قراءة في كتاب التحليل اللساني المقارن تطبيق على الأسماء الممنوعة من الصرف للدكتورة رحمة توفيق
ـ نورالدين الطويليع
لايحظى الكتاب اللساني غالبا بالمتابعة والتتبع والمواكبة التي تستأثر بها
المؤلفات الأدبية والنقدية، فكثيرا ما يبقى هذا الكتاب حبيس رفوف المكتبات، دون أن
تطاله يد الدراسة، يشخص الفاسي الفهري هذا الوضع قائلا: "هناك شبه غياب للمتابعة
والنقد الموضوعيين، تصدر كتب كثيرة فلا يتابعها أحد...لنقارن بين متابعة كتاب
اللسانيات واللغة العربية الصادر بالعربية، وكتاب ISSUES الصادر بالإنجليزية، ادخلوا على الأنترنيت وقارنوا،
لا مجال للمقارنة النوعية ! فهذا يطرح إشكالات
متعددة على من يكتب بالعربية !"[1].
ويرجع سبب
هذا النكوص إلى اتكاء اللسانيات على اللغة ومفاهيمها التي يضع الكثير منا نفسه
بعيدا عنها، ويعفيها من عناء البحث فيها، مع العلم أن إتقان اللغة وضبط مصطلحاتها صمام
أمان الإبداع الأدبي الذي لا يمكن أن ينهض بلغة مخرومة خائرة، وقد "كان
النحاة العرب على يقين من أن إلمامهم ببنية النحو العربي كان له أهمية قصوى في
الحفاظ على جمال الأدب العربي الذي يعتز به العرب وغير العرب"[2].
وحتى نكسر من
رتابة المألوف، ارتأينا أن نعتمد مؤلفا لسانيا في هذه القراءة المتواضعة، إيمانا
منا بأهمية الدرس اللساني والدرس اللغوي، ودورهما الحاسم في النهوض باللغة العربية
وإظهار لآلئها المطمورة وذخائرها النفيسة.
الكتاب الذي
نحن بصدد دراسته هو كتاب "التحليل اللساني المقارن، تطبيق على الأسماء
الممنوعة من الصرف" للدكتورة رحمة توفيق، أستاذة اللسانيات بكلية الآداب،
جامعة شعيب الدكالي بالجديدة، وقد صدر حديثا عن مؤسسة عالم الكتب الأردنية، وعرض
لأول مرة بالدورة الحالية للمعرض الدولي للكتاب بالدار البيضاء، يقع الكتاب في 179
صفحة من الحجم الكبير، موزعة على أربعة فصول ومقدمة وخاتمة.
تأتي أهمية
الكتاب في طريقة تناول ظاهرة المنع من الصرف، المؤسسة على تصور جديد، رحلت الكاتبة
من خلاله بالمفهوم من مجال الدرس اللغوي التقليدي الذي يتأسس على استحضار القاعدة
اللغوية كغاية في ذاتها ولذاتها، إلى حقل الدراسات اللسانية الحديثة، فتناولته
بالدرس والتحليل، مستفيدة في ذلك من معرفتها اللغوية التراثية، ومن منجزات النحو
التوليدي ومفاهيمه، ومن تكوينها الأكاديمي والعلمي، ومن انفتاحها على اللغات
الأجنبية الذي أسعفها كثيرا، وساعدها في إرساء منهج مقارن ساعدها في تلمس الظاهرة
في عدد من اللغات، تقول الكاتبة بهذا الصدد: "تعد هذه الأسماء
(الممنوعة من الصرف) كأسماء عارية...بناء على ذلك، نقارن بين الأسماء في اللغة
العربية، والأسماء العارية في عدد من اللغات، وذلك لنرصد أهم التنوعات والاختلافات
بينها من الناحية التركيبية والدلالية"[3].
وكما سبقت الإشارة، فقد توسلت الكاتبة للإجابة عن الإشكاليات المتعلقة
بالمفهوم بالطرح اللغوي القديم، انطلاقا مما راكمه، وما قدمه النحاة العرب، إضافة
إلى المنجز اللساني الحديث من خلال إفادتها من تصورات كل من "أبني Abney1987 " والفاسي
الفهري (1990 ـ 1993)، و"لنكوباردي Longobardi " (1994 ـ 1996
ـ 1999)، وآخرين حول المركبات الاسمية والحدية، وهو ما منح الكتاب خصوبة وعمقا،
وطبعه بطابع الجِدَّة والتميز بتوليفه بين القديم والحديث، توليفا سلسا أفضى به
إلى تحقيق التكامل والشمولية، وأظهر أنه بالإمكان دراسة النحو والصرف العربيين
دراسة جديدة تخرجهما عن نمطيتهما، دراسة لا تخاصم القديم، ولا تقطع الصلة به من
جهة، ولا ترتكن إليه وتستند عليه استناد العاجز من جهة أخرى، ذلك العاجز الذي
يكتفي بالقول: "ما ترك المتقدم للمتأخر شيئا" أو "ليس في الإمكان
أبدع مما كان"، بل تجمع شتات القديم وتفيد من الحديث، وتجترح مفاهيم جديدة،
تستقيها من رحم هذه المزاوجة، يقول الفاسي الفهري في هذا الإطار: "إن التفاعل
مع العلماء الغربيين بالخصوص، والعرب كذلك، عاد أساسيا لإفراز التقدم
المرجو...إننا بحاجة إلى مداخل فعلية في المستوى المطلوب، تطبق اللسانيات على
اللغة العربية بصفة مقنعة، وليس إلى تأليف "مدرسي" يكرر كلاما غربيا
بصيغ غامضة غير مفهومة"[4]، والكاتبة باعتبارها من تلامذة الفاسي الفهري تمثلت
هذه التوجيهات، من خلال اعتمادها على ركنين أساسيين: المزاوجة والإبداع.
عنوان الكتاب
يعتبر العنوان عتبة رئيسية من عتبات الكتاب التي لا يمكن
تجاوزها، لأنه مفتاح إجرائي يسهم في مَدِّ القارئ بمقدمات قرائية لا يمكنه
الاستغناء عنها وهو يمور في دهاليز المتن النصي،
يقول علي جعفر العلاق: "العنوان هو ثريا النص، ومفتاح تأويلي قد يساعد الناقد
في حل مغاليق المتن النصي، وهو يعلن عن طبيعة النص، ومن ثمة عن نوع القراءة التي
يتطلبها النص، إنه البهو الذي ندلف من خلاله إلى النص"[5]،
وفق هذا التصور سوف نقارب عنوان الكتاب الذي كتب بخط مضغوط، واختير له وللعنوان
الفرعي، ولاسم المؤلفة اللون الأبيض ضمن خلفية زرقاء، بغاية جذب القارئ وإثارة
انتباهه، لأن من مميزات اللون الأبيض قدرته على خفض قوة أي لون آخر بجانبه،
واستدراج العين القارئة لتقع عليه.
هذا الاختيار
تقف وراءه كذلك خلفيات ومقاصد أخرى اتكأت على البياض بما هو رمز للضياء والكمال
والإتقان والبداية، وبما يبعثه في النفس من إحساس بالإشراق والضياء، كما جاء في
قوله تعالى: "كلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الأسود من
الفجر"[6]،
اتكأت على هذا اللون لتمنح الكتاب بطاقة التميز والوضوح والنقاء المنهجيين اللذين
يبشران ببزوغ فجر لساني عربي جديد، وانطلاقة واعدة للسانيات عربية تُبَيِّءُ
المصطلح، وتتصالح مع التراث النحوي العربي، ولا تكتفي بترديد المقولات اللسانية
الغربية.
من الناحية
التركيبية العنوان الرئيس للكتاب عبارة عن جملة اسمية مكونة من مبتدإ ووصفين، وهي
جملة تلعب وظيفة إيحائية بكلماتها الثلاث، فالكلمة الأولى تشير إلى طبيعة
الاشتغال (تحليل)، بما يؤشر على تعاقد ضمني مع القارئ، وهو في عتبة النص، أن
الدراسة ذات طبيعة تحليلية، والكلمتان الثانية والثالثة تحيلان على مجال هذا
الاشتغال (اللسانيات)، والمنهج المعتمد في الدراسة (المنهج المقارن)، فالنعتان
لعبا وظيفة التخصيص، وأخرجا المنعوت من نطاقه العام إلى
نطاق أكثر خصوصية، جلَّى الموضوع، وكشف المنهج، لكن يبقى هذا العنوان
عنوانا عريضا وإشكاليا في الآن نفسه، يقلق أكثر مما يطمئن، ويدفع القارئ إلى
التساؤل عن طبيعة المتن النصي الذي يحيل عليه باعتباره "بنية رحمية تتولد
منها دلالات النص وتراكيبه"[7]، هذا القلق يلعب العنوان الفرعي (تطبيق على
الأسماء الممنوعة من الصرف) وظيفة إزالة غبشه، ومن ثمة إيضاح الرؤيا التي تخرج
التصور من دائرة الشساعة إلى دائرة الطرح الدقيق الذي ينصب على المفهوم (الممنوع
من الصرف)، ينطلق منه، وينتهي إليه، دون أن يزاحمه موضوع آخر.
على المستوى
النحوي يتكفل العنوان الفرعي بملء فراغ العنوان الرئيس، "التحليل اللساني
المقارن" جملة اسمية ناقصة نحويا، تتكون من مبتدإ ونعتين، وتفتقد إلى الخبر
الذي ستؤدي وظيفته كلمة "تطبيق"، مما أسبغ على العنوانين صفة الترابط
والاندماج، كما لو كانا تركيبا لغويا واحدا.
دلاليا يلعب
العنوان الفرعي وظيفة الكشف عن مقصدية الكاتبة ومجال اشتغالها العلمي في الكتاب
(المنع من الصرف) الذي لا تتناوله كغاية في ذاته، وإنما كوسيلة تحاول من خلالها
إثبات إمكانية تناول الدرس اللغوي تناولا جديدا يضع في الاعتبار المنجز اللساني
الحديث، وفق رؤية لا تنزاح أو تتطرف أو تتخندق في هذا الاتجاه أو ذاك، بل تأخذ من
الطرفين أَخْذَ بِناءٍ، لا أخذَ تلفيق.
أخيرا، وقبل
أن نخرج من نطاق العتبات، تجدر الإشارة إلى أن إثبات الصفة العلمية للكاتبة في
غلاف الكتاب (دكتوراه في اللسانيات المقارنة) تقف وراءه رغبة الناشر في لفت انتباه
القارئ لعلمية الموضوع وأكاديميته، وتذكيره أنه بصدد دراسة علمية كاتبتها مؤطرة
بمؤهل علمي في مجال التخصص، يسمح لها بالإبحار في متن الظاهرة واستجلاء عناصرها.
في متن الكتاب
تكمن أهمية
الكتاب في تبئيره لظاهرة تمثل نوعا من الخرق اللغوي أو الاستثناء، فحينما نتحدث عن
المنع من الصرف، فنحن نتحدث عن استثناء من القاعدة المتمثلة في تصريف الاسم التي
تجري على الاسم المتمكن الأمكن كما يسميه سيبويه وكثير من النحاة، والاستثناء يبقى
دائما موضع تساؤل، يستفز، يثير، يبعث على طرح السؤال، ويتحول إلى ملتقى لآراء
متباينة ومختلفة، يقول عبد العزيز علي سفر: "الأصل هو صرف الاسم وتنوينه،
والأصل لا يسأل عن علته، وإنما يسأل عن سبب عدول الاسم إلى الفرع، وهو الممنوع من
الصرف، لِمَ منع من الصرف"[8].
في هذا
السياق يأتي هذا الكتاب ليجيب عن مجموعة من الإشكاليات المرتبطة بالتحليل اللساني
المقارن في علاقته بالمنع من الصرف، حاولت الكاتبة الإجابة عنها من خلال فصول
الكتاب الأربعة التي سنقدم بسطا موجزا لمضامينها في هذه المحاولة المتواضعة.
في الفصل
الأول عالجت الكاتبة المفاهيم المرتبطة بظاهرة المنع من الصرف، في محاولة منها
للإمساك بالمصطلح وضبطه انطلاقا من المقولة الأصولية "مفاتيح العلوم
مصطلحاتها"، ثم انتقلت إلى عرض آراء النحاة العرب القدامى حول الممنوع من
الصرف، وبيان ما يُمنع منه لسبب واحد، وما يُمنع لسببين، وفق طرح إشكالي يمهد،عن
طريق السؤال، للانتقال إلى الفصول الأخرى.
وبعد أن تطرقت الكاتبة لعلاقة الممنوع من الصرف
بالبناء والإعراب خلصت إلى أن النحاة العرب، وإن اختلفوا في تحديداتهم للظاهرة،
إلا أنهم يتفقون في أن "المركبات الاسمية الممنوعة من الصرف، يغيب عنها
التنوين وإعراب الجر"[9] .
في الفصل
الثاني تناولت الكاتبة الخصائص التركيبية للأسماء الممنوعة من الصرف، مؤكدة أن
بناءها يتم في المستوى المعجمي، واعتمدت في ذلك على
طرح شومسكي
(1995) "القاضي بأن الكلمة تكون تامة التصريف في المعجم"[10]،
وتناولت الصفات الممنوعة من الصرف استنادا إلى تصور الفاسي الفهري (1998) للصفات،
مشيرة إلى الاختلاف الحاصل بين الأسماء والصفات الممنوعة من الصرف، فالأولى تحتل
موقع الموضوع، والثانية تحتل موقع الحمل.
في الفصل
الثالث عالجت الكاتبة موضوع التنوين وعلاقته بالمنع من الصرف والإضافة والإعراب،
وفق طرح إشكالي طرحت من خلاله السؤالين الآتيين:
ـ كيف نحدد
طبيعة التنوين في التراكيب الاسمية الممنوعة من الصرف، إذا افترضنا أن الأصل في الأسماء
التنوين؟
ـ لماذا
تتنافى الإضافة والمنع من الصرف؟[11].
وقد اتكأت
الكاتبة في تلمسها للإجابة على تصورين، يتمثل أولهما في تصور بعض النحاة العرب
القدامى، القاضي بأن التنوين خاصية مميزة للأسماء، وثانيهما في تصور الفاسي الفهري
(1993) القاضي بأن التنوين في اللغة العربية مضاد للملكية.
في الفصل
الرابع سعت الكاتبة " إلى معالجة بعض الخصائص التركيبية للأسماء العارية الممنوعة
من الصرف في اللغة العربية انطلاقا من التحليل الأدنوي"[12]،
وقد اعتمدت في ذلك على طروحات الفاسي الفهري (1989 ـ 1993) حول المركبات الحدية،
وانتهجت أسلوب المقارنة بين المركبات الاسمية الممنوعة من الصرف، والأسماء العارية
(bare nouns) في عدد من اللغات، مستنتجة
أن القاسم المشترك بينها هو غياب الحد الظاهر، تقول الكاتبة: "وجدنا أن هناك
لغات تعرف غياب الحد سواء في حالة التعريف أو التنكير مثل الصينية واليابانية
والمركبات الاسمية العارية الممنوعة من الصرف في العربية، ويبدو أن القاسم المشترك
بين هذه اللغات هو غياب الحد فقط"[13]
وقد اعتمدت الكاتبة في هذا الفصل على "مجموعة من الأعمال اللسانية
التي عالجت الأسماء العارية، بناء على وسائط منها:
الوسيط الدلالي (الذي) يتبناه )كركياcherchia 1998)، ويفترض فيه أن الأسماء العارية لا تتوفر
على حد فارغ.
الوسيط
التركيبي (الذي) يتبناه (لنكوباردي longobardi 1994
ـ 1999)، (ودبريز Deprez 1999)"[14]،
ويتأسس على وجود حد في المركبات الاسمية، ولو كان غير محقق في البنية الصوتية.
وخلصت
الكاتبة اعتمادا على هذين الوسيطين إلى أن "الأسماء العارية الممنوعة من
الصرف في اللغة العربية، تتفاعل فيها القيود الصرفية والتركيبية"[15].
عود على بدء
بدا لنا،
ونحن ننتقل بين صفحات الكتاب أن المؤلفة لم تتخلص من قيد الدراسة العلمية
الأكاديمية، ويتجلى ذلك واضحا في تبويبها للكتاب، وحرصها على توضيح خطوات الدراسة
التي تخص كل فصل على حدة، في بداية الفصل، وتقديم ملخص دقيق للفصل في نهايته،
مُعَضَّدًا بالاستنتاجات التي توصلت إليها، إضافة إلى الاستعانة بالترقيم، وتحديد
العناوين الرئيسية والفرعية، إلى غير ذلك من تقنيات الكتابة العلمية التي اكتسبتها
من خلال احتكاكها اليومي بالبحث العلمي، وإشرافها على البحوث والأطروحات الجامعية.
[1] ـ
الفاسي الفهري، ملاحظات أولية عن تطور البحث اللساني بالمغرب، مجلة فكر ونقد، عدد
96، مارس 2008، ص 46
[2] ـ محمد ديداوي، العربية: الاعتبار القومي
والبعد الأممي، مجلة اللسان العربي، العدد 33، دجنبر 1989، ص 9
[3] ـ رحمة توفيق، التحليل اللساني المقارن...،
ص11
[4] ـ الفاسي الفهري، مرجع سابق، ص 47
[5] ـ علي جعفر العلاق، الشعر والتلقي، ص173
[6] ـ سورة
البقرة، الآية 187
[7] ـ فرج عبد الحسيب المالكي، التماثل بين عتبة
النص ودهاليز النص، الموقع الإلكتروني لمؤسسة القدس للثقافة والفنون، 09/11/2017
[8] ـ عبد العزيز علي صفر، الممنوع من الصرف في
اللغة العربية، منشورات عالم الكتب، ص 11
[9] ـ الكتاب، ص 41
[10] ـ الكتاب، ص 3
[11] ـ الكتاب، ص 83
[12] ـ الكتاب، ص 123
[13] ـ الكتاب، ص 166
[14] ـ الكتاب، ص 4
[15] ـ الكتاب، ص 4
0 Comments
السلام عليكم و مرحبا بكم يمكنكم التعليق على أي موضوع ،شرط احترام قوانين النشر بعدم نشر روابط خارجية سبام أو كلمات مخلة بالآداب أو صور مخلة.غير ذلك نرحب بتفاعلكم مع مواضيعنا لإثراء الحقل التربوي و شكرا لكم.