التفتيش في التوجيه التربوي وأزمة المهام
في كندا،
الرائدة عالميا في مجال التوجيه التربوي، يزاول ما يقرب من 2500 مستشارا مهامهم في
التوجيه سواء في القطاع العام أو الخاص منتظمين داخل هيئة مهنية واحدة l'OCCOQ, l'Ordre des
Conseillers et Conseillères d'Orientation du Québec لها أجهزتها التنظيمية وقوانينها الخاصة بها تميزها عما سواها من
الهيئات والمهن الأخرى، وتشرف على جميع العمليات المرتبطة باختيار وتكوين وتأهيل
المستشارين والمستشارات في التوجيه بتنسيق مع الوزارة الوصية والتي وضعت قانونا
خاصا بهذه المهنة وبهذه الفئة من الأطر كما هو الحال بالنسبة لمهن الطب والمحاماة
والهندسة...الخ.
في
فرنسا، وكما في كندا، ينتظم المستشارون والمستشارات في جمعية وطنية l'ACOP, l'Association des
Conseillers d'Orientation Psychologues لها أجهزتها التقريرية كذلك مع الفارق في التسمية بالطبع.
في الدول
الاسكندنافية، وبالتحديد في النرويج، ومنذ سنة 1998 اتخذت الأبحاث والدراسات في
ميدان التوجيه منحى آخر مغاير تماما لما أنتجه قرن ونصف تقريبا من الممارسة
النظرية والتطبيقية، في طفرة نوعية لا مثيل لها في العالم، انه حقل جديد وفريد
يعرف اصطلاحا بالتوجيه الفلسفي، والذي يعنى ليس فقط بالتوجيه المدرسي والمهني بل
بالتوجيه في الحياة ككل سواء تعلق الأمر بالطفل أو التلميذ أو الطالب أو الراشد
وذلك عبر تشخيص فلسفة الحياة وتعديلها أو تطويرها أو تغييرها عند الاقتضاء انطلاقا
من ملاحظة أساسية وهي أن الوجود الإنساني لا يمكن اختزاله في الدراسة أو البحث عن
العمل لأنه أعمق وأعقد بكثير من ذلك، كما أن سعادة الفرد في المجتمع تتحكم فيها إلى
حد كبير قناعاته الشخصية وآراؤه الفلسفية بمعناها الواسع أي طريقته في التفكير
ومنهجه في الحياة.
في
المغرب، ولاعتبارات تاريخية معروفة مرتبطة أساسا ببنية النظام السياسي القائمة لا
يتسع المقال لذكرها، تحتل منظومة التوجيه موقعا هامشيا في النظام التربوي ويعيش
ممارسو هذه المهنة تناقضات لا حصر لها مقارنة مع ما هو عليه الأمر عالميا سواء على
مستوى التنظير أو التطبيق على أرض الواقع. وللتذكير فقط، فلا يوجد لحد الآن قانون
خاص بهذه الفئة وبهذه الخدمة الحساسة والإستراتيجية في مسار الإنسان، ولا زال ″موظفو التوجيه″ يعملون
بالمذكرات والمراسلات والمقررات...التي تتقاذفها التيارات السياسية المتنافرة
والأهواء الشخصية البعيدة كليا عن الإطار العام النظري والعملي للتوجيه كما هو
معمول به في العالم. ولأن هاجس النظام التعليمي بالمغرب منذ الاستقلال إلى اليوم
هو التحكم في مخرجات المدرسة العمومية - راجع الدراسات الاجتماعية العديدة حول
الموضوع - فقد تم إحداث إطار التفتيش في التوجيه كما هو الأمر في باقي الإدارات
الأخرى.
وبالعودة
إلى النماذج السابقة، فالسؤال الذي يطرح نفسه بقوة هو ما الذي سيفتش عنه مفتشو
التوجيه؟ خصوصا أننا والى غاية الآن لم نسمع بوجود مثل هذا الإطار في الأنظمة
التربوية عبر العالم. كما أنه لا حاجة أيضا للجواب على هذا السؤال، ليس لأن السؤال
نصف الجواب كما يقول المناطقة بل لأنه وفي حالتنا هذه فالجواب كله متضمن صراحة في
طيات السؤال. وهو ذو بعدين أساسيين. قرصنة المهام ونزعة السلطة. كيف ذلك؟
بقرصنة
المهام نقصد استيراد منطق التفتيش التربوي إلى مجال التوجيه موازاة مع تهريب غريب
للنظريات والمقاربات التربوية في التدريس إلى خدمة الإعلام والمساعدة على التوجيه
وكأن هذه الأخيرة وظيفة لقيطة لا يعرف أصلها ولا فصلها. فأصبحنا نسمع مؤخرا على
ألسنة المسؤولين بالوزارة مركزيا وجهويا وإقليميا من المنتسبين إلى هذه المهنة أو
من غيرهم تأصيلات وقياسات تربوية - كما هو الحال في علوم أصول الفقه - للتوجيه على
التدريس. كحصة التوجيه قياسا على حصة التدريس، وزمن التوجيه مقارنة بزمن التدريس،
وبرنامج التوجيه كبرنامج التدريس، وكفايات التوجيه ككفايات التدريس...وأخيرا وليس
آخرا التفتيش في التوجيه على شاكلة التفتيش التربوي في التدريس. وما زالت اللائحة
مفتوحة لإبداعات من هب ودب من المتطاولين على مجال التوجيه.
نعيد مرة
أخرى طرح سؤالنا السابق : ما الذي
سيراقبه مفتشو التوجيه بالتحديد؟ هل سيراقب هؤلاء الحصص الإعلامية للتأكد من مدى
صحة دعائم الإعلام والتوجيه التي تصدرها الوزارة ومؤسسات التعليم العالي؟ أم
سيحضرون كمراقبين المقابلات الفردية التي يجريها المستشارون والمستشارات مع
التلاميذ الذين يعانون من المشاكل النفسية أو المعرفية أو الاجتماعية التي تعيق
اختياراتهم الدراسية والمهنية؟ أم أنهم سيتأكدون من الاستشارات التربوية للتلاميذ
ومدى مطابقتها لتوجهات الوزارة؟
البعد
الثاني من الجواب عن سؤالنا حاضر جدا هنا لأن الأمر ببساطة يتعلق بهصر خدمة الإعلام
والتوجيه وكسر ضلوعها لتتناسب وقوانين الوظيفة العمومية وليتم التحكم في الهامش
الضئيل لحرية الاختيار الذي يكفله التوجيه التربوي للتلميذ المغربي عبر التحكم
المباشر في موظفي التوجيه. وإذا علمنا أن نسبة التلاميذ الحاصلين على البكالوريا
الذين يتمكنون من الولوج إلى مؤسسات ومعاهد التعليم العالي ″ النبيلة″لا تتجاوز 7 بالمائة، جاز لنا
أن نتساءل عن مدرسة الإنصاف وتكافؤ الفرص التي يروج لها النظام التعليمي بالمغرب
أين هي بالتحديد؟ وأين توجد هذه المساواة والعدالة في الولوج والخروج من والى
النظام التربوي المغربي؟
الوجه
الثاني للنزعة السلطوية لإطار التفتيش في التوجيه والذي يحاط بالسرية التامة هو
ضبط المستشارين والمستشارات في التوجيه الذين يعتبرون موظفين أشباح ولا يتواجدون أبدا
في مقرات عملهم كما هو مترسخ في أذهان الكثير من الموظفين أو من الناس العاديين.
والدليل على مرض السلطة والتسلط الذي صاحب زرع هذه الوظيفة الغريبة في جسم التوجيه
بالمغرب هو التحرشات الإدارية التي تطال المستشارات والمستشارين العاملين في
القطاعات المدرسية في غالبية المديريات الإقليمية. نعم هناك استثناءات تشربت فلسفة
التوجيه تنتمي لهذا الإطار وتضطلع بمهامها التأطيرية والتكوينية بهدوء ورزانة
فائقين، لكنها وللأسف الشديد تبقى قليلة مقارنة مع الغالبية من المفتشين التي
تتلذذ بتعذيب المستشارات والمستشارين عبر سلسلة لا تنتهي من الضغوطات والمراسلات
والاستفسارات...بتنسيق مع المسؤولين في الإدارات الإقليمية أو الجهوية أو المركزية.
والاستثناء يؤكد القاعدة كما يقال في الرياضيات.
هناك من
المستشارات والمستشارين من قضى نحبه وانسحب بصمت من هذه المهنة، وهناك من قام
بتغيير الإطار إلى إطار آخر، وهناك من تحول إلى العمل بالقطاع الخاص بعد استقالته
نهائيا من الوظيفة العمومية، وهناك من تم طرده من هذه المهنة، وهناك أيضا من أصيب
بالجنون والاضطرابات النفسية والعقلية ولا أحد يأبه بهم، وهناك من يتلقى الضربات
الواحدة تلو الأخرى في صمت كئيب في انتظار لحظة الخلاص، وهناك من يقاوم وهم قلة،
لكن تتم شيطنتهم من طرف زملائهم أولا ومن طرف الإدارة التي ينتمون إليها ثانيا.
باختصار، فوضعية هذه الفئة تشبه إلى حد بعيد وضعية الأطفال ضحايا التحرش الجنسي
يعانون في صمت لكنهم لا يجرؤون على الجهر بمعاناتهم أمام الآخرين حفاظا على ما
تبقى من كبريائهم. مع فارق بسيط، وهو أن المجتمع لا يرحم الجلادين في حالة الطفولة
المغتصبة لكنه وفي الحالة الثانية يبارك ويصفق بحرارة. الأمثلة كثيرة وعديدة تستحق
الدراسة الميدانية، ويعرفها المنتمون لهذا الإطار ولا حاجة إلى التذكير بها أو
الإشهار المجاني لها.
بعد هذا الإسهاب
في استيضاح السؤال الأول، نطرح بين يدي القارئ الكريم من نساء ورجال التربية
والتعليم، وخصوصا من المنتمين إلى إطار التوجيه مجموعة من الأسئلة المستفزة :
1- ما هي
الإضافة النوعية التي جاء بها إطار التفتيش في التوجيه على مستوى الممارسة
الحقيقية والمتعلقة بالإعلام والمساعدة على التوجيه؟ مع العلم أن غالبية هؤلاء
المفتشين لم يتلقوا تكوينا في التفتيش بمركز التوجيه والتخطيط التربوي بالرباط،
والذي يمتد لسنتين بل تمت ترقيتهم مباشرة إلى إطار مفتش في التوجيه عقب اتفاق بين
الوزارة والنقابات شمل جميع أفواج ما قبل2004.
2- ألا
يعد إحداث هذا الإطار نوعا من تقليم الأظافر وتقزيما لتدخلات المستشارات
والمستشارين في التوجيه؟
3- ألا
تؤثر التحرشات الإدارية والقانونية لمفتشي التوجيه - المستشارين قبل سنة 2004 !- على أداء وفعالية العاملين في الميدان وعلى خدمة الإعلام والمساعدة
على التوجيه؟
4- أليس
من الغريب أن يكون عدد المفتشين مساويا لعدد المستشارات والمستشارين العاملين
بالقطاعات، بل ومن الأطر من جعلته عملية تحيين القطاعات المدرسية الواردة في
المذكرة 22-17 تحت إمرة مفتشين أو أكثر؟
5- لماذا
لم يندد أطر التفتيش بالوضعية الكارثية التي آلت إليها منظومة التوجيه مع العلم أن
فئة عريضة منهم اختارت الانخراط في نقابة التفتيش التربوي؟
6- في ظل
تناقص عدد المستشارين والمستشارات العاملين بالقطاعات، لا يتجاوز العدد 600 إطارا
حاليا، والنقص الحاد في الخريجين الجدد للسنوات الأخيرة، أليس من حسن تدبير
الموارد البشرية إسناد القطاعات الشاغرة إلى المفتشين بدل إعادة توزيعها على
المستشارين والمستشارات لدرجة بلوغ معدل التأطير 6000 تلميذا للإطار الواحد في بعض
المديريات؟ في حين يشتغل اغلبهم في برامج لا علاقة لها بالتوجيه ولا بتأطير
المستشارين والمستشارات!
7- أليس
من الأجدر توحيد الفئتين معا، فئة المستشارين وفئة المفتشين في إطار واحد هو إطار
التوجيه التربوي لوقف النزيف في الخصاص الذي تسببت فيه الترقية الاستثنائية لأفواج
ما قبل 2004؟
8- لماذا
لا يتم تنظيم مناظرة وطنية حول مجال التوجيه من طرف الوزارة واعتماد الخبرة
العلمية والميدانية في تطوير هذه الخدمة عوضا عن المذكرات التي تتناسل في كواليس
الوزارة ودهاليزها في سرية تامة وبعيدا عن أعين الأطر العاملة في القطاعات من طرف
مفتشين حانقين على زملائهم في المهنة يروجون بلا انقطاع للأزمة وللتمثلات السلبية
حول اطر التوجيه وسط الإدارات المركزية والجهوية والإقليمية؟
أخيرا،
وفي ظل الواقع التربوي الجديد المتسم بتزايد وتشعب العرض التربوي من شعب ومسالك
ومسارات وآفاق...فالتلميذ المغربي اليوم في أمس الحاجة إلى جميع اطر التوجيه،
مستشارين ومفتشين، من أجل الإرشاد والاختيار وبناء مشروعه الدراسي والمهني، مما
يجعل من مسألة توحيد هاتين الفئتين وتوحيد مهامهما ضرورة مستعجلة خدمة لهذا
التلميذ وللآباء والأمهات وللمدرسة العمومية.
0 تعليقات
السلام عليكم و مرحبا بكم يمكنكم التعليق على أي موضوع ،شرط احترام قوانين النشر بعدم نشر روابط خارجية سبام أو كلمات مخلة بالآداب أو صور مخلة.غير ذلك نرحب بتفاعلكم مع مواضيعنا لإثراء الحقل التربوي و شكرا لكم.