من يوميات مدرس ـ 1 ـ
المصطفى سالمي
اشتعل حماس التلاميذ أثناء مادة النصوص، كان موضوع حصة اللغة العربية يتناول قصة: "الحذاء الجديد"، ذلك أن شخصية بطل النص هو رجل بسيط للغاية، أحلامه صغيرة بحجم بؤسه الشديد، فغيره من الناس يحلمون بالسيارة الفارهة أو الفيلا الراقية أو السفر إلى بلاد العجم، أما هو فحلمه أن يمتلك حذاء جديدا بدل حذائه القديم الذي يشعره بالخجل والحرج، خصوصا وقد ظهرت أصابع
رجليه من فتحته الأمامية الممزقة، حيث يتسرب إليه الحصى، فيصبح المشي في الشارع بالنسبة له معاناة جسدية ونفسية، كان (عباس) ـ وهو اسم بطل القصة ـ يغبط أصحاب الأحذية اللامعة الذين يمشون بمهل وقد انتقل بريق أحذيتهم إلى وجوههم، أما هو فإنه يطأطئ رأسه خجلا من نظرات الآخرين، لقد فقد الثقة في نفسه تماما. وبعد شهور من مداعبة هذا الحلم، وبعد أن وفر المبلغ الكافي لشراء الحذاء الجديد، ها هو يلج دكان الأحذية، فيسأله البائع عن مقاسه، فلا يدري جوابا، لقد مضى زمن طويل لم يقم فيه بشراء حذاء جديد، إذ كان على الأرجح يشتري الأحذية القديمة المستعملة، والتي ما تلبث أن تتمزق وتعيد نفس المعاناة المريرة بعد مدة يسيرة، وها هو صاحبنا يحتضن الحذاء الجديد كأنما يحتضن عزيزا، وكاد ينسى في غمرة الفرح أن يقدم النقود للبائع، وتوجه عباس مباشرة ـ وهو يحمل حلمه الكبير بين ذراعيه ـ نحو حارته، لقد وصل إليها دون أن يدري كيف وصل، وها هو يتوقف أمام البقال الذي تعود أن يشتري منه ما يحتاج إليه من مواد غذائية بسيطة كطعام عشائه الذي يطلبه باستمرار: بضع حبات من الزيتون، ونصف رغيف من الخبز، وقليل من الشاي والسكر، وهنا ارتكب (عباس) الخطيئة التي لا تغتفر، لقد أراد أن يعرف رأي البقال في الحذاء الجديد، وكأنما توهم أنه سيشاركه فرحة تحقيق الحلم، لكن الرجل وبخه على أنه يجد المال الكافي لشراء حذاء جديد ولا يجد مالا ليسدد ما عليه من دين، ثم دس البقال الحذاء الجديد في الخزانة الحديدية كرهينة حتى يسدد عباس ما عليه من ديون متراكمة، وهكذا تحولت فرحة الرجل إلى خجل وغضب وإحباط...
ارتفعت أصابع التلاميذ في الصف الدراسي حين سألهم المدرس (نبيه) عن رأيهم في تصرف البقال اتجاه (عباس)، كان لديهم إجماع على إدانة البائع الذي اغتال فرحة الرجل، ورغم أن المدرس لمح إلى بؤس البائع البسيط الذي أصبح رأسماله مجرد أرقام على دفاتر الزبائن، إلا أن التلاميذ أصروا على أن (عباسا) هو ضحية عدم تفهم البقال لحالته المزرية، وأنه جعل نهاية النص غير سعيدة بالنسبة لهم، لا أحد تحدث عن عوامل سياسية أو اقتصادية أو اختلالات مجتمعية هي سبب نكبة (عباس) وأمثاله من بؤساء هذا المجتمع.
تساءل الأستاذ (نبيه) في قرارة نفسه ـ وتلاميذه يدونون ما هو مسطر على اللوح ـ إن كان من ينبغي لومه هو كاتب النص الذي صور (عباسا) ضحية لجلاد اسمه (البقال)، هذا الأخير الذي ورد شبه نكرة في النص، بدون اسم ولا مواصفات، صفته الوحيدة هي القسوة التي تجلت في إجهاض فرحة رجل اسمه (عباس)، أم المسؤول هو المدرس (نبيه) نفسه الذي لم يفلح في جعل تلاميذه يتعاطفون بنفس القدر أيضا مع البقال، مثلما تعاطفوا مع (عباس)، وهنا تذكر السيد (نبيه) قصة السفينة: "تيتانيك" التي غرقت وغرق معها المئات، وتعاطف مشاهدو الشريط فقط مع بطلها الشاب المقامر، ولم يلتفتوا مجرد التفاتة أسى نحو الآخرين، وكأنهم مجرد أرقام، لا كائنات لها هموم وأحلام وامتدادات مجتمعية.. هكذا إذن أحس الأستاذ (نبيه) كيف يمكن لقصة أو شريط أو أي عمل أدبي أن يوجه الاهتمام ويلقي الضوء على معاناة طرف على حساب أطراف أخرى، فلعل نص:(الحذاء الجديد) لو ابتدأ بقصة بقال اسمه مثلا: (رحال) وهو يعاني من ديون ومن حالة إفلاس، يطارده رب الإيجار، ويعاني أبناؤه أسقاما وعللا، ولا يجد لهم ثمن الدواء، وأنه قد باع أرضه ـ وأرض الأجداد ـ بالبادية من أجل تجهيز دكانه البسيط، ليأتي في نهاية المطاف زبون كان يتوقع منه أن يؤدي أقساط ديونه المتراكمة منذ أسابيع، لعله على الأقل يسدد فاتورة الكهرباء، لكن الزبون فاجأه حين وقف أمامه طالبا رأيه في حذاء جديد اشتراه لنفسه، ربما وقتها تكون المعادلة قد اختلفت موازينها تماما، ولعل الأستاذ (نبيها) قد تنبه إلى أن دور الإعلام ـ لا يقل خطورة ـ في توجيه الاهتمامات والميول ويلعب على مثل هذه الأوتار، من هنا يمكن إدراك كيف أن اختيار النصوص الأدبية التي يتم تدريسها هو عملية موجهة بعناية فائقة، لخلق قوالب جاهزة بشكل مسبق.
اقرأ :
0 Kommentare
السلام عليكم و مرحبا بكم يمكنكم التعليق على أي موضوع ،شرط احترام قوانين النشر بعدم نشر روابط خارجية سبام أو كلمات مخلة بالآداب أو صور مخلة.غير ذلك نرحب بتفاعلكم مع مواضيعنا لإثراء الحقل التربوي و شكرا لكم.