البيئة اللغوية للطفل المغربي : دراسة سوسيو لسانية.

الإدارة April 15, 2020 April 15, 2020
للقراءة
كلمة
0 تعليق
-A A +A

البيئة اللغوية للطفل المغربي : دراسة سوسيو لسانية

       

عبد الرحيم حكى -لموقع profpress.net
أستاذ التعليم الابتدائي
طالب باحث،كلية علوم التربية، الرباط

   اللغة من معايير أنسنة الإنسان،  و سمة لتحييد الصفة الحيوانية ،و اختلفت تعاريفها بتنوع  العلوم و الاتجاهات الفكرية ، فاللسانيات الوظيفية تراها رموزا و علامات حاملة لوظائف متعددة،تحقق التواصل الاجتماعي و الاندماج الفردي ضمن المجموعة الحاضنة، و بدون لغة تبتر أواصر المجتمع و يتسع بون التفاوت الوظيفي الضروري لاستمرار الجنس البشري؛  و بدايتها كانت نتيجة الحاجة التي فرضها التكتل ضمن تجمعات، فتطورت مخارج الأصوات و معها الحروف ، و تلونت الكلمات و وضعت لها دلالات وفق تسنين و توافق ثقافي، و باندفاع الثورة الفكرية و الإبداعية للفرد يرقى المجتمع و تتمدد العلامات و تتنوع المعاني و يرفع قدر اللغة ليعكس الثراء الحضاري لهذا البلد او ذاك؛ و بإصعاد الفكر تهوي اللغة و تدفن بانحطاط المجتمع؛ فاللغة حاملة و ناقلة للثقافة و هي كذلك بعد و نسق ثقافي. و حديثنا عن اللغة العربية الفصيحة في المجتمع المغربي هو تسليط للضوء على واقع هذه السليقة عند الطفل بين الوجود و العدم ، و بين الوضوح و الطمس.

*الأسرة و المحيط:   كل طفل يولد ، و بسلامة جهازه النطقي،  يكتسب لسان قومه بالمحاكاة و التقليد وفق نحو ضمني و مستبطن (الكفاءة اللغوية)، و إذ اخص المغربي، فلسانه الأم هو الدارجة ، الخليطة من العربية الأصلية و الفرنسية و الاسبانية الدخيلتين.  و التي تتميز بألفاظ عنيفة و أساليب نمطية الصوت الساكن(التخلي عن الإعراب و إسقاط الحركات) و متداخلة تركيبيا،  و متفاوتة دلاليا، حتى تكاد تكون محجرة في مساحات محدودة و مميزة لجهة او منطقة معينة. وإنه لمن الخطأ البين أن ندعي أن العربية الفصيحة هي اللغة الأم للطفل المغربي،  بل تعد رطانة في بعض المناطق،  فلا توجد أسرة ،ترجيحا، تتواصل بالفصيحة في بيتها ، و الأسر الراقية و البورجوازية فكريا تنأى عنها و تستبدل الفرنسية او الإنجليزية بها ، ظنا منها أن العربية لا ترقى إلى التحضر و الرفعة الاجتماعية، و ما ذلك إلا استلاب ثقافي و انسياب خلف الآخرين.  و قد صدق المدغيري حين قال :  نتعلم الفرنسية و نستفيد منها و من ثقافتها و حضارتها ، نعم ، نتقنها ، نعم، نتعاون معها ، نعم ، و لكن ليس إلى درجة إهمال لغتنا و التضحية بها أو حتى منافستها و إضعافها. و قد جاء في قول للفاسي الفهري" و كأن اللغات الوطنية حكم عليها بألا تحمل أو تنتج الحداثة، أو المعرفة أو الإبداع أو الاقتصاد أو التعددية" . و لا نغفل عن لسان الأقران و الجماعات و الأجيال و الجغرافيا ، فدارجة الشباب تختلف عن دارجة الشيب ، و لسان أصحاب النجارة يتباين مع لسان بائعي الخضر ، وجيل اليوم لا يتحدث كجيل السبعينيات، كما أن منطقة الشمال المتأثرة بالريفية و الإسبانية لا تشبه الأطلس المتأثر بالفرنسية و الأمازيغية،  و هكذا؛ فالمغرب فسيفساء لسني، و لقد تعددت الدراسات التي قاربت العربية المغربية صواتيا و تركيبيا لتحديد علاقة الفرع بالعتر،  و هذا يوضح بجلاء فضائل اللغة العربية الفصيحة على الدارجة في صناعة الصوت و التركيب و الدلالة، و هنا نتساءل هل يجوز النفور من الأصل بدعوى القصر، و التشبه بالفرع بزعم الانتشار و السيادة.  و كأننا ، كما قال أحد اللسانيين، في سوق لغوي.  و صدقا لا يتجاسر على هذه الدعوات إلا جاهل بعلوم اللغة العربية أو مفرط في التعصب الأيديولوجي.

*الإدارة :     لقد جاء في الدستور أن ( العربية تظل اللغة الرسمية للدولة و أن الدولة تعمل على حمايتها و تطويرها و تنمية استعمالها )،الفصل  الخامس، و إذا كان البند نتاج اتفاق و توافق مجتمعي فهو إلزامي و ملزم لكل مكونات الدولة ، لا محاباة لطرف على الآخر ، لكن ما يسيل في قنوات المؤسسات يناقض و يقوض تماما ما صدع به الدستور، وبقي حبيس المداد و صدح الخطابات البروباغندية و مرمى الأقلام الدغمائية،  و أريد للغة العربية الاعتكاف في المساجد و التشهير بالتطرف و التصوف و التوصيف بالتخلف. و على نعشها زهت اللغة الفرنسية فصارت لغة الإدارة و المؤسسات و الاجتماعات المنتجة و طقوس البذخ و العلم النافع، مما أنقض لسان المواطن فلم يجد بدا من الدارجة لأنها الخليط الذي يجانس العربية بالفرنسية،  كي يحقق تواصلا و يقضي مآربه. بل إن بعض الإعلانات التي تشهرها معظم المؤسسات تكتب بحروف عربية و لكنها عامية صواتيا و دلالة و تداولا، فلا نرى للعربية الفصيحة موطئا تنفرد به. و الصادم في هذا الشأن أنه رغم إصدار مذكرات حكومية و وزارية لإقرار العربية لغة المراسلات،   و إصدار قرار قضائي يجرم اللغة الأجنبية بديلا ، فوميض هذا البرق لا ينزل غيثا.

*الإعلام :   الإعلام مرآة المجتمع و سلطة تعليمية و تربوية ، و ناقل ثقافي و قناة للتوجيه و التأطير ، و لأهميته سأقاربه من جانبين:

•الجانب الأول :اللغة المتداولة على الأثير السمعي و البصري تكاد تكون رسميا عامية، إلى جانب الفرنسية. أفلام الأطفال صارت عموما بالدارجة مع استثناء يسير، و منصات الأخبار و البرامج لا تخضع للتدقيق اللغوي،  فتعرض الفصيحة للافتراس العنيف على ألسنة المذيعين و المقدمين، يلحنون حينا و يحشونها باللسان الدارج أحايين.

•الجانب الثاني:برامج الطفولة على علاتها الانفة ،تحصى على رؤوس الأصابع  و تفتقر إلى استراتيجية تعليمية و تربوية، و يمكننا تصنيفها في خانة المرح و اللهو على أحسن تقدير . و إذ أن الطفل يبقى من المتيمين ببعض المسلسلات التي استحالت مغربية اللسان ، فهو لا يحصد منها إلا الحنظل ، فلا تخفى علينا أدواءها العقلية و الوجدانية التي لا تزيد الطفل إلا إغباسا و عتمة في فكره. و نخلص إلى أن الإعلام يسعى ، قاصدا أو غافلا، إلى غمر الطفل في الحوض الدارجي ، أو ما يروج له بمصطلح  "الدارجة الراقية" و هي اللغة الوسيطة بين التداول و التدوين.

*الانترنيت: هذا مرتع الناشئة التى تند فيه و تنفش بلا راع و لا رقيب ، و لنا من باثولوجيا الانترنيت مندوحة لسفور أسقامها،  و سنرضى بالمواقع الاجتماعية التي يهيم و يصدح فيها مرتادوها بلغة لم   أجد لها مصطلحا لسانيا مناسبا، حيث تجد الصوت دارجيا و الحروف فرنسية تتخللها أرقام،  و هذا يشظي العربية الفصيحة و يغصبها غصنا مهما و هو الحرف،  و كأننا أمام لسان دارجي فرنسي، يكيد للعربية و ينحرها في أناة.  و أما عنصر التداول فهو يزيد انحطاطا على وعاءه،  فلا تسمع إلا لغوا و غوغاء و سجالا  عقيما ، و لا ترى إلا تفاهة و سفالة، فيزهر  الفساد اللغوي و الخلقي ليجر زهور المستقبل إلى مستنقع الجهل و النفور المدرسي.

نحن لا نرى في هذه المواقع طمر للغة فقط ، بل للثوابت الثقافية التي تميز البلد.

وفي الختام نقول  إن البيئة اللغوية للطفل متزاحمة  و فوضوية، و لم نسقط الأمازيغية و الحسانية حيفا ، و لكن تخفيفا على القارئ و تبسيطا للتشجر اللغوي المعقد. إن هذا الدخان اللساني يعمي بصر التلميذ حين يتصعد في أسلاك  الدراسة و يعمه بصيرته حول المستقبل، و يعقل اندفاعه الإبداعي،  فالتلميذ المغربي يفكر بالدارجة و يقوم بتحويلات ذهنية مجهدة  ليعبر بالعربية، فهو يتردد بين عامية خالية من الأنماط الإبداعية الفكرية و لغة متعثرة لا يقوى على التفكير من خلالها.  وحين كانت العربية في فسحة أنبتت  المدرسة أجيالا مثقفة أتقنت لغات أجنبية أخرى،  ولم تتطاير شرارة التصادم بينها قط.



المراجع:
□أمينة فنان، اللسانيات الوظيفية:مباحث صواتيا و تركيبيا ، دار أبي رقائق للطباعة و النشر،طبعة 2005.
□عبد القادر الفاسي الفهري، اللغة و البيئة ، مطبعة النجاح الجديدة ، الدار البيضاء .

شارك المقال لتنفع به غيرك

Post a Comment

0 Comments


 

  • انشر مواضيعك و مساهماتك بلغ عن أي رابط لا يعمل لنعوضه :[email protected] -0707983967او على الفايسبوك
     موقع الأساتذة على  اخبار جوجل - على التلغرام : المجموعة - القناة -اليوتيب - بينتريست -
  • 1141781167114648139
    http://www.profpress.net/?hl=en