من مفارقات العقلية العربية في مجال التدبير
الاستاذ محمد صالح حسينة
خبير تربوي
تعني التربية في سياقها الفلسفي السمو بالشخصية في جوانبها المعرفية، السيكوحركية، والوجدانية العاطفية. اذن فالتربية بمفهومها الواسع تشمل التعليم والتعلم، وتنمية الشخص، وتأهيل الفرد من أجل تحقيق ذاته وتلبية مطالب مجتمعه وعالمه.
إذن التربية تنصب على الانسان الذي يعد النواة الصلبة لكل تنمية، وبأسلوب جدلي سلس يمكن ان نؤكد بأن بلوغ التنمية لا يمكن ان يتم دون الاعتراف بالفرد كنواة للمجتمع. والجدير بالذكر اننا نحيا في عالم متقلب حولته العولمة التكنولوجية الى قرية كونية كبيرة، واصبحنا لا نملك فيه من اليقين الا عدم اليقين حسب تعبير EDGAR MORIN، الى درجة ان المفكر الامريكي فوكوياما فرنسيس خرج بقناعة مفادها نهاية التاريخ، ويعني بذلك رضى الانسان، ومباركته لما وصل اليه على المستويات الفكرية والاقتصادية و الاجتماعية: أي ان انسان القرن الحادي والعشرين هو ارقى نموذج بشري ليبراليا، ديمقراطيا، تكنولوجيا، وعلميا...
أما زميله في جامعة HARVARD صامويل هنتنغتون فقد بشر وأنذر وتحدث مليا عن صدام الحضارات داخل القرية الكونية...أنذر من المد الاسلامي والكونفوشيوسي (الصين، اليابان...) وبشر بانتصار القيم الغربية على ما سواها من المبادئ والمواقف، مادامت تستند على دعامات ديمقراطية جوهرها الانصاف والعدل، واحترام حقوق الانسان، وقاعدتها التشارك وتكافؤ الفرص في أجواء تسودها الشفافية والمكاشفة.
ومن معايير التنمية البشرية نجد الدخل الفردي، ومدى استفادة الفرد من الناتج الخام الوطني، حيث تقاس كرامة المواطن بمدخوله المكافئ لمستواه الدراسي والمعبر من كفاياته وقدراته المهنية...صحيح ان دول الشمال، وهي لا تمثل سوى 20% من ساكنة العالم، تستحوذ على 80% من خيرات وثروات الكون، والعكس بالنسبة لدول الجنوب: اذ بقي لها 20% فحسب كحصة ثروات، مع ان سكانها هم 5/4، 80% عدد سكان العالم.
وداخل كل دولة على حدة، نجد النخبة الميسورة مسيطرة على دواليب الاقتصاد والتجارة والمال...لكن في المغرب المشكل اعمق من كل هذا: ذلك ان جل الموظفين والمستخدمين يصرون اصرارا على اختراق طبقات الاغنياء، ليتحولوا بقدرة فسادهم في مكاتبهم واداراتهم وبلدهم وحيهم الى عناصر محسوبة على 20% المحظوظة...وعندما تهيء لهم الاسباب العشوائية او الذاتية او الموضوعية تسلق الدرجات يجدون انفسهم في تنافر وتناحر مع طبقتهم الجديدة، ولكي يرضيها الفرد يصب جام غضبه على بني جلدته من طينته الاصلية، يصفهم بما ليس فيهم، ويتحول الى رسول أمين يسقط حقد الغني على الفقير، ويتكلم بلسان غريب، وما هو بلسانه، ويترفع بأسلوب فاضح، ويتلون كالحرباء التي تتقمص الادوار خوفا من الافتراس ، او كالنعامة التي تعتقد انها تضلل الصياد ولكنها لا تفعل اكثر من ايهام ومغالطة نفسها.
بعض الموظفين وفي غياب اي تأطير روحي او تشريعي او تربوي، بالغوا في استعمال السلطة الى درجة الشطط لا لشيء سوى لإيقاف زحف الطموحين و تفجير عجلة المجتهدين، وعرقلة موكب المجدين الصابرين، وكتحصيل حاصل نقف قليلا عند معيار آخر من معايير التنمية البشرية الا وهو الفقر الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كاد الفقر ان يكون كفرا "، وأجاز في حقه الامام علي بن ابي طالب رضي الله عنه القتل لو كان بشرا: " لو تمثل لي الفقر رجلا لقتلته ".
الفقر عنوان للاضطراب الاجتماعي، واللااستقرار السياسي، وللازمات الاقتصادية والتربوية والاخلاقية، واللاتماسك الاجتماعي، وللاخفاق الديني والمدرسي و العائلي.
وعندما يتزوج الفقر بالامية فانهما يلدان ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر في مجالات الميوعة والتملق والخيانة والارتزاق، والكذب والتحايل، وتمسكن الانسان حتى يتمكن، واذا تمكن طغى في الارض وسعى في خرابها عبر اهلاك النسل و الحرث.
علامات تخلفنا تعكسها مساجدنا وباحاتها، ولا تحتاج الى دراسة دارس، او تتبع متتبع، او بحث باحث: قبيل الصلاة وبعيدها ترتفع الاصوات وتمتد الايدي، وتنهمر الدموع الحقيقية المعبرة عن المعاناة، كما تسكب دموع التماسيح من عيون الذين اتخذوا التسول مطية للغنى وللوصولية، والاهم من كل ذلك ان الامر اصبح مزعجا الى حد لا يطاق...هذا المنظر يفضح هشاشة ما تسميه الابواق الرسمية ومرتزقتها الذين لم يفهموا أبدا في مدارسنا كلمات الاستحياء، التعاطف، الانسانية، التضامن، الايثار، وهو ما يسميه هؤلاء الاستقرار، الاستثناء، الحداثة، النموذج المغربي....
فالفرد المغربي، على العموم، مستهلك الى حد الجشع، اناني الى حد تضخم الذات، ولا تمس هذه الاوصاف شريحة بعينها، بل ان المثقف الذي خرج من الشعب، ولم يعد اليه...اما بقي منزويا، وتحول الى باحث عائل، وقد ارتمى البعض في احضان السلطة يوجه سوطه نحو من يرفع مطالب اجتماعية عادلة.
التغطية الصحية تشكل احدى الدعامات الضرورية لصحة نفسية وجسدية تجعل الفرد مستمتعا بكرامته طبقا للحديث النبوي الشريف : " من اصبح آمنا في سربه، معافى في جسده، حائزا على قوت يومه، فقد جمعت له الدنيا بحذافيرها ". فهذه الكلمات – على محدوديتها و معدوديتها – تعد جامعة مانعة لأنها اشتملت على الجمع بين اصناف الأمن كلها، في مدارجها النفسية ، المعنوية، والبيولوجية الغذائية، والصحية الاجتماعية.
في المغرب عندما يمرض الانسان، ينظر اليه المعالج نظرة قاصرة ولا تهمه صحته أو تخلصه من المرض، او حتى موته لا يبالي به...ولكنه يهتم اكثر باستغلال لحظات ضعفه ككل، فيدخله في دوامة من الكشوفات والتحاليل، ويخضعه لسلسلة من الفحوصات وتلك الاشعة غير الضرورية...همه يكمن في استنزاف أهله وأولاده وأقاربه، قبل ارساله الى قبر الدنيا فقيرا متألما، ولعل تلك المعاملات والضغوطات والاهانات هي التي تعجل بزيارة الانسان للقبر فهو يحس انه امام كلاب آدمية تنهش عرضه، ولا تعتبره مواطنا....وقد تحوله الى مجرد رقم يؤدي دورا محدودا في الزمكان، او يقوم بمهمة محاطة بسياج الغام بمثابة خط احمر لا يجوز الاقتراب منه...لقد اضحى الفرد ذئبا على اخيه حسب تعبير الفيلسوف HOBBES.
من يقومون بتجسيد مثل هذه المواقف هم تقنيون بارعون في مجالات تخصصاتهم يحملون اعلى الشهادات الجامعية...ولكن...ويا للأسف، انهم متعلمون يفتقدون أدنى ابجديات التربية، ويفتقرون الى ابسط القيم الانسانية، كما تعوزهم ادبيات التواصل الايجابي، والتي تجعل الانسان يتدارك هفواته عمليا وواقعيا، عوض ان يجعل منه سلاحا فرديا فتاكا يضخم أناه، ويدفعه الى مرتبة ابليس الذي تغنى بهذا اللفظ " أنا خير منه خلقتني من نار، وخلقته من طين "، او يؤجج يقينه في ان هذا السلاح اضحى وقاية من كل سوء، ووسيلة لكل استعباد، على مقاس فرعون الذي قال " انا ربكم الاعلى ".
في مستشفياتنا العمومية يقتني اهل المريض كل مستلزمات التمريض وجميع ادوات عملية جراحية مثلا...وكم من انسان تأخر موعد مقابلته للطبيب الى الحد الذي لا يطاق، فكان موعده مع الاجل المحتوم. ألا يعتبر مثل هذا التماطل جريمة أخلاقية مهنية يعاقب عليها القانون؟ هل الروح الانسانية رخيصة الى هذه الدرجة ؟ أم ان المغرب – بلد الاستثناء – لا يؤمن الا بالاقوياء المالكين للسلطة والمال؟. إن العقلية المغربية تناقض نفسها، ولا منطق لها : فأنت حينما ترى المساجد مملوءة بروادها، والمدارس مكتظة بمتعلميها، والجامعات تعج بالمنظرين في كل التخصصات...تعتقد ان كل شيء يسير على احسن ما يرام...لكن هذه الرؤية الخادعة تكشف زيفها ملاحظات تشاؤمية: الفساد في بر المغرب وبحره بما كسبت ايدي الوصوليين الانتهازيين، والبراغماتيين النفعيين، والانانيين النرجسيين...الذين يعملون على اقصاء كل منافس حر، او يستغلون القوانين لاستبعاد كل مجتهد مجدد مجد...يكفي ان تسير بسيارتك في شوارع الرباط او الدار البيضاء او بني ملال لتعاين العجب العجاب في تصرفات السائقين الذين يلعنون ويشتمون، ويغتابون، و "يحللون "، يتسابقون و كأننا في سباقات " الرالي "...وكل واحد منهم لا ينظر الى نفسه، ولكن تهمه هفوات زميله، او ينتهك حتى حرمة ممر الراجلين ولا يعير اي اهتمام لسيارات الموتى او لسيارات الاسعاف، ولا يعطي فرصة للإطفائيين للإسراع الى مكان الحريق. بل يفسر حركات الآخرين وسكناتهم بالتهور، ويشرح كل شيء وفق " نظرية المؤامرة " والادهى والامر ان يوقظك من نومك على الساعة 02 او 03 صباحا، سائق يقود سيارته بسرعة جنونية وسط احياء مكتظة بالسكان دون حسيب ولا رقيب!.
التسرب هو نتيجة لامتحانات ظالمة لا تمت الى التقويم بصلة، بل هي امتحانات تقليدية شوهت صورة " التقويم الموضوعي "... انها تحاول ان تدمج بين المعارف والاهداف والكفايات في سلة واحدة...لكن الحامل لهذه السلة والناظر في مكوناتها يتبين له ان القائمين على الشأن التربوي ليسوا من اهل الدار، ولا من ذوي الاختصاص، فهم يموهون، و يتحايلون ممررين الوعود المعسولة حتى تهدأ العاصفة وتعود حليمة الى عادتها القديمة...لقد اقترضوا من لغة السياسيين مناورتين:
أولاهما: انهم بارعون في قتل القتيل ثم المشي في جنازته والترحم عليه بذرف دموع التماسيح امام الملأ.
ثانيهما: انهم يجادلون بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير، دون استحياء من الرحمان ولا خجل من عباده، انهم اعتادوا تقديم حساء قديم في آنية جديدة: التوظيف بالتعاقد وسيلة هدامة لتشجيع الهدر المدرسي، فالحلاق المبتدئ يتعلم الحلاقة في رؤوس المساكين والايتام ومن بقي في التعليم العام، انما يدخل في هذا الضعف ان عاجلا او آجلا.
ففي الوقت الذي يطالب فيه الخبراء بالاهتمام بالتكوين الاساسي وتوسيعه ليمتد الى 03 سنوات او 04 سنوات مع العمل الفعلي على القضاء على التكرار لانه الشق المرير من الهدر ( الهدر المدرسي = الرسوب + التسرب) مع تشجيع اللغات الاجنبية كالانجليزية والاسبانية والالمانية والروسية والصينية ثم الفرنسية والتعامل معها كلغات تواصل وتعلم لا لغات مراقبة وتقويم واشهاد...مع ترك حرية الاختيار للطلبة وللأولياء في اختيار المناسب لكل جهة.
وكل الدول الحرة حافظت على لغتها الاصلية وقدستها التقديس التربوي التعليمي، وآمنت بقدرتها على جر تلك الدول الى مصاف التقدم وانتشالها من بؤرالحيرة و الضلالة والتيه والعشوائية التي – غالبا – ما تسم نظاما تربويا متخلفا ومتخبطا خبط العشواء كالنظام التربوي المغربي... نجد المسؤولين المغاربة يعاكسون الآية، ولا أدل على ذلك من ان التربية الاسلامية كمقاصد وكقيم بريئة من الارهاب براءة الذئب من دم يوسف. فالنخبة السياسية في العالم العربي هي التي اساءت توظيف الدين حينما حصرته في العبادات، وحددت ادواره في خدمة " المصلحة العامة " اي جعلته في خدمتها لانها هي التي تنشئ الحق وتحميه، حسب تعبير تشرتشل الدولة = ( القوة) هي التي تنشئ الحق وتحميه. بينما الرسول صلى الله عليه وسلم لم يتحدث ابدا عن " الدين العبادة " بل ثبت عنه صلى الله عليه وسلم انه قال " الدين المعاملة "، وأكثر من ذلك فأمة اقرأ عجزت عن تطبيق امر صريح للدين " اقرأ باسم ربك الذي خلق ".
الهدر المدرسي معيار يؤنب كل ذي ضمير حي في هذا البلد العربي المسلم أهله...والمؤسف ان المغرب يدفع في اتجاه ارضاء خواطر المالكين لزمام العولمة، والمتحكمين في لجام دابتها ولو ضدا على لغته الام التي لحقها الضيم السيكولوجي جراء تصرفات ذوي القربى من اهلها. التسرب عامل من عوامل الهدر المدرسي هو سبب ونتيجة في الوقت نفسه، يتسرب المتعلم وهو يحس انه قد فقد التوازن الكفيل بضمان استمراريته داخل حجرات الدراسة...ولقد تعددت الاسباب والتسرب واحد، فقد يأتي نتيجة لضغط المقرر وتراكم المعارف وتضخم البرنامج، وقد يكون نتيجة حتمية لعدم الوقوف عند مصادر الاخطاء المرتكبة، او معالجتها من أصلها، والاكتفاء بإثارة الاعراض عوض التوقف عند الجوهر...او قد يكون نتيجة لتفكير عشوائي جاهل يسود المجتمع المغبون، حيث ربط التعليم بالتوظيف وبالشهادة، وهو شق من التبرير القاصر، الذي يدخل في ثقافة النفعية السائدة داخل المجتمع، وهي اكبر معرقل للتنمية الذاتية وتعد اوفى صديق لمثبطات العزائم المؤدية الى افشال كل دافعية في مهدها، واعود لأكرر ان المغرب فرط كثيرا في لغته، ونعتقد صادقين....ان عمالنا المهاجرين لو وجدوا مؤسسات عامة تهتم باللغتين الايطالية والاسبانية لعادوا بمشاريعهم وأبنائهم الى المغرب للاستثمار هنا بمبالغ خيالية قد تساهم في تخفيض نسبة البطالة الى ادنى مستوياتها....
أما ان يجد العامل المهاجر أمامه لغة فرنسية هزمت في عقر دارها، وتبحث عن امتدادات في ما وراء البحار، او قد يصطدم بأستاذ لا يعرف الى التواصل سبيلا: فعوض ان يسهل مأمورية الفتى او الفتاة تجده يمطرهما بوابل من الاصفار لإرغامهما على الاستسلام، والرجوع من حيث أتيا.
فإن هذا العامل المهاجر يلعن الوطن، ومن فيه، ويجمع حقائبه ليعود على متن اول طائرة الى بلد المهجر حيث ينعم الفرد بالحرية والكرامة ويتلذذ بقيمة العمل.
ان الحديث عن العلاقة بين التنمية والتعليم ذو شجون، ولكن يكفي ان نشير الى ان العقلية العربية متمسكة بالجاهزية والتضخم والتنافر على مستوى منابع المعلومات، اي ان العربي – منذ نشأته الاولى – متشبث حتى النخاع بالمعارف التي يعتبرها مقدسة، وهذا عامل من عوامل عرقلة نمو الشخصية، ذلك ان التواكل والجاهزية مسلكان يسلكهما الذي يركن الى التكاسل والتقاعس، والاعتماد على الآخر....وهذا مع الاسف ما يركز عليه النظام التربوي ان كان عائليا ، او مدرسيا، او سياسيا، او اقتصاديا...
ومن جهة اخرى وجب التذكير ان فاقد الشيء لا يعطيه، ذلك ان بعض الأباء و جل الاساتذة يتوفرون على نية لاصلاح المتعلمين والاولاد، غير ان المنهجية تخونهم، والاعتباطية تقودهم، وتقليد الاباء والاجداد والسابقين يشكل ديدنهم، لذلك سرعان ما يعودون الى العض بالنواجذ على القديم، ويأبون ركوب قطار التجديد والتطوير، ما دام يشكل في نظرهم خطرا ومغامرة.
ان التعليم هو السائد في نظامنا التربوي، والغلبة دائما للأقوى اي ان الفرد العربي تعود ان يعيش في مجتمع شعاره التراتبية الظالمة، والذكورية المتسلطة...فلا يلبث ان يلجأ الى الاسقاط كمنهجية لا شعورية للتعامل مع الواقع المعيش انطلاقا من معطيات الماضي البعيد.
ولا داعي للتذكير بأن التعليم مرتبط بالامتحانات، فالامتحان مقدس في النظام التعليمي المغربي، في حين يتم استبعاد التقويم الموضوعي بمعاييره العلمية من اجل احقاق الحق و ازهاق الباطل. والسؤال المطروح: هل المسؤولون المغاربة عاجزون عن تغيير نظرتهم الى الامتحانات؟، ام ينتظرون اقتراحات من فرنسا وهي البلد المستعمر طبقا لمقولة ابن خلدون ( المغلوب معجب بالغالب )؟، ام تعوزهم الجرأة التربوية الكافية لاتخاذ مثل هذه الخطوة التي قد تعتبر في نظر البعض اهانة للماضي، واجتراء على مقدسات الامة.... خاصة وأن النقابات والاحزاب السياسية المغربية والجمعيات المدنية ....في طريقها الى الأفول بعد ان سحب المواطن المغربي الثقة من هؤلاء، واصبح يتحدث عبر تنسيقيات ، او جمعيات تدافع عن الانسان كإنسان بعيدا عن انتمائه السياسي، او قناعاته الايديولوجية، او أرائه الشخصية...؟
الساكنة في المغرب، وفي العالم العربي غير مؤهلة لقيادة التغيير الاجتماعي والتربوي والاقتصادي الذي تتطلبه التنمية الانسانية، فهذا GUNNAR MYRDAL يرى ان اتجاهات السكان معيقة للتنمية في الدول السائرة في طريق النمو، لأن الفرد الذي يؤمن بالخرافة، ويتشبث بالاسطورة، ويراهن على الحظ والصدفة، ويمارس باعتباطية عشوائية... هذا الفرد لا يمكن التعويل عليه لقيادة سفينة التغيير، او المساهمة في التطور الايجابي... ناهيك عن ايمانه بالانتهازية، وجريه وراء الانانية، ودعوته الى التعصب والانغلاق، او الى التفتح حتى الذوبان....
ان الطفل في المدرسة، كي يصبح مساهما في تنمية بلده، ومدافعا عن تقدم وطنه، ومتعاونا مع أبناء دولته وأمته لابد ان يتعرض لوضعيات من الواقع المعيش، اثناء تدريسه، لاختبار كفايته وقدراته ومهاراته، وأكثر من ذلك من اجل بناء شخصيته انطلاقا من مواقف وتوجهات وقيم بكيفية متدرجة.
كما انه من الضروري ان بتعلم المتعلم كيف يتعلم، وكيف يعمل، وكيف يكون، وكيف ينسجم....وكي يتمكن من ذلك ينبغي ان يعلم ان : كل فكرة تبقى نسبية، فلا وجود لفكرة مطلقة... وهذا الاعتقاد سيحميه من التعصب للرأي مستقبلا. كما سيدفع به الى استعمال مجهر النقد البناء كي يصل الى الحقيقة الموضوعية.
كما عليه ان يتعامل مع الموقف بكيفية سياقية عوض اعتماد التعميم الذي اصبح ظاهرة مرضية لاشعورية تسير الانسان المغربي وهو كهل او شيخ او شاب، لأنه من شب على شيء شاب عليه، وهذه العيوب تأتي غالبا من الطفولة التي قال عنها WOOD WORTH : ( الطفل ابو الرجل ) في اشارة الى خطورة مرحلة الطفولة التي قد تنقل أزماتها الى محطات الشباب والكهولة والشيخوخة.
ان ما ينقص العقلية العربية انما هو افتقارها للقيم التربوية الاصيلة، فالعائلة تروج لقيمة الطاعة العمياء، غير مبالية بما يترتب عن صراع الاجيال من سوء تفاهم طبيعي، والطاعة العمياء ما هي الا تدجين لانسانية الانسان، والغاء لحريته، وتطاول على فردانيته المتفردة، والاسرة تروج ايضا لفكرة الاعتمادية اي التبعية والتواكل، وهي خصلة سيئة يشب عليها الطفل الذي قال في حقه الاسلام: " فأبواه يهودانه أويمجسانه أوينصرانه " حديث شريف. بعد ان وصفه بأنه يولد على الفطرة...وبمعنى آخر فالطفل يولد مزودا بآليات طبيعية تمكنه من استيعاب متغيرات وسطه، والتقاط مؤشرات بيئته التي تؤثر فيه خيرا او شرا.
تبعا للمعادلة التي صاغها السلوكيون، والتي لا تزال تحتفظ بقيمتها الى يومنا هذا:
الشخصية دالة الوراثة في تفاعلها مع البيئة: الشخصية = دالة (الوراثة ↔ البيئة).
اما في المدرسة فالمتعلم الذي يعامل كتلميذ تلصق به كل اوزار الدنيا و الآخرة في محاولة مكشوفة من اساتذته وادارته لاسقاط اختلالاتهم وتقصيرهم عليه وحده – وفي بعض الاحيان عدم اهليتهم – على صغير بريء لا يجد من يسمعه او يفهمه داخل فضاءات تحولت الى ثكنات عسكرية خاصة ايام الامتحانات حيث يعتقد الزائر لمؤسسة تعليمية انه امام خطر وشيك، حيث الكل في حالة تأهب، وهو ما ينعكس سلبيا على شخصية المتعلم المتوترة اصلا بفعل الضغوطات اللامعقولة التي يتحملها.
ان عملية الاقناع بواسطة " سوط او عصا " تدفع المتمدرس الى مزيد من التمترس داخل خندق " رفض الاوامر "... وما كان الاقتناع ابدا مقنعا و لا ايجابيا عن طريق القسر والاجبار...فالانسان لا يقتنع الا بالدليل والحجة والبرهان عن طريق الاستنباط والاستقراء...
والاسلوب الحجاجي لم يؤت اكله رغم ان الطفل يتعرف عليه منذ فجر التحاقه بالمدرسة، وخاصة بالمستويات الرابعة والخامسة والسادسة من التعليم الابتدائي في اللغتين العربية والفرنسية.
ان المتتبعين للشأن التعليمي يسجلون التجاهل اللامنطقي الذي تواجه به حكومة السيد العثماني وقبلها حكومات السادة بن كيران/ العلمي/ جطو/ اليوسفي...نداءاتهم واقتراحاتهم وهي حكومات كان يعول عليها الشعب المغربي لتخليصه من الامية والجهل والفقر، وتمتيعه بتعليم متحضر، وصحة مواطنة وفلاحة تكفيه في السر والعلن، وفي اليسر والعسر، وصناعة متطورة ترفعه الى مراتب الدول المتوسطية على الاقل. لكن الحكومات تعاملت مع المواطن بأسلوب اداري بحث : فهي تفرض و تتسلط بكيفية ديكتاتورية ينعدم فيها التفاعل، والتواصل، والتغذية الراجعة. كما عملت كل الحكومات على استقطاب المتهافتين على الميدان السياسي، ودجنتهم عبر الاغراء والاستمالة، وممارسة (غسيل المخ)...ليصبحوا في طليعة المحاربين للقوات الشعبية التي تمردت على النقابات والاحزاب والجمعيات، مادامت تعيش على الاستجداء وطلب النوال، والانبطاح المقيت امام السلطة التي تكتفي بالجود على الجرائد والاحزاب والنقابات، وتنفق عليها بسخاء كي تتنكر للفقراء والمساكين، وتتحول الى بوق رسمي يدافع عن الرسميات، ولا يقوى على انتقاد الفضائح والممارسات اللااخلاقية واللاديمقراطية التي تزكم انوف كل من يحاول الاقتراب من (المطبخ السياسي المغربي).
سيفشل السيد محمد حصاد – كما فشل اسلافه وسابقوه – اللهم الا اذا حدثت المعجزة، ومن علاماتها :
1. حل مشكلة 158 طالبا استاذا، سبق ان تم ترسيبهم من بين 11000 ممتحن.
2. اعادة الاطر الموقوفة اداريا وتربويا، الى مناصبها الاصلية عملا بمبدأ (احقاق الحق وازهاق الباطل).
3. ادخال اصلاحات شاملة على نظام الامتحانات الذي يأسر جميع الاطر الحية في تعبئة تمس السنة الدراسية كلها تقريبا.
4. اعادة الاعتبار للتعلم، وللدراسة، ولارساء الموارد، ولتحقيق الاهداف التعلمية، ولبلوغ الكفايات المستهدفة، ولنشر القيم الايجابية، ولتكوين المواقف المتينة....عوض الابقاء داخل سجن الامتحانات، والتقوقع داخل زنزانة المراقبة، والتقويم الاشهادي.
5. معالجة المشكلات التعليمية والتعلمية انطلاقا من مصادرها، فلا يجوز – تربويا – ان نحاكم الطفل، او ننحي عليه باللائمة والنظام التربوي غارق حتى أذنيه في تهمة ادانة الطفل والمتعلم عامة قبل استحضار ملف التهمة، فالمتهم بريء الى ان تثبت ادانته، وهي فكرة معكوسة في نظامنا التعليمي العاجز عن الارتقاء الى مستويات الانظمة التربوية المتقدمة.
6. تغليب كفة التربوي على الاداري والتقني داخل دواليب وزارة التربية الوطنية، ان مركزيا او على مستوى الاطراف، ومن ذلك اعادة الاعتبار للمفتشين ولجهازهم الذي اجهزت عليه الآلة الادارية، الى درجة ان البعض نسي ان الديبلوم المحصل عليه بمركز تكوين المفتشين لم يعد له جدوى في نظر المتمكنين من التعليم وشؤونه بالعاصمة الرباط. فهذا الديبلوم لم يتحصل عليه الطالب المفتش الا بعد حصوله على شهادة الباكالوريا، ومروره من تجربة ميدانية، و بعد ثلاث سنوات من التكوين العسكري الاداري والتربوي ( لقد كان المركز أشبه بثكنة عسكرية تخضع لنظام صارم )، وفي الاخير يتم التنكر للخريج عندما يطالب بتسجيل نفسه بكلية علوم التربية، او بكلية من الكليات المغربية، مع العلم ان هذا الدبلوم يساوي الاجازة المهنية على الاقل، وبالتالي فهو شهادة تؤهل صاحبها لدخول سلك الماستر مثلا. فماذا يقول السيدان العثماني و حصاد في هذه المقاربة؟، ام ان الادارة المغربية صماء وعمياء لا يهمها الاستغاثة، ولا تؤمن بالتدخل لاصلاح ما افسده اسلافها؟.
7. اعادة الاعتبار لمراكز التربية والتكوين عبر فتحها امام افواج التوظيف، فهذه المؤسسات كانت خاوية على عروشها طيلة السنتين الماضيتين، ودكاترتها شربوا حتى الثمالة من البطالة والهدوء والسكينة والفراغ.
8. اعادة الاعتبار للتكوين الاساسي وللتكوين المستمر، فالاول ضروري لولوج المهنة، والا فكل من هب ودب يمكنه أخذ الطباشير، والكتابة على السبورة، وممارسة الدجل والكذب على الاطفال.
9. اخراج قانون الاضراب الى حيز الوجود، لأنه أصبح مثل العصا السحرية التي تلوح بها الحكومة ضد اي حراك منظم لنقابات معترف بها رسميا. ان مثل هذا القانون سيسطر الحقوق والواجبات بوضوح، وسيحافظ على حريات الافراد وكرامتهم دون الاخلال بواجبهم تجاه الاخرين.
10. انصاف الموظفين عبر سن نظام تربوي جديد يتجاوز المشكلات التي زرعها نظاما 1985 و 2003 في الجسم التعليمي الذي تعب من المناداة بضرورة رد الاعتبار للمتضررين من هذين النظامين، ولكن دون جدوى.
11. مواجهة المشكلات الحقيقية للشغيلة التعليمية على الخصوص بالشفافية والوضوح، وبقليل من المكاشفة يمكن حل الاشكالات العالقة. ان الدولة المغربية، وجهازها التنفيذي يلعبان على حبل قصير، حبل النسيان وربح الوقت. فكيف يعقل ان تدعو الحكومة - كل سنة – الى حوار مع النقابات في شهر أبريل، وعندما يمر عيد الشغل في اجواء كلها أمل ورغبة في تجاوز الماضي، تعمل الحكومة على اغلاق ملف الحوار الى شتنبر الموالي – وهو موعد الدخول التعليمي و السياسي الرسمي – ومع ذلك تبقى دار لقمان على حالها. وبهذه الطريقة يمكن ان نفسر فقدان المغاربة للثقة في مؤسساتهم، ونزوعهم نحو اليأس، وميلهم تجاه الاحباط حيث القلق والشك وعدم الرضا، والتذمر.
12. الانكباب على اصلاح الادارة المغربية التي ضربت اسوأ الامثلة في التسيير على المستوى العالمي، فإذا أردت لمشروع ان يجهض فما عليك الا ان تعرضه على الادارة المغربية، حيث سيتم اقباره نهائيا، او سيعمل المسؤولون على تأجيله من ممارسة التسويف والتماطل حتى انقضاء الاجل المرغوب فيه. انها لعبة الخبثاء يمارسها أذكياء الادارة المغربية التي تعطل مصالح العباد والبلاد، وهي مسؤولة عن الكثير من المآسي التي ذهب ضحيتها ابرياء، وبعضهم دخل قبره مع ان ملفه لم يتم البث فيه من طرف ادارتنا التي تعودت عدم الندم على أي شيء.
على كل حال فالتربية ضرورية واساسية داخل جميع المؤسسات العامة والخاصة، وحديثنا انما كان يدور حول افتقادنا الى قيم التربية الاصيلة، ومبادئ التربية الانسانية التي تقدس العمل والعلم، وتؤثر قيم التعاون والتضامن، وتحث على العمل كفريق يكمل بعضه بعضا.
ان التعليم وحده قد يحقق اهدافا، وقد يمنح صاحبه شهادات او ديبلومات، ولكنه عاجز عن اهدائه قيما ومنهجية ومبادئ للتفاعل والتواصل والتماسك مع الاخرين. التعليم قد يحقق اهدافا، الا ان الكفاية تبقى غائبة الى حين استحضار روح التربية واخلاقيات قيمها.
ولله الامر من قبل ومن بعد.
والسلام عليكم ورحمة الله.
0 تعليقات
السلام عليكم و مرحبا بكم يمكنكم التعليق على أي موضوع ،شرط احترام قوانين النشر بعدم نشر روابط خارجية سبام أو كلمات مخلة بالآداب أو صور مخلة.غير ذلك نرحب بتفاعلكم مع مواضيعنا لإثراء الحقل التربوي و شكرا لكم.