الحكاية التعليمية :المفهوم و المرتكزات النظرية[1]
عبد الرحيم حكى
أستاذ التعليم الابتدائي
طالب باحث،كلية علوم التربية، الرباط
مفهوم الحكاية:
الحكاية لغة من حكى و حاكى أي قلد و حدا دون مجاوزة، و حكيت عنه أي حدثت و قصصت و أخبرت، و المحاكاة هي التقليد و المشابهة، و أحكى بمعنى شد و أحكم.
و انطلاقا من هذه النبذة اللغوية يمكننا القول :إن الحكاية تقليد لشيء أو لقول في حدود المشابهة و دون مجاوزة، كما أنها إخبار عن شيء بأحكم الألفاظ و أبلغ العبارات.
و اصطلاحا تعرف الحكاية بأنها نفحة تسري في جوف كل الأجناس الأدبية ، كالشعر و الرواية و المقامة و القصة ، و ما فصلها و عزلها إلا عرضي و صوري يبتغى منه التوصيف و التصنيف لجنس يتسم بحبكة فريدة و ينطوي على علامات مشفرة ، و هو إما خيالي يضم بعض الحقائق، و ينعث بالخرافة أو الأسطورة، و إما حقيقي يجمع بين الوقائع و شيء من الخوارق، و هو الحكاية الشعبية. يثير المتناقضات المعيشة :الخير و الشر، الجمال و القبح، الغنى و الفقر، الموت و الحياة. يعالج الأخلاق و المجتمع و التاريخ و الحداثة.
★الحكاية الشعبية:
يعد هذا المصطلح غامضا و عصيا على التحديد لتداخله مع القصة الشعبية، و ذهب كثير من الباحثين إلى الخلط بينهما و أحيانا ترادفهما، إلا أنه يمكننا عزل تعريف خاص لهذا المصطلح بقولنا :إن الحكاية الشعبية مادة دسمة من الواقع المعيش لمجتمع ما ، تدبج في نسيج لغوي يشتبك حول أنساق أخلاقية و سياسية و ثقافية، حبلى بالقيم و الحكم و المواعظ، ترمي إلى توعية الناس و تعديل ما شذ بينهم، إنها من شعاب المجتمع و تتشعب بين أحوال الناس.
★الحكاية الخرافية:
هي ساحة الخيال و الأوهام و توجسات السحر، تخاطب في المتلقي فراغه من الخوارق ، و شغفه في غرائب العادات و تشوفه لعظيم القدرات . فيميل بفطرته التي تتوق لعالم تنكره ذاته جلوة، و تتملق إليه خلوة. طمعا في إصلاح الافتقار و تعويض النقائص، سواء بقدرة مارد أو حيوان أو جماد، تبدأ بالمأساة و تختم بالسعادة و زوال المعاناة.
★الحكاية في المجال التربوي:
هي نصوص قصصية ،تتفاوت في الطول و سماكة اللغة، تخضع لمعايير أدب الطفولة، كالخط و الصور و الألوان و الطباعة و الأسلوب، تشمل أبعادا تعليمية كالقيم و المعجم و التراكيب، و تراعي القدرات الذهنية و المعرفية للمتعلم، تلقى تبعا لطرائق ديداكتيكية تتناسب و المستوى العمري و التعلمي للتلميذ .
إنها نص ذو أهداف و كفايات متعددة، كإغناء ذاكرة المتعلم معجميا و أسلوبيا، إكسابه لسانا عربيا فصيحا، البسط في سعة مخيلته و خياله ، صقل مواهبه الإبداعية نثرا و شعرا و خطابة. تتميز الحكاية بالتشويق و السلاسة و الإثارة، تشد الأسماع و تجذب الانتباه، و تهيم بالسامع في خفايا السطور ، فلا يملها مع كثرة سردها و لا يعجزه تشخيصها.
المرتكزات النظرية:
لقد بدأ الاهتمام بالحكاية مع الأخوين (جريم )، بألمانيا، و (يوري سوكولوف )،صاحب كتاب “الفولكلور :قضاياه و تاريخه”، و (فلاديمير بروب )، صاحب كتاب “مورفولوجيا الحكاية”، في روسيا. و أما عربيا فقد ظهر كتاب “الدراسات الشعبية بين النظرية و التطبيق” لنبيلة إبراهيم.
و تدريس الحكاية في المدرسة الابتدائية يرسو على نظريات أهمها :
★علم نفس النمو:
إن تلميذ المستوى الأول ابتدائي يدخل مرحلة الطفولة الوسطى، و هي فترة نمو المفردات اللغوية وفهمها ، و استخدام الجمل. كما يتدرج في سلم العمليات العقلية ، أي القدرة على تمييز الألفاظ بالتحليل لا بالمعاينة و المقارنة. و قد أشار (تشومسكي ) إلى أن المدرسة الإبتدائية هي مرحلة فهم الألفاظ و دلالة الكلمات و التحول المعرفي المبني على الإدراك، و هذا ما تركز عليه الحكاية.
كما أن هذه المرحلة تتميز بثلاث عمليات تخدم الذاكرة و هي :التحويل إلى رموز، التعلم الأولي ثم التخزين. فإذا تم ذكر أحداث. أو أسماء و تكررت يصيرها الطفل رموزا تكون لديه معرفة أولية قابلة للتخزين، إلى أن يتم استدعاؤها عند الحاجة(عملية الاسترجاع ).
★علم النفس المعرفي:
يعد الانتباه نشاطا عقليا، يلعب دورا هاما في عملية الاتصال بالبيئة المحيطة، و تستغل خلاله منبهات حسية عديدة و مناسبة، و هو ضروري للتعلم و الاكتساب. و لأن الحكاية تشد الانتباه و تجذبه ، فإنها تحدث تأثيرا داخليا يتكشف في السلوك الخارجي للمتعلم، كالتفاعل و الانفعال و تغير الملامح. و يعتبر العلماء الانتباه عملية عقلية ذكية لتكوين المعارف و الوعي بالمواقف. و قد كان فلاسفة اليونان يعرفونه وفق ثلاثة معايير:المعرفة، الإرادة ، الانفعال. و عرفه(فولت ) بأنه صيغة من صيغ وضوح الشعور. و إضافة إلى صقل هذه الطاقة فالحكاية تزيد في الثروة اللغوية للتلميذ، و تساعده على القراءة الشخصية و المطالعة الحرة، كما تتيح له المقدرة على المحادثة و التعبير و تصحيح النطق من خلال سياقات حية و شيقة.
★علم النفس اللغوي:
إن المواقف المتعددة التي تتضمنها الحكاية تكون إما مألوفة أو جديدة بالنسبة للمتعلم، و هذه المواقف تعالج مشاكل بسيطة أو معقدة، فتدفع به إلى التفكير و تنظيم المعلومات، و على الأستاذ أن يصاحب السرد مع الحركات و الإشارات، لأنها ذات امتداد مكاني و زماني معا، و لأن بعض الألفاظ لا صورة ذهنية لها إلا إذا عبر عنها بإشارة أو صورة، و هذا يسمح للتلميذ بوضع مدلول خاص به، قد ينفرد به عن الآخرين.
تركز اللسانيات النفسية على أهمية الحوار و الجدل في إثارة التفكير، لأنه استجابة لتأثير الغير، كما أن المحادثة تنمي اللغة التحليلية التركيبية، مما ييسر الرقي إلى مرحلة التجريد. و الفرد يحفظ كل ما يتلقاه من محيطه برموز و عبارات. مختزلة. و من الملاحظ أن التلميذ عندما يكون في وضعية تواصلية يتصرف بعفوية و ينجز حركات لافتة ، كالطفل في بداية الكلام ، حيث يتلاعب بأصابع يديه و ينتبه لحركات الشفاه و يستمتع بتكرار الكلمات و الجمل التي يتلقاها.
و أشير أيضا إلى كون البيئة اللغوية للطفل المغربي تطغى فيها الدارجة و تبهت فيها الفصيحة، و عند تشخيصه الحكاية يدخل في ما يسمى “العادة اللغوية”و هي وضعية نفسية تحثه على مخالفة المعتاد، فيتفنن في تنغيم الكلمات و تحسين مخارجها و توظيف دلالاتها مما يشعره بالاختلاف و التميز داخل محيطه اللغوي.
الحكاية تسرب أفعالا إنجازية و تعبيرية و إخبارية، و أساليب كالنداء و التعجب و النهي و الاستفهام، و لما تقص بطريقة سليمة و معبرة تغرس نظاما لغويا في ذهن المتعلم، و هو النظام المحدود الذي سيمكنه من إنتاج كم هائل من الجمل غير المحدودة وفقا للنظرية التوليدية-التحويلية لتشومسكي.
★اللسانيات العصبية:
تؤكد هذه اللسانيات أن التعلم قدرة فطرية، و إنجاز التعلم عملية تنجز في الأسرة و البيئة و المدرسة . كما تربط بين النمو الفسيولوجي و التعلم، حيث أن الحكاية بلغتها و أساليبها و سياقاتها تزيد من حجم الخلايا العصبية نتيجة زيادة التشابكات المتصلة بها، مما يؤدي إلى تطور حجم الدماغ و تراكم معارفه، و هذا ما يكسب المتعلم علما و خبرة في نمط شبيه بنمو الجسد. و نضيف أن مواضيع الحكاية الاجتماعية و الثقافية و الأخلاقية المعيشة تغير التنظيم الوظيفي للمخ.
★سيكولوجيا اللعب:
الحكاية منصة للعب الأدوار و المحاكاة و تقمص الشخصيات، و هذه الخصائص تقوم على أوتاد ، أهمها :
●إعادة و تشكيل الموقف الواقعي.
●إتاحة فرصة التحكم في الأحداث و التفاعل معها.
●إعطاء قدر من الحرية للتعديل و الإبداع .
المحاكاة وسيلة تدريسية على المهارات الحركية و الفنية، كما يحصل في تدريب رواد الفضاء و تعليم السياقة. و الحكاية ظروف ملائمة للرفع من خبرات المتعلم التواصلية و التعبيرية ، و تحقيق الكفايات الاستراتيجية ، و الوعي بالذات و اتجاهاتها، و غرس بذور التعلم التلقائي و الحر.
و نخلص أخيرا إلى أن الحكاية كمكون دراسي و طريقة تدريسية فعالة، و كأساس متين للبيداغوجيا الإبداعية الحديثة، تعد بنتائج مرضية في إكساب التلميذ نسيجا لغويا فصيحا ، و تثبيت قدراته التواصلية و إغناء حصيلته اللغوية و تنمية مواهبه الحس-حركية و الوجدانية، و شحذ تفكيره و تقويم قيمه الاجتماعية و الأخلاقية و تطوير طاقاته العقلية كالذاكرة و التجريد و الخيال. و أما بيداغوجيا فهي حل مناسب للحد من التدني اللغوي المعيب الذي ترزأ تحته المدرسة المغربية، و أدرجها في ذيل سلم الدراسات العالمية و العربية.
المراجع:
¤نوال محمد عطية، علم النفس اللغوي ، المكتبة الأكاديمية، القاهرة ،مصر. الطبعة 3.
¤نبيل عبد الهادي ، سيكولوجيا اللعب و أثرها في تعلم الأطفال، دار وائل للنشر و التوزيع، عمان، الأردن، الطبعة 1، 2004.
¤ سيرجيو سبيني، التربية اللغوية للطفل، ترجمة فوزي عيسى و عبد الفتاح حسن، دار الفكر العربي، القاهرة ، مصر، طبعة 2001.
¤ شذى عبد الباقي محمد و مصطفى محمد عيسى، اتجاهات حديثة في علم النفس المعرفي، دار المسيرة للنشر و التوزيع، عمان، الأردن، الطبعة 1، 2011
¤ عادل عز الدين أشول، علم النفس النمو من الجنين إلى الشيخوخة، مكتبة الانجلو المصرية، طبعة 2008.
¤ عطية سليمان أحمد، اللسانيات العصبية، الأكاديمية الحديثة للكتاب الجامعي، القاهرة، مصر ،طبعة 2019،
0 تعليقات
السلام عليكم و مرحبا بكم يمكنكم التعليق على أي موضوع ،شرط احترام قوانين النشر بعدم نشر روابط خارجية سبام أو كلمات مخلة بالآداب أو صور مخلة.غير ذلك نرحب بتفاعلكم مع مواضيعنا لإثراء الحقل التربوي و شكرا لكم.