحا
مدويا يؤشر على باكالوريا مميزة، إلا أنه فوجئ بالنجاح بميزة (مقبول)، تعجب من هذا
الأمر كما تعجب زملاؤه، كانت تجربة
الأكاديمية وقتها في سنتها الأولى بالمملكة السعيدة، وحين طالب بكشف النقط لم
يسمحوا له بذلك إلا إذا كان الطلب ـ في زعمهم ـ مرفقا بأوراق الترشح لمباراة من
مباريات التوظيف التي تشترط هذا الكشف، وعبثا طلب الشاب من والده السعي لمعرفة
نقطه التقديرية، لكن الأب كان كل همه هو نجاح ابنه، وأما الدرجات والميزة فلم تكن
تعني له شيئا، وقد حذر ابنه من عواقب استفسار المسؤولين أو إبداء التذمر، فقد يجلب
له ذلك متاعب هو في غنى عنها.. كان الأوائل وقتها من الحاصلين على ميزة
"مستحسن" أو "حسن" يحصلون على جوائز قيمة يقدمها وزير
الداخلية بنفسه بالثانوية التأهيلية (المعتمد بن عباد) بقلب مدينة سطات التي ينتمي
إليها الوزير، كما أن هذه التجربة الجديدة في إحداث الأكاديميات الجهوية للتربية
كانت تتيح التباري في إطار مسابقة وطنية في العاصمة الرباط يتوج الفائزون فيها
بجوائز يقدمها عاهل البلاد..
رضي (خالد) بالنجاح المر، منتظرا مساعدة من أحد مدرسيه
في كشف نقطه، في زمن غابت فيه الشفافية، وتلاعبت فيه الأيدي الخفية حتى بالدرجات
التقديرية لأبناء الفقراء من أمثاله. كان الشاب متأكدا من ظلم خفي تلقاه، وانتظر
أن تكشف له الأيام خفاياها..
في السنة الثالثة من سنوات الجامعة، وبعد حصول (خالد)
بأسابيع على شهادة السلك الأول بتميز من جامعة الحسن الثاني بالبيضاء، قرر أن
يجتاز إحدى المباريات المهنية، فقط ليحصل على كشف نقطه للباكالوريا، وفعلا قدّم
الطلب لموظف بالأكاديمية بمدينة (سطات)، استمهله الرجل قليلا بعد أن تسلم منه نسخة
من شهادته، ثم خرج الرجل وقدم كشفا صادما
للشاب الذي طالبه بتأمل الدرجة التقديرية المثبتة في كشف النقط، ومقارنتها بميزة:
(مقبول) المدرجة في الشهادة.. طلب منه الموظف ـ الذي تغيرت ملامحه أو هكذا بدا
للشاب ـ دقيقة للتدقيق وأخذ الورقتين، وأغلق عليه الباب.
تعالى صوت الشاب محتجا، وتعالى صراخ صديقه الذي كان
يرافقه، كما تعالت صيحات استهجان من بعض الشباب الحاضرين حين علموا بتفاصيل
النازلة، فخرج السيد مدير الأكاديمية من مكتبه، ليستدعي الشاب للداخل:
ـ لقد اطلعت من الموظف على الخطأ البسيط، أولاد الشعب
أبناؤنا، والمخزن أبوهم.
ـ ولكن هل يرضى "الأب" أن يُظلم أبناؤه؟!
ـ سنصحح هذا الخطأ بسهولة، سأوقع لك طلبا لإحضار الشهادة
الأصلية من الجامعة لتصحيح الميزة، وكأن لاشيء وقع.
ـ والجائزة التي كان من المفروض أن أحصل عليها؟!
ـ سأتصل بمكتبة المؤسسة لتعطيك كتبا وفي تخصصك الجامعي.
ـ أمَا كان يجدر سيدي المدير أن احصل على الجائزة في بُعدها
المعنوي وأتسلمها من يد السيد الوزير، ثم أشارك في المسابقة الوطنية..
ـ مشيئة الله فوق الجميع يا بني، والخطأ الإنساني وارد
دائما!
كان الشاب يعرف أن مشيئة الله حقا تتصرف فينا جميعا، لكن
الذئاب البشرية كانت تغلف الأقدار بمبررات دينية للتصرف في من تعتبرهم خرفانا، لقد
حصلت ابنة (مقدم) الحي على الجائزة بدله وتسلمتها من يد السيد الوزير، ولم تقرأ
كتابا واحدا من كتب الجائزة، إنها زميلته في الفصل الدراسي للباكالوريا، وقد
استعار منها هذه الكتب واحدا بعد الآخر في العطلة الصيفية مباشرة بعد الحصول على
هذه الشهادة، لقد تأكد الشاب بعد أن عاين كشف نقطه أن الدولة تكافؤ خدامها الأبرار
في شخص أبنائهم، على حساب أمثاله من أبناء الفقراء، وإذا احتج أو تبرم، فإن
(المقدم) سينقل أن هناك متمردا أعجبته نفسه،
ويحتاج من يرده لجادة الصواب، والضحية هو والده التاجر البسيط، وفي الحين تأتي
لجنة لتسجل مخالفات وهمية، وزيادات في الأثمان، أو تثبت وجود سلع تواريخها
تجاوزتها الأحداث.. شئت أو أبيت سيمتصون أدمغة أمثالك من المسحوقين، لا بأس إذن،
فليلتقطوا لهم صورا للذكرى بتفوق كاذب مغشوش، ولكن هل يشتري اللص ضميرا، والمجرم
أخلاقا، والفاجر شرفا؟! هكذا كان الشاب يهوّن على نفسه.
عاد (خالد) لجامعته بملتمس لتصحيح ميزة شهادة
الباكالوريا، أعطوه مهلة يوم واحد لإرجاعها لعمادة الكلية، وفي أكاديمية (سطات)
كُتبت ميزة "مستحسن" بدل "مقبول"، وختم عليها بخاتم الإدارة،
وطلبوا منه النسخ القديمة، وكأنما يريدون التخلص من بقايا جريمتهم، لكنه احتفظ
لديه بعديد النسخ المصادق عليها من الشهادة كشاهد على تزويرهم واحتيالهم.
عاد الطالب (خالد) لجديته المعهودة، عاد بعقلية جديدة،
وكره دفين للأشرار المندسين في مواقع المسؤولية ببلده السعيد، عاد ليعرف أن خيال
القصص التي كان يقرأها في طفولته عن الذئب الغدار والجدة، أو عن الثعلب الماكر
والدجاجات.. ما هي إلا تلميع وتزيين لواقع فتاك مليء بذوات المخلب والناب من أصحاب
ربطات العنق والبدلات الأنيقة في بلاد المغرب "البهي".
0 Comments
السلام عليكم و مرحبا بكم يمكنكم التعليق على أي موضوع ،شرط احترام قوانين النشر بعدم نشر روابط خارجية سبام أو كلمات مخلة بالآداب أو صور مخلة.غير ذلك نرحب بتفاعلكم مع مواضيعنا لإثراء الحقل التربوي و شكرا لكم.