إلى أين؟
ذ.مراد الحسناوي.
هذا الصباح و أنا جالس في المقهى أتناول قهوتي في عتمة الفجر، أراقب من مكاني المفضل اضمحلال الضوء خارجا و أنا أنتظر انهزامه التام في وجه الصباح، لا يزال الصمت يتسيد المكان، والمطرب يغني "قل للمليحة في الخمار الأسود ماذا فعلت بناسك متعبد ؟"، هذا التساؤل المتناغم و العميق في مشاعر صاحبه، أخذني بعيدا، مما جعلني أسقطه على واقع، يولد فيه الحب ميتا، و تجهض فيه القيم و المبادئ و الحقوق بل و تسقط فيه الواجبات أيضا، دائما إلا من بعض تلك التي تسكن الخطابات و الشعارات السياسية بجملها الرنانة ، التي لا تكاد تكون سوى صوتا لا يتجاوز مترا واحدا في الهواء لتعود و تختفي مرة أخرى في تقابل مع مبررات واهية، غارسة أملا في النفوس الضعيفة و بائعة الوهم للسذج "و ما أكثرهم إن لم أقل أننا كذلك جميعا".
لقد كان تساؤل العاشق في الأغنية كفيلا بإحداث ضجة من الأسئلة بداخلي تتوافق و ذلك البيت في شتى مجالات وجودنا البشري "المنظم"، لكنني ارتأيت أن أسقطه على النحو التالي في البداية "يا دولة في الرداء الأخضر ماذا فعلت بشعب زاهد؟"أجل شعبنا يعيش زهدا حارقا و لكنه زهد بلا حسنات و دون راحة نفسية محققة، ذلك لأن زهد شعبنا "إلا من طبقته البورجوازية و التي لا تعرف لا هذا ولا ذاك" يأتي من خوفه من اللجام الموضوع حول عنقه و السياط الذي قد ينزل في ظهره في أي لحظة حاول" الشعب" رفض هذا الزهد الشحيح أو الإعتراض.
فالدولة هنا في هذا البلد أصبحت فوق الدولة و الشعب صار أقل من إسمه، و إنه لواهم من يعتقد بأن الدولة هي" النظام" بل هي هو و جل المؤسسات معا في كفة واحدة، و إن كان الأول قد أحكم قبضته على كل شيء حتى مؤسسات الدولة نفسها
ما جعلنا شعبا زاهدا في كل شيء حتى في رغباته البيولوجية.
إن ما أراه اليوم هو واقع مشوه تولد عنه عقل جمعي مشوه، تستغله الدولة في تمرير خطاباتها و قراراتها الجائرة ، دون أن يكون لديه حرية تفكير كافية لتمحيص قبول أو رفض أي قرار يتلقاه، إذ إن أكثر ما تحسن الفئة السياسية الغبية ممارسته هو نظرية إلهاء تنجح معها في كل مرة، و بما أن العقل الجمعي قد تعرض للتلف و التشويه فقد فقد تلك الصيغة التي تمكنه من تحقيق رؤية صحيحة للأمور، فأصبح في تحاليل "السطحية" يتناول فتات القضايا عوض تحليل جوهرها.
أبرز ما يستوقفني و يشد تمحيصي في مشهدنا السياسي الوطني في علاقته بالمجتمع المدني هي تلك الهوة التي كان بالأمس صغيرة و الآن أصبحت كبيرة كالجحيم تبتلع كل من حاول التموقع بها لإنشاء جسر أو كتلة مفكرة للتعبير عن أي اعتراض للشعب أو أي رأي معارض لما تقول به الدولة من خلال قراراتها.
تلك الهوة التي صارت اليوم بارزة بين الدولة بمؤسساتها و الشعب بدكاكينه السياسية الصغيرة التي تجاوز فسادها و خذلانها مساحة وعودها، لم تكن محض صدفة و إنما هي نتيجة إضطهاد و قمع و سجن و تنكيل بفئة مفكرة تقوم مقام العقل المحرك و المفكر و المحامي المدافع عن المجتمع المدني ممثلا في طبقاته المفقرة خصوصا. و إلغاء دور و وجود هذه الفئة و تزييفه جعل الساحة الفكرية و السياسية فارغة في وجه الدولة لتمرير سياساتها دون الأخذ بعين الإعتبار موقف المجتمع منها كما أصبحت تلك الهوة مرتعا فاسدا لأصحاب الدكاكين السياسية الفاسدة ، و قد قضت الدولة على الفئة المثقفة و المفكرة من خلال سلب المثقف صفته الحقيقية و تفريغه من محتواه الصحيح و كذا تحييده عن النهج الذي يمشي به إلى نقطة الضوء ألا و هي "التغيير و الثبات على المواقف الحقة عند القضايا الحقة"، الأمر الذي يطرح أمامنا قضية إشكالية عويصة جدا هي "إشكالية الثقافة و زيف المثقف الحديث".
و عملت "الدولة" على تكريس التفاهة محل الثقافة و الترويج لها من خلال المنصات حتى السياسية منها " و من يشاهد جلسات البرلمان المغربي فكأنما يشاهد مسرحية تارة كوميدية و تارة أخرى معركة من معارك البراري حيث لا يحكمها أي قالب سياسي سوى البذاءة و غياب كاريزمة السياسي عن الموجودين هناك"، هذا الأمر الذي يزيد من تشويه و قلب كل المفاهيم السياسية و الإجتماعية و بالتالي طرح إشكالية أخرى ذكرناها سابقا" تشويه العقل الجمعي".
و خلاصة القول لقد كان خوفي قبل الأمس من مرحلة الهزيمة التي نعيشها و الإنحطاط الذي نتغذا عليه ، و اليوم أصبح خوفي من أننا أصبحنا ندافع عن هزيمتنا، أجل لقد استطعنا التحول من شعب مهزوم إلى شعب يدافع عن هزيمته، كما استطعنا التحول من ضحية تلعن جلادها إلى ضحية تدافع عن سلاسل جلاديها و سياطهم.
أن نبرر وقوع أنظمتنا في مأزق تاريخي لن يمحيه الزمن، تماما كما ندافع عن تخلفنا و سائدنا المقرف، هو أمر يقول بتعاطينا لمخذرات من نواع آخر و هي "العبودية الطوعية"، فالإنسان السليم هو الذي يفكر و لا تنحصر سلامته العقلية هنا فقط بل تتجاوز ذلك إلى دفاعه بكل شراسة عن كينونته الوجودية و حقوقه الطبيعية، تلك التي تتجاوز التناسل و المأكل و الملبس و السكن… إلخ.
بالرغم من أن هذه الحقوق ليست محققة جميعها في المجتمع سوى للبعض القليل. إن أكثر ما يزرع بداخلي أمل في الغد هو أن المجتمعات العربية و المستعربة في داخل أغلب أفرادها تتضارب مواقف حقة و آراء واعتبارات مختلفة تماما لتلك التي تقول و تقوم بها أنظمتها الرجعية، و لكن السؤال المؤرق الذي لا يكاد يفارقني هو : هل نسمح بأن تدفع الشعوب العربية ثمن خيانة و فساد أنظمتها لا لشيء سوى لأنها تحكمها بالحديد و النار ؟؟؟.
0 تعليقات
السلام عليكم و مرحبا بكم يمكنكم التعليق على أي موضوع ،شرط احترام قوانين النشر بعدم نشر روابط خارجية سبام أو كلمات مخلة بالآداب أو صور مخلة.غير ذلك نرحب بتفاعلكم مع مواضيعنا لإثراء الحقل التربوي و شكرا لكم.