يقول الشاعر مصورا وضعية جلوسه وزملاءه:
كأننا والماء من حولنا....قوم جلوس حولهم ماء
هذا البيت اعتبره البلاغيون والنقاد لغوا وهراء لا طائل من ورائه, لأن الشاعر لم يضف شيئا سوى تجسيد تحصيل الحاصل, ولأن وجه الشبه فيه يفتقد الوجه الذي يفترض أن يؤديه من خلاله, فهو دوران في حلقة مفرغة تذكرني بواقعنا المغربي, وبكتاباتنا وتدويناتنا التي لم تخرج بدورها عن خندق تحصيل الحاصل وهي تدندن حول موضوع الفساد وانهيار القيم الوطنية, مقدمة خلاصة تحاكي نظم الشاعر وتسير معه جنبا إلى جنب, لتقول بدورها:
كأننا والفساد من حولنا....قوم جلوس حولهم فساد
لم نضف, ونحن نراكم المقال تلو المقال, شيئا سوى ملء الفراغ بعبارات مسكوكة نحاكي فيها بعضنا البعض, ونذرف من خلالها دموع الحسرة على ما لحقنا من إذية, وما استبد بنا من ألم عصية وخزاته, كل بطريقته, وعلى شاكلته, وكأن روح الشاعر حلت فينا جميعا, فجعلتنا نقتفي آثاره, ونسير على جادته دون أن نحيد قيد أنملة.
تحدثنا عن مجالسنا المنتخبة, وأسهبنا في تصوير هدرها للمال العام, وفي الكلام عن سوء تدبيرها, لنجد في الأخير أننا ندور في حلقة مفرغة, وأنه كان أجدر بنا وأولى أن نذخر مدادنا, وأن نكتفي بوقف جزء منه على مجلس مدينة واحدة, وبعد ذلك نعمم حصيلة التشخيص والتجسيد على باقي مدن المملكة السعيدة وأقاليمها وولاياتها, لأننا نكاد نكون أمام نسخ متشابهة, لا تختلف إلا في الاسم, أم
الباقي فيؤطره القاسم المشترك تأطيرا يكاد يجعل منها ومن كتاباتنا حولها نسخا متشابهة تغرد بلغة "كأننا والماء من حولنا'.
تحدثنا بإسهاب عن مشاكل التعليم في مدننا وقرانا ومداشرنا, فتأسفنا لواقع الاكتظاظ والهدر المدرسي وتخلف البرامج والمناهج وووو, دون أن ندري أننا لم نضف شيئا ونحن نودع هذه السنة الدراسية ونستقبل أخرى, سوى اجترار وإعادة تكرار مندباتنا السابقة ببكائها وصراخها وعويلها, وقد كان بإمكاننا التوقف عن هذا والإعراض عنه, مع الاكتفاء بالمخزون, والانتباه فقط إلى التقويم الجديد, فنخرج إلى الوجود مقالاتنا تباعا مع بداية كل موسم دراسي, ثم نرجعها إلى مرقدها في انتظار الموسم الآخر, لأن واقعنا التعليمي مخلص أشد الإخلاص لأحواله وظروفه, يأبى أن يتركها, كما تصر هي ألا تتركه أو تتخلى عنه, ثم نأتي نحن لنتحدث نفس النغمة في كل وقت وحين باجترار ممل, يجعلنا وجها لوجه أمام إعادة إنتاج لا أول لها ولا آخر, وكأننا نستلهم من الشاعر لغوه وهراءه.
حدثنا وتحدثنا عن مدننا الغارقة في الأوحال, وعن طرقاتنا المحفرة, وقنوات صرفنا الصحي المهترئة, وحدائقنا الجرداء التي تحول كثير منها إلى يباب, بكينا وانتحبنا في الرباط والدار البيضاء وفاس وآسفي والجديدة واليوسفية....مع العلم أننا, ولكي لا نبقى دائما في دائرة المكرور المهجور, كان حريا بنا أن نكف عن الكتابة بهذا الصدد, وأن نكتفي بما كتب عن مدينة واحدة من مدن مملكتنا الحبيبة,ثم نعمم
ذلك على باقي المدن بأريحية تامة, دون شعور بخجل أو وجل أو خوف من مغبة الوقوع في فخ عدم المقاربة في التشبيه والإصابة في الوصف, مع توخي الحذر والانتباه فقط إلى تغيير اسم المدينة, وتجديد الإطار الزمني, وكم أعجبني أحدهم حينما أخذ تحقيقا لي حول السوق الأسبوعي لمدينة اليوسفية, وبسطه كما هو, دون أن يضيف عليه أو ينقص, ودون أن يغير من معالمه سوى اسم المدينة التي أحل محلها مدينة سطات, مجيبا إياي بعدما استفسرته عن ذلك بنبرة ساخرة بأن أسواقنا الأسبوعية تتشابه وتتماثل, ومقال واحد يكفي ليعمم عليها جميعا.
أطنبنا في الحديث عن الصحة ورداءة خدماتها ومشاكل المستشفيات العمومية التي لا تنتهي, دون أن ننتبه أن ما يقع بهذه المدينة يحاكي ما يقع بالمدينة الأخرى, لنجد أنفسنا في الأخير منتجين نسخا متشابهة حد التطابق, كما لو وقع الحافر على موضع الحافر, في وقت كان بإمكاننا أن نختصر المسافة, وأن نعمد إلى أرشيف مدينة واحدة, أو مستشفى واحد, لنعممه على باقي المدن والمستشفيات, حتى لا نقع في مطب "تفسير الماء بالماء", كما فعل شاعرنا الذي:
أقام يعمل أياما قريحته...وفسر الماء بعد الجهد بالماء
كان علينا, درءا للنفس وإخراجا لها من هذه المتاهة, أن نتوقف عن الكتابة حول مشاكل البلد السعيد, وفي أرشيف الثمانينيات وما قبل ذلك وما بعده,"الخير والكفاية", فالقطار متوقف, والرحلة معطلة, والمسافرون في وضع الانتظار,
انتظار غودو الذي مازال قابعا في لحظة المجهول, مصرا على رفض منحنا وميض أمل صغير في التملي بطلعته البهية.
0 تعليقات
السلام عليكم و مرحبا بكم يمكنكم التعليق على أي موضوع ،شرط احترام قوانين النشر بعدم نشر روابط خارجية سبام أو كلمات مخلة بالآداب أو صور مخلة.غير ذلك نرحب بتفاعلكم مع مواضيعنا لإثراء الحقل التربوي و شكرا لكم.