إبداع أدبي تربوي (قصة) بعنوان: آمال ملتهبة
المصطفى سالمي
وجد (كمال) نفسه يقف نفس الوقفة اليومية أمام باب مطعم الحي الجامعي، كان الطابور طويلا لا يكاد يتقدم للأمام نصف خطوة إلا بمرور وقت ليس باليسير، طلبة جامعيون بعضهم من جنسيات أفريقية ـ من أصحاب البشرة السمراء ـ كانوا يشتركون في هذا الصف الطويل المتلاحم، يضع بعضهم سماعات على الأذنين لكسر روتين الانتظار الساحق للأعصاب، وبعضهم يقرأ مطبوعا لدروس من تخصصات مختلفة: اقتصاد وحقوق وعلوم وغيرها...
يترك الطلبة فراغا عند الاقتراب من الباب الرئيسي للمطعم، والويل لمن يأتي من خارج الصف للسطو على دور ليس من حقه، إذ تتعالى الصيحات والاستهجان، بل الشتائم أحيانا، كان الجميع يعرف هذا الأمر ويتورع عن القيام به إلا في حالات نادرة، أما من وصل دوره واندس نحو الممر الصغير إلى داخل المطعم، فيقدم نصف ورقة الإطعام ليحمل صحنا معدنيا، ثم داخل الخانات أو الفراغات بالصحن تبدأ عملية وضع وتقديم مكونات الوجبة: سلطة وأرز وخبز طويل كالعصا وفاكهة.. وأما اللحم أو الدجاج أو السمك ففي الأخير مع إعطاء النصف الثاني لورقة الإطعام..
يحمل (كمال) صحنه الممتلئ، ويجلس على الكرسي سعيدا بإنهاء مهمة يومية شاقة، لها ما يماثلها في المساء عند وجبة العشاء. ثم يبدأ في تناول وجبته على عجل، إنها الفاصوليا البيضاء كوجبة رئيسية هذا اليوم، مع سلطة الطماطم والخس، ولحم الجاموس، إنه يحبه كثيرا، رغم يقينه من أن النعاس سيدب في أجفانه بعد قليل، ذلك أن مادة (الصودا) تستعمل لجعل كل من الفاصوليا ولحم الجاموس يصبحان مهترئين، ولولاها لبقيا متصلبين كالمطاط.
فجأة تتعالى الضربات بالصحون المعدنية وبشوكات الأكل وعلى الأبواب..، إنه يعرف هذا النوع من الاحتجاج حين يدخل المطعم أحد أفراد الحرس الجامعي ببدلته المعروفة التي تشبه بدلات رجال الأمن أو الدرك، يُنظر لهذا الحرس الجامعي كمخبرين مسلطين على الطلبة لتتبع حركاتهم وسكناتهم وما يخططون له من حلقات نضالية.. ولا يتوقف الضرب الاحتجاجي مع توقف سير الطابور إلا بعد خروج العنصر الدخيل البغيض.
أخيرا ارتاح دماغ (كمال) المتعب من وقع الضربات، وساد قليل من الهدوء، إلى يمين (كمال) المدخل الذي ما زال عناصره يتحركون ببطء نحو الداخل، وأحيانا يتوقف السير العادي حين يحتج طالب على نوعية أو حجم اللحم المقدم له ويطالب بتغييره، فيحتار المسؤول الموزع ويتراجع للوراء منتظرا أن يتقدم الطالب الذي يبقى متسمرا مكانه متسببا في توقف صف طويل خلفه، وإلى يسار (كمال) كان هناك مخرج ضيق يخرج منه من انتهى من تناول وجبته، لكنْ ينسل منه أحيانا من لا يمتلك ورقة الدخول، حيث يقوم بتناول صحن وضعه أحد الخارجين، ويغسله ثم يقدمه لعمال المطعم، ليقدموا له ولو قليلا من الفاصوليا وبعض كسرات خبز لم يقبل عليها أحد.
انتهى (كمال) من تناول وجبته، ووجد نفسه خارج باب المطعم، كان هناك طلبة آخرون يحركون المفاتيح في أيديهم، إنها علامة الرغبة في شراء ورقة الأكل هنا بالحي الجامعي، مسح (كمال) يديه في ورقة تنظيف ناعمة، وبدأ يهيئ نفسه للتوجه نحو محطة حافلات النقل الحضري التي تقله نحو جامعة الآداب في الطرف الشرقي للمدينة، كان بعض الطلبة وهم يخرجون من المطعم لا يتورعون في مسح أيديهم بعد الأكل في أوراق المطبوعات التي لم يفقهوا في مضامينها قليلا أو كثيرا، أو يحسون أنها عبء على أدمغتهم وعلى سواعدهم على السواء..
في الساحة المتمددة تقف حافلات بأرقام مختلفة، أخيرا أصبح الطلبة يتمتعون بحقهم في النقل المدرسي الخاص بهم وحدهم، دون أن يختلطوا بعوام الناس الذين كانوا سابقا يزدحمون معهم، فقد كان (كمال) في سنته الماضية يضطر لركوب حافلتين للوصول إلى الجامعة، وكان ذلك يستنزف طاقته ومقدرته على التركيز، ويسبب له صداعا مع تآكل وتقادم تلك الحافلات التي هي أقرب إلى الخردة، كان بمجرد أن يجد نفسه داخل المدرج حتى يبدأ مفعول الصودا التي تشربها لحم الجاموس ومادة الفاصوليا في التسرب إلى مفاصله التي تصبح أشد ارتخاء، ويصبح الأستاذ المحاضر أشبه بمنظر الرسوم الكرتونية التي تتحرك أمام ناظريه! أما اليوم فالضرر أقل، ولكن النعاس رغم ذلك يستبد به، وسيذهب عند الوصول إلى (مقصف) الجامعة لتناول كأس قهوة يذهب بما تبقى من آثار الخمول والتراخي التي يحسها.
أخيرا تنطلق الحافلة وقد سلكت ـ كالمعتاد ـ الطريق السيار قبل أن تنحرف يمينا باتجاه طريق: ( 2مارس)..
انغمس (كمال) في تأملاته وهواجسه وهو يرى سنوات حياته الجامعية تمر في ما يشبه الحلم، فبعد سنوات من الدراسة في كنف الأسرة وتحت نظر وسلطة الأبوين المباشرة، ها هو يعيش نوعا من الحرية الممزوجة بالرقابة الذاتية والالتزام والمسؤولية، إنه يتلذذ بهذه الحياة الجديدة، رغم طوابيرها الكثيرة، طابور من أجل منحة هزيلة، وطوابير أكل وطوابير أمام الحافلات وأمام مصلحة الشؤون الطلابية بالجامعة.. لكن في الأفق تبدو له ثمار عليه أن يقطفها بمجهود جبار وبمعاناة والتزام وتحمل وصبر، فأحلام كبيرة وانتظارات تترقب نجاحاته لإنقاذ أسرة تئن تحت وطأة وعذابات الفقر الذي يسحقها سحقا.
وجد (كمال) نفسه يقف نفس الوقفة اليومية أمام باب مطعم الحي الجامعي، كان الطابور طويلا لا يكاد يتقدم للأمام نصف خطوة إلا بمرور وقت ليس باليسير، طلبة جامعيون بعضهم من جنسيات أفريقية ـ من أصحاب البشرة السمراء ـ كانوا يشتركون في هذا الصف الطويل المتلاحم، يضع بعضهم سماعات على الأذنين لكسر روتين الانتظار الساحق للأعصاب، وبعضهم يقرأ مطبوعا لدروس من تخصصات مختلفة: اقتصاد وحقوق وعلوم وغيرها...
يترك الطلبة فراغا عند الاقتراب من الباب الرئيسي للمطعم، والويل لمن يأتي من خارج الصف للسطو على دور ليس من حقه، إذ تتعالى الصيحات والاستهجان، بل الشتائم أحيانا، كان الجميع يعرف هذا الأمر ويتورع عن القيام به إلا في حالات نادرة، أما من وصل دوره واندس نحو الممر الصغير إلى داخل المطعم، فيقدم نصف ورقة الإطعام ليحمل صحنا معدنيا، ثم داخل الخانات أو الفراغات بالصحن تبدأ عملية وضع وتقديم مكونات الوجبة: سلطة وأرز وخبز طويل كالعصا وفاكهة.. وأما اللحم أو الدجاج أو السمك ففي الأخير مع إعطاء النصف الثاني لورقة الإطعام..
يحمل (كمال) صحنه الممتلئ، ويجلس على الكرسي سعيدا بإنهاء مهمة يومية شاقة، لها ما يماثلها في المساء عند وجبة العشاء. ثم يبدأ في تناول وجبته على عجل، إنها الفاصوليا البيضاء كوجبة رئيسية هذا اليوم، مع سلطة الطماطم والخس، ولحم الجاموس، إنه يحبه كثيرا، رغم يقينه من أن النعاس سيدب في أجفانه بعد قليل، ذلك أن مادة (الصودا) تستعمل لجعل كل من الفاصوليا ولحم الجاموس يصبحان مهترئين، ولولاها لبقيا متصلبين كالمطاط.
فجأة تتعالى الضربات بالصحون المعدنية وبشوكات الأكل وعلى الأبواب..، إنه يعرف هذا النوع من الاحتجاج حين يدخل المطعم أحد أفراد الحرس الجامعي ببدلته المعروفة التي تشبه بدلات رجال الأمن أو الدرك، يُنظر لهذا الحرس الجامعي كمخبرين مسلطين على الطلبة لتتبع حركاتهم وسكناتهم وما يخططون له من حلقات نضالية.. ولا يتوقف الضرب الاحتجاجي مع توقف سير الطابور إلا بعد خروج العنصر الدخيل البغيض.
أخيرا ارتاح دماغ (كمال) المتعب من وقع الضربات، وساد قليل من الهدوء، إلى يمين (كمال) المدخل الذي ما زال عناصره يتحركون ببطء نحو الداخل، وأحيانا يتوقف السير العادي حين يحتج طالب على نوعية أو حجم اللحم المقدم له ويطالب بتغييره، فيحتار المسؤول الموزع ويتراجع للوراء منتظرا أن يتقدم الطالب الذي يبقى متسمرا مكانه متسببا في توقف صف طويل خلفه، وإلى يسار (كمال) كان هناك مخرج ضيق يخرج منه من انتهى من تناول وجبته، لكنْ ينسل منه أحيانا من لا يمتلك ورقة الدخول، حيث يقوم بتناول صحن وضعه أحد الخارجين، ويغسله ثم يقدمه لعمال المطعم، ليقدموا له ولو قليلا من الفاصوليا وبعض كسرات خبز لم يقبل عليها أحد.
انتهى (كمال) من تناول وجبته، ووجد نفسه خارج باب المطعم، كان هناك طلبة آخرون يحركون المفاتيح في أيديهم، إنها علامة الرغبة في شراء ورقة الأكل هنا بالحي الجامعي، مسح (كمال) يديه في ورقة تنظيف ناعمة، وبدأ يهيئ نفسه للتوجه نحو محطة حافلات النقل الحضري التي تقله نحو جامعة الآداب في الطرف الشرقي للمدينة، كان بعض الطلبة وهم يخرجون من المطعم لا يتورعون في مسح أيديهم بعد الأكل في أوراق المطبوعات التي لم يفقهوا في مضامينها قليلا أو كثيرا، أو يحسون أنها عبء على أدمغتهم وعلى سواعدهم على السواء..
في الساحة المتمددة تقف حافلات بأرقام مختلفة، أخيرا أصبح الطلبة يتمتعون بحقهم في النقل المدرسي الخاص بهم وحدهم، دون أن يختلطوا بعوام الناس الذين كانوا سابقا يزدحمون معهم، فقد كان (كمال) في سنته الماضية يضطر لركوب حافلتين للوصول إلى الجامعة، وكان ذلك يستنزف طاقته ومقدرته على التركيز، ويسبب له صداعا مع تآكل وتقادم تلك الحافلات التي هي أقرب إلى الخردة، كان بمجرد أن يجد نفسه داخل المدرج حتى يبدأ مفعول الصودا التي تشربها لحم الجاموس ومادة الفاصوليا في التسرب إلى مفاصله التي تصبح أشد ارتخاء، ويصبح الأستاذ المحاضر أشبه بمنظر الرسوم الكرتونية التي تتحرك أمام ناظريه! أما اليوم فالضرر أقل، ولكن النعاس رغم ذلك يستبد به، وسيذهب عند الوصول إلى (مقصف) الجامعة لتناول كأس قهوة يذهب بما تبقى من آثار الخمول والتراخي التي يحسها.
أخيرا تنطلق الحافلة وقد سلكت ـ كالمعتاد ـ الطريق السيار قبل أن تنحرف يمينا باتجاه طريق: ( 2مارس)..
انغمس (كمال) في تأملاته وهواجسه وهو يرى سنوات حياته الجامعية تمر في ما يشبه الحلم، فبعد سنوات من الدراسة في كنف الأسرة وتحت نظر وسلطة الأبوين المباشرة، ها هو يعيش نوعا من الحرية الممزوجة بالرقابة الذاتية والالتزام والمسؤولية، إنه يتلذذ بهذه الحياة الجديدة، رغم طوابيرها الكثيرة، طابور من أجل منحة هزيلة، وطوابير أكل وطوابير أمام الحافلات وأمام مصلحة الشؤون الطلابية بالجامعة.. لكن في الأفق تبدو له ثمار عليه أن يقطفها بمجهود جبار وبمعاناة والتزام وتحمل وصبر، فأحلام كبيرة وانتظارات تترقب نجاحاته لإنقاذ أسرة تئن تحت وطأة وعذابات الفقر الذي يسحقها سحقا.
0 تعليقات
السلام عليكم و مرحبا بكم يمكنكم التعليق على أي موضوع ،شرط احترام قوانين النشر بعدم نشر روابط خارجية سبام أو كلمات مخلة بالآداب أو صور مخلة.غير ذلك نرحب بتفاعلكم مع مواضيعنا لإثراء الحقل التربوي و شكرا لكم.