حينما يوزع دم المدرس بين القبائل
ـ نورالدين الطويليع
طغى، على سطح المنظومة التعليمية المغربية، وحواشيها المرتبطة بالأسرة
والمجتمع خطاب جديد يؤطره الحقد والكراهية
تجاه رجال القسم
ونسائه، وانخرطت في الحملة مواقع إلكترونية لم تذخر جهدا في تلطيخ صورة المدرس وهي
تتهافت على خبر هنا وهناك، وشبه خبر، وفرية، وتصريح في لحظة غضب، لتتخذ من ذلك كله
مادة إعلامية بطعم الهدم والطعن وتشويه هذا الذي، وهذه التي، وأولئك الذين هم عماد
المجتمع الذي لن تقوم له قائمة بدونهم، ولن يكون له سهم رقي وتحضر في غيابهم،
لأنهم صانعو الرأسمال البشري ومشكلو لبناته الأساسية، وأي إقصاء لدورهم، أو تعسف
في حقهم، أو تحريف لمهمتهم، أو تقاعس من جانبهم لن تنتج عنه سوى كوارث حقيقية
ستعجل بإرسال الوطن إلى الجحيم.
ويبقى التساؤل المحير عن سر هذا الانحراف في طبيعة النظرة السلبية للمدرس،
إلى الحد الذي حذا بوالدة تلميذ، ارتكب ابنها أبشع جريمة في حق مدرسته، وعوض أن يلجمها
الفعل الشنيع، لم تتورع عن إطلاق لسانها طولا وعرضا في عرض الأستاذة بلفظ استعاري
أشفقت من خلاله على ابنها الذي دنس نفسه و"وسخها" حينما مد يده
"الطاهرة" المسلحة بشفرة حلاقة، على وجهها، وكأنها تتحدث عن رجس من
الشيطان، وليس عن آدمي، يفترض أن تحرك دماؤه المنسابة، ووجهه الملائكي الذي ينطق
بكل معاني البراءة، ولغته الراقية التي لم ينل منها الجرم شيئا، وهو يتحدث في خضم
الصدمة عن "الوليدات"، وعن "الواجب التربوي"، يفترض أن يحرك
كل ذلك هذه الأم ومن أعطوها الكلمة ليكفوا ألسنتهم وكاميراتهم وأقلامهم عن لغة
التشفي والقدح والخوض في الأعراض، وأن يكون الحدث فرصة للجميع ليعيدوا ترتيب
أوراقهم ويراجعوا مواقفهم، ليس لسواد المدرس والمدرسة، ولكن لوجه هذا الوطن الغابر
الذي يخطو خطوات حثيثة نحو المجهول، في زمن افتقد الجالسون على أريكته السياسية
الحكمة والحزم، وتركوا فتيل الفتنة مشتعلا، دون أن يبذلوا جهدا يذكر لإطفائه، أو
أن يحولوا، على أقل تقدير، بينه وبين من يتعهدونه بالوقود.
حتى نخرج من نطاق العموميات، وحتى نضع النقط على الحروف، سنقف عند مسؤولية
كل طرف ممن نرى لهم يدا في هذا الوضع الشاذ، بدءا بالسياسيين الذين يمارسون الحكم،
الذين لا يخفى على أحد دورهم السلبي في تأزيم علاقات المجتمع المدرسي، وطبخها على
نار التشنج المشتعلة من خلال تصريحات لا مسؤولة أشرنا إليها في أكثر من مقال، ومن
خلال مذكرات صورت المدرس في صورة وحش كاسر عديم الإحساس الإنساني، لا هم له إلا
افتراس المتعلمين والنيل من نفسياتهم، لغاية في نفوسهم قضوها، أو أوشكوا على
قضائها، غاية يستهدفون من خلالها إفراغ المدرسة العمومية من محتواها، وتجسيدها في
صورة بيت خرب، لحمل الآباء على ترحيل أبنائهم صوب المدارس الخصوصية التي لا نسمع
عنها،ولو جزءا يسيرا من هذا الضجيج واللغط المصاحب لصنوتها العمومية.
هذا الذي يشتكي من عبء المدرسة على الدولة، ومن استنزافها لميزانيتها، لا
يمكن بأي حال من الأحوال، أن يكون وإياها في توافق، أو شبه توافق، بل سيعمل، بكل
السبل والأسباب على التخلص منها، ومادام الهجوم والهدم المباشر مهمة مستحيلة، فثمة
طرق أخرى لإفراغها من محتواها، وإخراجها من أفئدة الناس، وتحويلها إلى جثة هامدة
لا روح فيها بمناهج متخلفة، وظروف عمل غير ملائمة، وتشجيع على مزيد من اللا انضباط،
ولمن شك يكفيه التوقف لدقائق معدودة أمام أبواب المؤسسات الثانوية ليرى تقليعات
شعر غريبة تنطق بكل معاني التحدي لنظام داخلي وقعوه بمعية آبائهم، ثم داسوا عليه،
ورموه وراء ظهورهم، ليتعلموا بذلك كفاية الاستخفاف بالقانون الاستراتيجية، ويتلقوا
الدرس الأول في تحدي النظام برأس قزعي مرفوع، لا يجرؤ أي أحد، حتى على استفسارهم
عن سر خرق قانون داخلي تحول إلى مجرد ورقة بلا مدلول، مخافة أن يتحول إلى مادة
إعلامية دسمة، وقد نال من جسده مشرط أو سيف أو سكين أو شفرة، وأن يُحَمِّلَهُ
القاعدون الذين ينتظرون الفرصة لإطلاق فوهات ألسنتهم، مسؤولية التضييق على حرية
مراهق، والتنطع، والفضول، وإتيان ما أحجم عنه الزملاء، وأن يظهر الأب أو الأم في
شريط فيديو ليلقي عليه مسؤولية التحرش النفسي بابنه ذي التربية الحسنة والخلق
الراقي، ويرميه بأشنع أساليب السب والشتم.
هذا دون أن نتحدث عن السراويل "الساقطة"، والسراويل المليئة ب
"الثقوب"، ودون أن نأتي على أشياء كثيرة صار المدرس والإداري يكتفيان
بمشاهدتها كباقي الناس، ولسان حالهما يقول: اللهم إن هذا منكر، مَكَرُوهُ في
الحكومة والوزارة، ليجعلوا عاليها سافلها، ويدفعوا من بقي له سمع أو قلب من
الآباء، ليُرَحِّلَ ابنه بعيدا عما يراه مستنقعا، وإن قصرت يده،ولم يكن جيبه في
مستوى الأداء المالي المكلف في المدرسة الخصوصية، وطبعا لم يكن للأمر أن يذهب إلى
هذا المدى، لو لم يجد الحضن الإعلامي الذي سير له كل سبل النجاح، بقصد أو بغير
قصد، هذا الإعلامي، أو شبيه الإعلامي الذي علموه أن عبارة "عض كلب رجلا"
لا تصلح أن تكون خبرا، وأن "عض رجل كلبا" هي ما يستحق أن يكون خبرا،
ليبني على ذلك تصوره، ويتناسى اللحظات التربوية الجميلة التي لا تجد من يروج لها،
وتموت داخل أسوار المؤسسات التعليمية، على الرغم مما تتضمنه من تضحيات وإشعاع وعمل
دؤوب من قبل المدرس وتلميذه، ولا يعير اهتماما يذكر للأيام التربوية البِيضِ،
ولغالبية رجالها ونسائها الذين خَرَمَ المرضُ كثيرا منهم، دون أن يثنيهم عن التوقف
عن أداء رسالتهم التربوية النبيلة، ولا تعنيه في شيء لحظات الصفاء والود والتفاهم
التي تشغل من الزمن المدرسي الحيز الأكبر، إن لم نقل الحيز كله، وتسري على
الغالبية الساحقة من تلاميذ ما زالت تجري في عروقهم دماء احترام مدرسيهم وتقديرهم،
ولا يألون جهدا في بذل كل المتاح لهم من إمكانيات لتحصيل دراسي جيد...كل هذا وذاك،
لا مكان له تحت شمس كاميرات إعلاميينا هؤلاء، وأقلامهم الجافة، لأنه لا يعدو أن
يكون على شاكلة خبر عَضِّ الكلبِ للرجل، لكن بالمقابل يجد الجانب الفضائحي كل
الاهتمام، فبمجرد ما يطل من شرفة المنظومة خبر يسيء بأي شكل من الأشكال، للمنظومة
وأطرها، تُشْحذ سيوف الكلام وينزل أصحابها للساحة لتمطيطه وتهويله وإضفاء
الغرائبية والعجائبية عليه بكل تفنن، إلى درجة أننا صرنا لا نسمع عن المدرس سوى
أنه عنف تلميذا، أو عُنف من لدن تلميذه، أو تحرش، أو كذب وتولى....، والضحية طبعا
هو الوطن بكل أطيافه، وخصوصا شعب الآباء والأمهات الذين وقعوا ضحية تمثل سلبي
لمعلم أبنائهم، وسقطوا في فخ إيهامهم بأنه خصيم مبين، ولذلك ترى كثيرا منهم موليا
عقبه لجهود المدرس في تعليم ابنه طوال السنة، حتى إذا ما نابهم منه شيء ما، ولو
كان تافها، جاؤوا إلى المؤسسة التعليمية يسعون بعصيهم وحبالهم ليلقوا بها دفعة
واحدة على وجه هذا الذي ارتكب الجرم، وكأنهم كانوا ينتظرون الفرصة للانقظاظ،
وأعياهم الانتظار على باب اللحظات التربوية المنسابة بسلاسة، فوثبوا على اللحظة
الاستثنائية مخافة ألا تتكرر، وهنا لا بد من أن نشير إلى أن الشحن المتكرر
والتأليب وخطاب الكراهية هو ما خلق هذه النفس الناقمة، وأجج مشاعر الحقد تجاه رجال
التعليم ونسائه، دون أن ننسى غياب البعد النظري والقدرة على فك شفرات الخطاب وفهم
ما وراء السطور، والربط بين الأسباب والمسببات، لأننا مجتمع سهل الاقتياد، يمكن
الذهاب به إلى الوجهة المقصودة دون كبير عناء لأسباب لا مجال لتفصيلها الآن.
في ظل هذه الظروف الحالكة، ليس أمام المدرس إلا أن
يعض على حبل المنظومة بالنواجذ، فرغم هذا الإصرار على الضرب من الخلف ممن يعون ما
يفعلون، وممن لا يعون تحت تأثير السكر الإعلامي، فالواجب الوطني يحتم الاستعصام
بقطاع يريدون له أن يغادر الحياة، وكل تراخ من جانب هذه الفئة، يعني تيسير المهمة
وتحقيق الرغبة في إزهاق الروح وحفر القبر، قد تكون المهمة صعبة، والمسؤولية جسيمة،
لكنها ليست بالمستحيلة بأي حال من الأحوال
0 Comments
السلام عليكم و مرحبا بكم يمكنكم التعليق على أي موضوع ،شرط احترام قوانين النشر بعدم نشر روابط خارجية سبام أو كلمات مخلة بالآداب أو صور مخلة.غير ذلك نرحب بتفاعلكم مع مواضيعنا لإثراء الحقل التربوي و شكرا لكم.