إبداع أدبي تربوي بعنوان: (زمن المقايضة)
المصطفى سالمي لجريدة الأستاذ
جلس (قاسم) يتذكر طفولته وأيام شبابه الأولى، لقد كان يعاني فقرا ماديا مريعا، نعله البلاستيكية لا تفارقه حتى في ذهابه للمدرسة، بل رافقته حتى في سنوات الإعدادي والثانوي، وحين تتمزق كان يربطها بسلك أو أي شيء، وكأنما هي الألفة، لم يكن يهتم لنظرات زملائه أو أبناء الجيران أو يضع في اعتباره سخرية الساخرين، فأغلب المحيطين به كانوا من الفئة الفقيرة أمثاله، وأما القلة المتعالية فإن الأغلبية المسحوقة تجعلهم يتجنبون تحقير واحد من جماعة متحالفة وحدت بينها لغة التضامن الطبقي.. وفي فصل الشتاء كانت أصابع (قاسم) وأمثاله تصبح متورمة زرقاء بفعل البرد الشديد مع ضعف الملبس والمأكل..
كان (قاسم) رغم كل هذا وغيره يعيش سعادة من نوع آخر، وكانت هذه البهجة الغامرة تغطي على كل مرارة الواقع المادي القاسي، فقراءة قصة من قصص المنفلوطي أو جرجي زيدان أو جبران خليل جبران ... كانت تسعده أيما سعادة، وتجعله يحلق في عوالم أخرى، فلا يهتم بواقعه حين يغلفه بلغة الخيال الحالمة. كانوا وقتئذ ـ في سبعينيات القرن الماضي ـ يفصلون بين الذكور والإناث في المؤسسات التعليمية، فربما لذلك كانت الإناث يظهرن كملائكة في زمنه، إذ إن قصص المنفلوطي وأغاني عبد الحليم حافظ تجعله يسبح في عوالم حالمة متعالية في رومانسية الخيال، وكيف لا يكون الأمر كذلك وصاحبنا عاش أيضا في طفولته خيالا أكبر مع نصوص كتاب (اقرأ) وأزمنة "بوكماخ" حيث عنزة السيد (سوغان) التي تحلم بكسر قيود العبودية، والعيش في الغابة بمحاذاة الشجر، على وقع خرير ماء النهر، والفراشات المحلقة فوق الزهر، أو نص الحمار الذي كان يحلم بالسفر إلى القمر، أو السندباد الذي جاب البر والبحر...
لقد أمضى (قاسم) ثلث عمره في خيال، فغدت أفكاره مجنحة لا تستقر على صخرة الواقع، فهو يتخيل كل الكائنات مثله، فماذا ستقول الذبابة أو البعوضة أو الخنفساء لو تكلمت؟ وماذا سيدون الحمار لو أتيح له أن يكتب مذكراته؟ وكيف لو أتيح للصقر أن يرسم العوالم التي يراها في عليائه؟!
تمر السنون، ويصبح (قاسم) موظفا كبيرا، وتقل قراءاته، بل ويصبح بعد حين منقطع الصلة بماضي الفقر والقراءة والخيال، لقد تغير تماما في مظهره، وأيضا في أعماقه وأحاسيسه، لقد كانت المرأة ـ في زمن مضى وانقطع ـ خيالا كتلك التي تظهر على أغلفة الروايات المشرقية، حالمة الطيف، عيناها كعيني المهاة وأهدابها، شعرها كسنابل تلاعبت بها الرياح، شفتاها في حمرة العنب.. الآن يراها (قاسم) كائنا بلا مواصفات، رقما كأرقام المعاملات، أين تلك الخيالات وطيفها؟ أين تلاشت وذابت؟ أين أحلام الطفولة وأحاسيسها؟ ورؤى الشباب البنفسجية؟ أين السعادة في مشاهدة البحر والغابة والورود وألوان قوس قزح وأسراب الطيور المهاجرة؟ الآن ما عادت الفصول وتعاقبها، ولا مكونات الطبيعة ومشاهدها تحرك في صاحبنا حسا، فهل هي لعنة المادة اكتسحت صاحبنا الأنيق؟ صاحب البدلة البراقة والحذاء اللامع الذي لا يمكن تخيله في قدم انتعلت ذات يوم نعلا بلاستيكية ممزقة. فهل سرقت المادة اللعينة السعادة الحالمة أو طردتها إلى غير رجعة؟! أين أيام العطل السعيدة أو سرقة سويعات الدرس والفرار اتجاه الحقول وتسلق الأشجار المثمرة؟! وهل كل أقران (قاسم) هم كذلك؟ أم هم نضجوا بعد مرحلة طفولية اتسمت بخيال لا معنى له؟ وهل أطفال وشباب اليوم هم أيضا يعانون جفافا في الخيال، ونضوبا في السعادة مثل كهول اليوم؟! كل المؤشرات تدل على أنهم مثل بؤس (قاسم) حين تملكته المادة، ستكون المصيبة أعظم إن كان شباب اليوم تعيسا كما يظهر تجهمهم الحالي الذي يغطون عليه ببريق كبريق (قاسم) حين كبر في السن. وهل الكائنات البكماء هي أيضا فارقتها السعادة في زمننا هذا وتوقفت عن الخيال الحالم بالحرية وبالسفر للقمر كما هو شأن عنزة السيد (سوغان) وحمار قراءة السيد (بوكماخ)؟!
تُرى لو طُلِبَ من السيد (قاسم) أن يعود به الزمن للوراء، ويعيد له بهجته المفقودة مع سلب كل ماديات يومه وكل المتاع البراق، ماذا سيكون موقفه؟! أم إن هذه هي المعادلة والمقايضة التي ينبغي أن يقيمها المرء مع زمنه الذي لا يعطي إلا بمقدار ما يأخذ، وربما يأخذ أكثر مما يعطي، من يدري!؟
0 تعليقات
السلام عليكم و مرحبا بكم يمكنكم التعليق على أي موضوع ،شرط احترام قوانين النشر بعدم نشر روابط خارجية سبام أو كلمات مخلة بالآداب أو صور مخلة.غير ذلك نرحب بتفاعلكم مع مواضيعنا لإثراء الحقل التربوي و شكرا لكم.