أصل الاحتجاجات في المغرب
4 يونيو 2017
عندما ناقش الآن تورين أزمة 2007 العالمية، خلص إلى نهاية العوامل المجتمعية في تشكيل الفعل الاجتماعي ما بعد بعد المجتمع الصناعي، وكان يعني مؤسسات دولة الرعاية، وكذلك الأحزاب والنقابات، وذلك نظراً لحيوية عوامل جديدة غير جماعية، وهي الفردانية، فيما تحت المجتمع والعولمة فوق المجتمع، لأسباب منها انتهاء العوامل الموّحدة، مثل الاستغلال في المؤسسات الصناعية الكبرى، وتدخل الثورة الرقمية في إعادة تدبير المعلومة والتواصل. هذا التشخيص اللبيب للمجتمعات الغربية يمكن أن يساعدنا في فهم ما يحدث عندنا، وفيما يخص ظاهرة الاحتجاج في بلدٍ مستقر نسبيا مثل المغرب.
ليست الدولة وحدها من يحتج ضده في المغرب، الاحتجاج هنا متعدّد المقاصد ومتشعب الدلالات. هو احتجاج سياسي، لكنه ليس تمرّدياً، قوي لكنه هادئ. يرفع في وجه الحكومة ممثلة للدولة، لكن كذلك ضد الأحزاب والنقابات، وحتى المجتمع المدني والمثقفين بشكل أقل حدّة لكن بإصرار. الاحتجاج في المغرب، ومنذ ما سمّي الربيع المغربي، احتجاج ضد الفساد، وليس ضد الملك خصوصا. شخص الملك في المغرب محترم، والملكية كنظام ليست في أي معادلة تساؤل.
ثمة أسئلة تطرح هنا: من ينظم الاحتجاج؟ ومتى؟ وكيف؟ ومن يرسل رسائله؟ وما هو المجال الذي ينتظم فيه؟ هي مجموعة من أسئلةٍ يصعب أن نجيب عنها بدقة لغياب المعطيات. لكن يبدو إنّ الفئات الشابة والطلابية أو القريبة منها هي الفئة الأكثر حيوية، ويرجع ذلك إلى عامل البطالة بالدرجة الأولى، وإلى الدربة على الحلقية والحوار كثقافة جامعية متأصلة في الجامعة المغربية.
كانت الدار البيضاء تعتبر المدينة المناضلة بامتياز، حتى منذ الحركة الوطنية، ويرجع الأمر إلى الطبقة العاملة التي تجاوزت البورجوازية التجارية التقليدية والقروسطية لمدينة فاس، في الانتقال إلى الأشكال العصرية للانتظام، سواء على المستوى النقابي أم السياسي. وكانت المدينة العملاقة تشكل مشتل مراقبة السياسات اللاشعبية للمخزن، وصمّام أمان للمحافظة على المكتسبات. ولعل أحداث 1965 أحسن تعبيرٍ عن أولى الاحتجاجات الشعبية للمغرب المستقل ضد رغبة المخزن في تصفية مكسب رئيس للرقي الاجتماعي هو المدرسة. لكن، ما فتئت مدينة فاس أن التحقت بالدار البيضاء، هذه المرة ليس كمدينة عمالية، إنما كمدينة مستقطبة للهجرة الداخلية، لتنتشر فيها أحياء البؤس العشوائية والمبنية في الليل، إضافة إلى الجامعة الشعبية الشهيرة، ظهر المهراز، التي تعتبر بمفردها مختبرا لإنتاج الأفكار التحرّرية منذ مجد نقابة الطلبة في السبعينيات حتى الآن.
مع وفاة الملك الحسن الثاني، تبنّى الملك محمد السادس إصلاحات سياسية مهمة، دشنها بتحييد وزير الداخلية القوي، والذي كان يقود كلّ حملات البطش بالجماهير كلما سوّلت لها نفسها التعبير عن مطالب غالباً ما كانت اجتماعية، أطلق هو نفسه عليها مطالب الخبز. حينها تنفس المغاربة الصعداء وفتح باب الأمل، غير أنّ الأمر لم يدم طويلا، حينما تدخلت الدولة لإيقاف ما سمّيت آنذاك حكومة التناوب، تحت رئاسة رجل شكّل في حد ذاته نوعاً من رسالة الأمل التي أرسلتها الدولة آنذاك إلى الناس، إنّه عبد الرحمن اليوسفي الذي لا يسع المقام هنا للتوسيع في ذكر سيرته، رجل يمكن اعتباره مؤشراً، مع رجال أفذاذ آخرين، على الاستثناء المغربي في المعارضة البناءة طوال الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي.
مع إيقاف إرادة إصلاح حكومة التناوب في وسط الطريق، شعر المغاربة بخيبة أمل أولى، وبدأت احتجاجات جديدة تطفو على السطح ربيعاً مغربياً سبق الربيع العربي. لكن ليس في الدار البيضاء أو فاس، هذه المرة، إنما في مدن متوسطة وصغرى، كانت تستغل الانسجام الاثني أو التأطير الشبابي.
مع حلول الربيع العربي وحركة 20 فبراير، تمكّن الشباب من انتزاع مكاسب جديدة ومهمة، في مقدمتها الدستور الجديد، والذي يمكن اعتباره لائحة تلبية المطالب الشبابية والاثنية والنسائية، والسياسية نسبياً، غير أنّ عدم قدرة الأحزاب على تأطير الشارع أوجد مفارقة انفصال الناس عن أيّ تنظيم من أي نوع كان، وحصل خلل نفسي عميق، هو ما اصطلح عليه هنا بفقدان الثقة. من الدولة أولا، وهي التي لم تعتد الاحتجاج الشعبي بالحجم إياه، حيث تبدت مثل حيوان جريح، ثم عدم ثقة الشعب في الدولة نفسها، بعد أن أفرغت الإصلاحات من معناها.
وخاب الأمل ثانية، وبشكل أعمق عندما عاد الاحتراف السياسي وبقوة تحت آثار الضغط النفسي لحركة 20 فبراير على الدولة. وتبدّى الخواف في التدخل السياسي الفج، لينتج رداءة سياسية نوعية، سواء على مستوى أطر الحكومة أم على مستوى الزعامات السياسية والنقابة المصنوعة في مختبر البحث عن كفاءات الطاعة.
ما يحدث عندنا لا يرجع إلى أهمية ما تحت المجتمع، الفردانية، وما فوقه، العولمة. إنما عودة ما قبل المجتمع، القبيلة، ليس بمعناها القرابي، إنما بمعناها المصلحي الضيق، الذي أوجد شبكات مغلقة من المنافع المتبادلة والطفيلية بالانتهاز والاستثمار السياسوي من جهة، أما ما بعد المجتمع، فيتجلى في أهمية التواصل الرقمي الذي وفر هامشاً من الحرية وإمكانية الفضح.
المشكل سياسي، والحل لن يكون إلا سياسياً، الحل بيد من يملك القوة ومن يملك المعرفة، إنّه الدولة بكلمة واحدة.
0 تعليقات
السلام عليكم و مرحبا بكم يمكنكم التعليق على أي موضوع ،شرط احترام قوانين النشر بعدم نشر روابط خارجية سبام أو كلمات مخلة بالآداب أو صور مخلة.غير ذلك نرحب بتفاعلكم مع مواضيعنا لإثراء الحقل التربوي و شكرا لكم.