"التعليم عن بعد" دواء ضر من حيث أراد النفع (1)
أستاذ بالتعليم الثانوي التأهيلي
بسم الله الرحمن الرحيم، الذي نسأله الرحمة لكل فقيد في هذه الجائحة، والتخفيف عن كل مصاب ونائحة؛ والعافية للمسقومين والبراء، وحفظ السالمين والنجاء. ونسأله دفع اليأس، وإبعاد التشاؤم، ورفع الهمم، وبعث الأمل..
أما بعد؛
فدعنا نحسن الظن، ونقل بأن وزارة التربية الوطنية قد اتخذت مبادرة شجاعة في اعتمادها "التعليم عن بعد" كبديل مؤقت للتعليم في المدارس والأقسام، حتى لا يتم هدر الزمن المدرسي ونحن على الطرف الأقصى لهذه السنة الدراسة (2019/2020م).
إذا كان الأمر كذلك، فهو شيء جميل جدا؛ ولكن، كما يقول المثل المغربي، "لا يخلو جميل من عيب"، هذا إن لم تكون عيوبا بعضها على بعض؛ ولكن حينها لن يبقى الجميل جميلا.
إن هذه المبادرة (أو التجربة) قد أظهرت عيوبا عديدة، وضرت من حيث أرادت النفع، وهو ضرر كبير متسع، تظهر آثاره يوما بعد يوم. ولست هنا أعد تلك الآثار وأبينها؛ ولكن حسبي أن ألفت الانتباه إلى اثنين، مما أحسب أنه (على حد اطلاعي) لم يسلط الضوء عليهما كفاية.
واسمح لي أن نفترض في هاتين النقطتين أن كل التلاميذ يتوفرون على هاتف ذكي أو لوح رقمي أو حاسوب، وربط بالأنترنت السريع اللامحدود في بيوتهم (أمر غير حاصل بالطبع)، فنقول:
لا أحد يجهل التعليمات الواضحة، والإجراءات الصارمة، التي تمنع على المتعلمين حيازة الأدوات الإلكترونية داخل المؤسسات التعليمية، نظرا لضررها عليهم وعلى السير العادي لعملية التعليم والتعلم، ومع ذلك فإنك تجدهم ضاربين بعرض الحائط كل ذلك؛ لأنهم، وبكل بساطة ووضوح، لا يستطيعون الاستغناء عن الهاتف، أو عن الذي يوفره الهاتف، فتجد عددا غير قليل منهم مكبا على شاشة هاتف الذكي كلما سنحت له الفرصة بذلك: في الاستراحات، أو بين الحصة والحصة، بل داخل الفصول الدراسية. وبالطبع لا يكون ما ينظر إليه أو يفعل به شيئا متعلقا بالدراسة، وإنما يكون شيئا ثانويا جدا، وأحيانا تافها، إن لم يكن شيئا قد يؤدي به إلى المتابعات القانونية.
إذن، إذا كان حال التلميذ المغربي (ولا أعمم بالطبع) هكذا، وهو في المؤسسة التي ينبغي أن يكون فيها كله تركيز وهو ينتقل بين قاعات الدرس أو داخلها، فكيف يكون حاله وهو في البيت حيث لا أحد ينهاه عن حمل هاتفه، لا أستاذ ولا مدير ولا حراس عامون، ولا ناظر...؟ كيف تريد إقناعي أن التلميذ الذي ذلك حاله، سيحمل هاتفه في البيت "ليتعلم عن بعد"؟!
عجبا، كيف يتوهم البعض بأن ذلك التلميذ الذي يعشق الهاتف وما يوفره من تسلية عشقا محموما، سيجلس وينظر فيه مدة ساعة من الزمن إلى أستاذ يشرح درسا في مادة من المواد وقد وضع دفاتره أمامه وأدواته يدون ويسجل وكله انتباه، وقد كان قبل ذلك يجلس في آخر طاولة وهو يتحين الفرص ليستل هاتفه وينظر ما وصله من رسائل ويرد عليها، هذا إن حضر الدرس، وإلا فإنك تجده خارج أسوار المؤسسة مستمتعا بمداعبة هاتفه بأنامه...!؟
بل عجبي من ذلك الأب الرائد أو الأستاذ القائد (ولا أعمم)... إذا كان يشغله هاتفه عن الأشياء المهمة وهو العارف والمتبصر، فلا يستطيع أن يضعه جانبا حتى آخر لحظة قبيل النوم، كيف توهم أن التلميذ المراهق (ولا أعمم أيضا) سيحمل لوحه الرقمي المعشوق ليتعلم عن بعد!
بل وعجبي منه أيضا، وهو يعلم الأبحاث الكثيرة، والتجارب العديدة، التي تظافرت لتخرج بنتيجة واحدة مفادها: لا بد من الحد من استعمال الهاتف وأشباهه لدى الأطفال والمراهقين.. ويأتي هو يرمي به في أحضانه أكثر وأكثر وأكثر، دون رقابة، يظن بأنه سيستعمله للتعلم عن بعد!
وهنا أمر إلى النقطة الثانية؛ إذ حتى إن استعمله في التعلم فعلا، فلا أظنه يجهل الأضرار الصحية التي تنجم عن استعمال الحاسوب، أو اللوح الرقمي الذي تم توزيعه على التلاميذ في عدد من الجماعات الترابية في إطار مبادرات مع تنويه من الوزارة بذلك...؛ أضرار كثيرة، لعل أبرزها ما يلحق العينين من أذى كبير بعد قضائهما ساعات طويلة كل يوم تحدقان في منبع ضوئي.. أضف إلى ذلك أضرارا بسائر الجسم: ظهر، عنق.. دماغ.. بل وحتى النفس. وأدعوك إلى الاطلاع أكثر على أضرار الحاسوب، بل لعلك تعرفها مسبقا.
هذا إن كان التلميذ يستعمل حاسوبا جيدا، على مكتب وكرسي مريح... فكيف يكون الضرر إذا كان يستعمل واحدا رديء الشاشة أو لوحا رقميا صغير الشاشة أو هاتفا، وهو جالس جلسة غير سليمة، وربما كان في وضعية أترك لك حرية تخيلها..؟ وهذا ليس ليوم أو يومين، وإنما لأيام كثيرة طالما الحجر الصحي مستمرا.
فوا عجبي، ووا أسفي، كيف رمت الوزارة أبناءنا هذا الرمي، وقذفتهم هذا القذف ونحن في هذه الأوقات: من ورائنا هذا الوباء الذي يمد يده وكأنه يهم بالانقضاض علينا في كل لحظة، وأمامنا هذا المسمى "التعليم عن بعد" الذي نركض نحوه، بل نُجَر، نظنه حقيقية، وإنما هو سراب لا تجد عند الوصول إليه غير الضياع.
واسمح لي أيها القارئ الكريم أن أذكرك، بإننا كنا قد افترضنا في الأول، حتى يصح هذا النقاش، أن كل التلاميذ يتوفرون على هاتف ذكي أو لوح رقمي أو حاسوب وربط بالأنترنت السريع اللامحدود في بيوتهم – وإلا فإننا لو أخذنا الأمر في واقعه، لوجدنا لتجربة "التعليم عن بعد" أضرارا وخيمة أخرى، لا يُلتفت إليها كثيرا، سأذكر بعضها في مقال لاحق إن شاء الله.
إلى ذلك الحين، سأبقى أجاهد نفسي أحاول إقناعها فأقول: صحيح أن هذه التجربة قد أضرت بأبنائنا لكن، لعل فيها خيرا لم أستوعبه بعد. ربما!
انظر المقالين التاليين من هنا:
0 Kommentare
السلام عليكم و مرحبا بكم يمكنكم التعليق على أي موضوع ،شرط احترام قوانين النشر بعدم نشر روابط خارجية سبام أو كلمات مخلة بالآداب أو صور مخلة.غير ذلك نرحب بتفاعلكم مع مواضيعنا لإثراء الحقل التربوي و شكرا لكم.