تدهور القيم بالمؤسسة التعليمية العمومية :إلى أين؟
نور الدين الطويليع
مقالي بالملحق التربوي لجريدة العلم, عدد اليوم, الأربعاء 26 أبريل 2017
لم يتوقف المجلس الأعلى للتعليم عن إصدار تقارير سوداء, بشكل مستمر ومتواصل, حول المنظومة التعليمية المغربية التي وصف فضاءاتها في آخر تقرير له بأنها صارت مكانا مفضلا لممارسة الانحلال الخلقي وتعاطي المخدرات, دون أن يقدم اقتراحات عملية لإخراجها من عنق الزجاجة, وتخليصها من مأزقها هذا الذي جعل منها مسرح جريمة, ونأى بها بعيدا عن الأهداف النبيلة التي وجدت من أجل تحقيقها, وعن القيم المطلوب زرعها في نفوس الناشئة.
في علم النص الأدبي يتحدث جيرار جنيت عن الاستعارة المكانية التي تفيد بأن المكان استمرار للشخصية, يعبر عن واقعها, ويتساوق ووضعياتها, وإذا استعملنا أسلوب القياس واستعرنا هذا المفهوم من الحقل الأدبي, وأسقطناه على الحقل التربوي, سنجد أنفسنا أمام مفارقة غريبة تصور بشكل عميق التناقض الصارخ بين خطاب القيم الذي ما فتئت البرامج تحض وتحرض عليه, وبين الواقع المأساوي المعاكس لتلك القيم, وبين الاثنين ينتصب سؤال الشخصية (نساء ورجال التعليم), فهل هذا الانحدار الذي تعرفه المؤسسات التعليمية ناتج عن تخلف الأساتذة وانحرافهم وابتعادهم عن منظومة القيم, أم أنهم مبرؤون منه, ولا يمكن بأي حال من الأحوال إلصاق أي تهمة من هذا القبيل بهم, وإلا سنكون في وضع المتحامل الظالم؟
شخصيا أميل إلى تبني الطرح الثاني لأن رجل التعليم ما هو إلا مبلغ رسائل ووسيط بين الإرادة الرسمية وبين المتعلم, يبلغ برامجها إليه, وينقل ما تتضمنه من قيم ومثل
بطريقته التربوية المناسبة, في حدود المعطيات المتوفرة لديه, دون أن يملك حق منحها أكثر من وقتها أو التوسع فيها, لأن ضغط الزمن يطارده, ولا يمكنه أن يتيه في جزئية صغيرة على حساب الدرس وما يتطلبه من تحقيق كفايات متنوعة.
إن المشكل هنا مركب, تتوزعه وتتقاذفه أسباب متعددة منها تأثير الأسرة وإلقائها بثقلها على حياة المتعلم المراهق, فنتيجة للتفكك الذي تعرفه بعض الأسر, وبسبب استقالة هذه الأخيرة عن القيام بدورها في تحصين أبنائها أخلاقيا والحرص على تتبع مسارهم, وبسبب إحساس المتعلم بغياب الرقابة, يرتمي في أحضان الانحراف, دون أن يكون مطاردا بشبح الخوف من العقاب, ولا ننسى كذلك الإعلام الذي قلب أمر القيم رأسا على عقب, وصار يصور عن طريق أفلام ومسلسلات مدمن الخمر والمخدرات في صورة بطل يتحدى الجميع, ويفرض نفسه في المجتمع, ولا يجرؤ أحد على اعتراض سبيله أو وقفه عند حده, الشيء الذي يخلق لديه إطارا مرجعيا, سيحاول الاقتداء به وتتبع مساره قبل أن يجد نفسه غارقا في مستنقع آسن لا يستطيع الخروج منه, ويعمل بالمقابل على استدراج زملائه إليه حتى لا يبقى وحده.
فالإعلام بشتى تلاوينه, والأسرة, وفقر البرامج, كلها عوامل ساهمت في هذا الوضع الكارثي, وقد كان حريا بالمجلس
بالمجلس الأعلى للتعليم أن يصدر الوصفة العلاجية لمعالجة هذا الداء العضال, لا أن يكتفي بتشخيصه وبتمثيل دور المتفرج, لأن سلوكا كهذا يلعب دور الإساءة للمدرسة العمومية, ويخلق انطباعا لدى المغاربة بلا جدوى إرسال أبنائهم إليها, والاستعاضة عنها بالمدارس الخصوصية التي صار الكثير منهم يفضلها,ليس لجودة منتوجها التربوي,وإنما لخلو فضاءاتها من مظاهر التسيب والفوضى والانحراف.
إن الأمر يحتاج إلى سياسة وطنية مواطنة تزرع الأمن الأخلاقي والقيمي في نفوس الناشئة عن طريق برامج تربوية وإعلامية هادفة, بالإضافة إلى تعيين أخصائيين في المجالات النفسية والاجتماعية بالمؤسسات التعليمية, ليتكفلوا بوظيفة مواكبة الحالات الشاذة والغريبة والوقوف على مظاهر خللها, وعلاجها في مراحلها الأولية, ووقف تمددها وانتشارها, ودون هذا سيكون تقرير المجلس الأعلى بمثابة لوحة إشهارية موجهة صوب ضفة المدرسة الخصوصية.
0 تعليقات
السلام عليكم و مرحبا بكم يمكنكم التعليق على أي موضوع ،شرط احترام قوانين النشر بعدم نشر روابط خارجية سبام أو كلمات مخلة بالآداب أو صور مخلة.غير ذلك نرحب بتفاعلكم مع مواضيعنا لإثراء الحقل التربوي و شكرا لكم.