في الصناعة القاموسية: المعنى والأهداف
كثيرا ما يرتبط هدف الصناعة القاموسية بتأليف القواميس في كثير من الدراسات المنجزة في هذا المجال، ولا تكاد تجد مفهوما واسعا وشاملا لأهداف الصناعة القاموسية، إلا أن بعض الدراسات القاموسية الحديثة تناولت جملة من المفاهيم كالاختصار والتصحيح والاستدراك والنقد ...الخ؟. فما موضوع الصناعة القاموسية؟ وما محل هذه المفاهيم في عملية الصناعة القاموسية؟.
قبل الحديث عن أهداف الصناعة القاموسية، لا بد أن نقف وقفة دقيقة على المقصود بالصناعة في الدراسات القاموسية الحديثة، هذه الدراسة التي تجاوزت معنى التاليف والوضع عند القدامى، وكذلك الفن المتعلق بالجمال المدفوع وراء المشاعر والأحاسيس، دون التقيد بقواعد ونظام، إلى الصنعة القائمة على الإعداد والتخطيط والإتقان، وما تحمله كلمتي الصنعة والصناعة من معاني ، ويكفي أن وردت في القرآن الكريم تعبيرا عن حقيقة معناها في قوله تعالى (صنع الله الذي أتقن كل شيء) ، وموضوعها في الحقيقة أو هدفها لا يقتصر على صناعة القواميس، كما يتصوره الكثير من الباحثين، وما وضع القواميس وصناعتها إلا جزءا وجانبا واحدا ثانويا بالمقارنة مع الأهداف المتوخاة من الصناعة القاموسية ، بل هو جانب ليس هو المهم رغم فائدته التي لا تناقش، وانطلاقا من هذا القول يمكن البحث عن جوانب أخرى من مجالات الدراسة القاموسية، تلك المجالات التي تجعل الصناعة القاموسية أكبر من مجرد صناعة وتأليف القواميس، وأكثر مما تتصوره الدراسات المعجمية القديمة، وإذا كان الهدف من تأليف القاموس في شكله العام وحسب أصحاب المعجم التاريخي هو "وضع معجم يؤرخ لألفاظ اللغة العربية، والفائدة المرجوة هي باختصار تقديم خدمة خاصة لا توفرها أنواع القواميس اللغوية الأخرى" ، فإننا في الحقيقة ملزمون بتحديد هذه الخدمة التي لم تتطرق لها تلك القواميس.
والباحث في الدرس القاموسي الحديث، سوف يقف عند مجموعة من الأهداف وراء الصناعة القاموسية، منها جمع المعلومات والحقائق واختيار المداخل وترتيبها حسب نظام معين، ثم كتابة المواد ونشر ذلك النتاج النهائي ، ثم إن الموسوعة العالمية لعلم اللغة قد وسعت من مفهوم الصناعة القاموسية "ليشمل عملية التخطيط، والتأليف للأعمال المرجعية المرتبة على المداخل مثل المعاجم، (...) وإرشادات الاستعمال التي تعطي معلومات عن لغة ما أو مجموعة من اللغات" ، كما أضاف Bo Svensén في كتابه المترجم إلى الانجليزية بعنوان: pratical lexicography قضيتين اثنتين وهما:
- التأليف عن المعاجم وليس التأليف فيها
- الحديث عن النظريات والمناهج التي تعد الأساس لهذا النشاط ، وهذه إشارة -وإن لم تكن واضحة- للتعبير عن اتساع مجال الصناعة القاموسية، واشتماله على مجموعة من القضايا المهمة والمتعلقة بصناعة القواميس في جانبها التطبيقي، ولأن الصناعة القاموسية حسب Hatmane تشمل إلى الجانب النظري المتعلق بالأسس النظرية التي تحكم العمل المعجمي، جانبا تطبيقيا ، وهو الأهم في الصناعة القاموسية، فإنه لا بد من إلقاء الضوء على مجموعة من القضايا والأعمال التطبيقية في هذا المجال، والتي تأتي في أغلب الحالات بعد صناعة القواميس، إما لاختصارها وتصحيحها أو لنقدها، وغير ذلك من العمليات التطبيقية التي تدخل في الجانب التطبيقي للصناعة القاموسية، وبالتالي تعتبر هدفا لها، وجانبا مهما من جوانبها.
وقد قيل عن القاموس المحيط، كما هو الشأن عن باقي القواميس القديمة، "تلقاه جهابذة العلم بالقبول، وعنوا به شرحا، وتعليقا، واستدراكا، ونقدا" ، وهذه إشارة إلى مجال واسع من مجالات الصناعة القاموسية، وهي مجالات تأتي بناء على قاموس أو مجموعة من القواميس، إما لاختصارها ، أو تصحيحها واستدراك ما ينقصها، وإما شرحها والتعليق عليها، وإما نقدها...الخ، وهذه كلها قضايا لا تنقص أهمية من عملية صناعة القواميس فقط، وسوف نقف عند كل قضية من هذه القضايا بإذن الله تعالى.
ومن أهم هذه القضايا، لقضية الاختصار والتي يتحدد عملها حسب صاحب مختصر العين، "بأن توخذ عيونه، ويلخص لفظه، ويحذف حشوه، وتسقط فضول الكلام المتكررة فيه، لتقرب بذلك فائدته، وليسهل حفظه، ويخف على الطالب جمعه" ، وبالرغم مما يعاب على الاختصار، كما يورد ذلك السيوطي عن الحسن الشاري، وهو يتحدث عن مختصر العين للزبيدي، فيقول: "ومذهبي ومذهب شيخي،(...) أن الزبيدي أخل بكتاب العين كثيرا، لحذفه شواهد القرآن والحديث، وصحيح أشعار العرب منه" ، فهو يجعل صنيع الزبيدي نقيصة وصم به كتابه (مختصر العين)، إلا انه لا يمكن تجاهل فوائد الاختصار والتي اشرنا إليها سابقا عند صاحب المختصر والتي يؤكدها مرة أخرى، صاحب مختصر تهذيب الألفاظ حيث يقول: "فمن تم إنشاطا لطلبة المدارس ورغبة في تيسير اقتناء هذا الكتاب" ، فالمعجم حسب صاحب مختصر العين لا يمكن اختصاره بحذف بعض مواده، لأن ذلك سيكون مسخا وتشويها للكتاب الأصلي، وإنما في حذف ما يمكن الاستغناء عنه من طرف من قدم له ذلك المختصر، أو ما ليسوا بالحاجة إليه ، وانطلاقا مما سبق نكون قد توصلنا إلى أن "عملية الاختصار أكثر مشقة من التوسيع، لأنها تستلزم المحافظة على هدف المؤلف من تأليفه للكتاب الذي يراد اختصاره، كما أنه لا بد من المحافظة على مادته، وعدم إدخال الضيم عليه بمسخه واختزاله اختزالا مخلا ضارا" ، فالاختصار عملية معقدة وصعبة، تعمل على حذف الشروحات المستفيضة، وهي التي أشار إليها الزبيدي بالتعريف السابق بالحشو، وفضول الكلام المتكرر فيه، وتعمل على حذف المعاني المتكررة والشواهد الكثيرة، والإبقاء على الشرح المفيد غير المتكرر ، ويمكن استخلاص هذه الخطوات، من كتاب مختصر العين للخطيب الاسكابي، من خلال إخراجه فضول الكلام، وحذف الشواهد الشعرية والكلمات الثانوية، مع الاحتفاظ بالكلمات الأسس ، ومن أمثلة حذف فضول الكلام، شرح كلمة الطهطاه بين العين ومختصره، فالطهطاه في العين مشروحة كما يلي:
الطهطاه: الفرس الذكي الرائع، قال سليم الرّجع: طهطاه قيوص.
وبلغنا في تفسير (طه) فهما حرفان من الهجاء، وبلغنا أن موسى ابن عمران لما سمع كلام الرب، استفزه الخوف حتى قام على أصابع قدميه خوفا، فقال الله: (طه ما)، أي اطمئن يا رجل.
ونجد في مختصر العين للخطيب الاسكابي وبكل اختصار:
الطهطاه: الفرس الفتي الرائع، و (طه ما)، أي اطمئن. .
فهدف الاختصار متمثل في "تقديم المادة بتركيز، على ذكر اللفظ ومعناه بلا حاجة إلى عملية التوثيق التي يهدف إليها الشاهد" ، وقد يرتبط بعملية الاختصار مجموعة من العمليات الأخرى، كإعادة الترتيب، كترتيب القاموس المحيط للفيرزابادي على طريقة المصباح المنير وأساس البلاغة، وترتيب العين ترتيبا ألفبائيا، بعد أن رتبه الخليل حسب مخارج الحروف، وإعادة ترتيب لسان العرب ترتيبا ألفبائيا حسب أوائل الكلمات، بعد أن كان ابن منظور قد جرى في ترتيب قاموسه على أواخر الجذر الأصلي للكلمة المشروحة ، وغير ذلك من الدراسات القاموسية التي أعادت ترتيب القواميس على غير ترتيب أصحابها.
وعملية إعادة الترتيب بدورها من العمليات التي تسهل على الباحث الوصول إلى المادة المشروحة، كما يشير إلى ذلك صاحب ترتيب القاموس بقوله: "وقد ظهر لي أن القاموس يكون أكثر فائدة لطلاب العلم، ويكون إقبالهم عليه أشد، إذا أزيلت عنه هذه الصعوبة، وقدم إليهم في ثوب جديد، بحيث يرتب على حروف أوائل الكلمات، كما درج عليه بعض المؤلفين" ، وعملية إعادة الترتيب، سواء من الترتيب الصوتي أو حسب القافية إلى الترتيب الألفبائي العادي، أو إعادة الترتيب من المواد المرتبة بعد التجريد وترتيبها دون تجريد، كلها من باب تسهيل الوصول إلى المادة بشكل عام.
ومن العمليات المرتبطة بالاختصار كذلك، عمليتي التصحيح والاستدراك، وتعمل الأولى على تصحيح الأخطاء، كما تعمل الثانية على استدراك ما فات المعاجم تدوينه، سواء الألفاظ والعبارات (الأصلية) التي لم تسجلها المعاجم رغم أصالتها وانتمائها لعصر الاحتجاج اللغوي، أو التي لم تسجلها رغم فصاحتها بسبب عدم انتمائها لعصر الاحتجاج ، ويمكن أن نضيف إلى ذلك ما يستحدث من الألفاظ، وما يتولد من المعاني في إطار تطوراتها الدلالية، ومن التصحيح ما أشار غليه الزجاجي صاحب (مختصر الزاهر في معاني كلمات الناس) للأنباري، حيث قال: " إلا أنني تدبرت الكتاب الزاهر، فوجدت فيه من السهو والغلط شيئا كثيرا، فرأيت مع اختصاره وتهذيب ألفاظه، إصلاح ما فيه من الغلط، وكشفه وشرحه" ، وهو الغرض نفسه من تأليف تصحيح القاموس المحيط، وهذا صاحبه يقول: "فهذه تنبيهات على ما وقع من الأغلاط في نسخة القاموس المحيط" ، فالاستدراك هو إضافة ما لم تسجلها المعاجم رغم أصالتها وفصاحتها، وكل ما يستحق أن يضاف لفائدة، أما التصحيح فهو تصحيح بعض الأخطاء سواء كانت أغلاطا في أصلها، أي عند وضعها، أو جاءت عند نسخه وإعادة طباعته.
ويمكن الحديث هنا كذلك عن عملية التكملة والتي تشترك مع عملية الاستدراك، في قضية الإضافة إلى المادة الأصلية، كما نقف عندها في قاموس تكملة تاج العروس، والتي اخترنا أن نعرفها من خلال صاحب هذا القاموس الأخير في قوله: "وكنت بين حين وآخر أفتش عن كلمة فيه (وهو يقصد قاموس تاج العروس)، فلا أجدها، فقررت أن أجعل له تكملة،(...)، وأتبعت ذلك بعض التصويبات للأغلاط التي وقت فيه طباعته" ، فهو قد أشار هنا إلى قضية التكملة، إضافة إلى التصويب أو التصحيح التي أشرنا إليها فيما سبق.
ومن القضايا ذات الأهمية كذلك الصناعة القاموسية، قضية الشرح، سواء جاء في إطار عملية الاختصار، كأن يشرح الكاتب بعض الكلمات الغامضة في اختصاره لقاموس معين، وسواء جاءت في ظل عملية التوسيع، وهي نقيض الاختصار، أي إضافة شروحات مستفيضة إلى الشروحات (الأصلية) لصانع القاموس ، كما أخرج الإمام الزَّبيدي اليمني قاموسه تاج العروس من جواهر القاموس المحيط، فأراد من خلاله، شرح الغامض من عبارات القاموس المحيط للفيرزآبادي، ويوضح ما غاب عن أذهان الناس من معانيه، فوضع شرحا بعدما أورد جميع المواد الواردة في القاموس، فشرحها شرحا واضحا، وحققها تحقيقا علميا ، والشرح بشكل عام هو توضيح ما هو غامض عن أذهان الناس من المعاني، والتعبير عنه باللفظ المفهوم الشائع.
وسوف نقف عند هذه النقطة الأخيرة في بحثنا هذا، ونحن متأكدون أنها ليست الأخيرة ولا قبل الأخيرة في مجالات وأهداف الصناعة القاموسية، وهي عملية نقد القاموس، وتأتي كذلك في أغلب الأحيان مصاحبة للعمليات السابقة، كأن ترتبط بالاختصار، فيتم اختصار قاموس معين مع نقده في نفس الوقت، سواء كان ذلك النقد لإظهار مكامن قوة القاموس، أو لإظهار عيوبه ومكامن الخلل فيه، وأحيانا أخرى يأتي النقد خارج عملية الاختصار، وخارج باقي العمليات المتعلقة بالصناعة القاموسية، والتي أشرنا إليها فيما سبق.
والنوع الأول يشمل كل أنواع النقد التي يذكرها أصحاب المختصرات، والتصحيحات والشروح والتصويبات من الأغلاط والقصور وغيرها من العيوب، كالنقد الذي وجهه صاحب الجاسوس على القاموس للقاموس المحيط، المتمثل في أربع وعشرين نقدا، إضافة إلى نقد الزبيدي صاحب مختصر العين، انتساب العين للخليل، لتبرئته ورفع مكانته ومنزلته العلمية، عن أن ينسب إليه ما كان في كتاب العين من الخلل ، والنوع الثاني هو نقد القاموس من خارج مجال الصناعة القاموسية، كما أورد السيوطي عن الحسن الشاري قوله الذي ذكرناه سابقا، ولا بأس أن نعيد ذكره هنا لمزيد من التوضيح، قال: " ومذهبي ومذهب شيخي، (...) أن الزُّبيدي أخل بكتاب العين كثيرا، لحذفه شواهد القرآن والحديث، وصحيح أشعار العرب ، ثم إن النقد وكما سبق أن ذكرنا يكون لإظهار مكامن القوة في قاموس معين، ولإعلاء مكانته ومنزلته، كتفضيل مختصر العين للزُّبيدي على قاموس العين للخليل مثلا، وهذه الحقيقة يوردها كذلك صاحب مختصر الزاهر عن السيوطي، والسيوطي ينسب الكلام بدوره إلى أبو الحسن الشاري الذي يقول: " كان شيخنا أبو در يقول: المختصرات التي فضلت على الأمهات أربعة" ، ويذكر من بينها مختصر العين للزُّبيدي، وهذا التفضيل بين القواميس في نظرنا، نقد ينبغي أن يكون جزء من الصناعة القاموسية، وليس بالضرورة أن يظهر عيوب القاموس ليسمى نقدا.
تتجاوز الصناعة القاموسية مجال صناعة القواميس، إلى العمل على عدة قضايا أخرى لا تقل أهمية عن المجال الأول، وإذا اعتبرت الصناعة القاموسية المجال التطبيقي في الدراسات القاموسية، فإن الاختصار والتصحيح والاستدراك والنقد، وغيرها من القضايا، لا مجال لها خارج الصناعة القاموسية، ولا يمكن لها أن تكون إلا جزء مهما من هذه الصناعة.
المصادر والمراجع
• ترتيب القاموس المحيط، الطاهر أحمد الزاوي، دار الفكر، ط:3، ج:1.• تصحيح القاموس المحيط، احمد تيمور، المطبعة السلفية ومكتبتها، القاهرة، ط1، 1434هـ.
• تصحيح لسان العرب، محمد نعمان خان، AL_MARIFA PUBLICATION، ط1، 2004.
• تكملة معجم تاج العروس، وهيب دياب، الصباح-دمشق، ط1-1996.
• الجاسوس على القاموس، أحمد فارس الشدياق، دار صادر بيروت، مطبعة الجوائب، 1999.
• الاستدراك على المعاجم العربية، محمد حسن حسن جبل، كلية اللغة العربية-جامعة أم القرى، دار الفكر العربي-القاهرة.
• علم اللغة وصناعة المعاجم، علي القاسمي، مطابع جامعة الملك سعود، ط2-1991م.
• لسان اللسان: ترتيب لسان العرب، دار الكتب العلمية، بيروت-لبنان، ج1.
• مختصر تهذيب الألفاظ، أبي يوسف يعقوب بن اسحاق السكيت، المطبعة الكاثوليكية للآباء اليسوعيين-بيروت، 1897.
• مختصر الزاهر، أبي اسحاق الزجاجي، ت: تامر محمد آمين حسين، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، دولة قطر، ط1، 2013.
• مختصر كتاب العين، الخطيب الاسكابي، ت: هادي حسن حمودي، ط1-1998، ج1.
• مختصر العين، الزبيدي الإشبيلي، السلسلة اللغوية 1، علال الفاسي ومحمد بن اويت الطنجي، مكتبة الوحدة العربية، الدار البيضاء.
• المعجم العربي بين الماضي والحاضر، عدنان الخطيب، مكتبة لبنان ناشرون، بيروت-لبنان، ط2-1994.
• معجم المعاجم العربية، يسري عبد الغني عبد الله، دار الجبل بيروت-لبنان،ي ط1-1991.
• منهج المعجمية، ج مارطوري، ت: الودغيري عبد العلي، مطبعة المعارف الجديدة-1993.
• نحو معجم تاريخي للغة العربية، مجموعة من الباحثين، المركز العربي للأبحاث-بيروت، ط1 أبريل 2014
0 Kommentare
السلام عليكم و مرحبا بكم يمكنكم التعليق على أي موضوع ،شرط احترام قوانين النشر بعدم نشر روابط خارجية سبام أو كلمات مخلة بالآداب أو صور مخلة.غير ذلك نرحب بتفاعلكم مع مواضيعنا لإثراء الحقل التربوي و شكرا لكم.