جودة التعليم الخاص: وهم للعقل فضحته الميديولوجيا
ذ المهدي قنديل
لا غرو أن الحديث عن الرؤية الاستشرافية –المستقبلية- للمنظومة التربوية بالمغرب، يمنحنا مساحة كبيرة لمناقشة قضايا كثيرة، أبرزها تداخل الوسائط لنقل الغايات التوزيعية للقطاع التعليمي من التعليم المنتج؛ والمسهم اقتصاديا، إلى إنتاج التعليم (إنتاجية التعليم). هذا التحول الذي ظل يعد خطابا رئيسا لأرباب المؤسسات الخصوصية، ويضمر أيديولوجيا مغلفة بعرف تقليدي، فحواه أن تكثيف الساعات ينعكس إيجابا على إكساب المتعلمين مهارات التحليل والتركيب، والحال أن هذا المعطى لا يواكب تقدم الوسائط الحديثة médiations modernes، والتي تسهم في بناء موارد سهلة وداعمة لتبني فكرة تعليم سوسيواقتصادي.
لا شك أن فكرة الارتباط بالمؤسسات الخصوصية تظل محفوفة بالمغالطات ما دام مفهوم النقل الذي اجتاح الخطابات الإشهارية لهذه المؤسسات، والخطابات الصورية والحجاجية أيضا، إذ يسعى القائمون عليها إلى انتقاء ملفوظات أضحت تمثل حقلا خطابيا ممنهجا على مستوى الملفوظ، من قبيل: (الجودة/ نسبة النجاح/ أساتذة ذوو الخبرات/ النقط الحسنة/ شهادات الاعتراف بالإجابات الصحيحة...). علاوة على أن الوسيط médiateur يبقى استعماله قويا في حجيته أثناء ممارسة السلطة الرمزية بتعبير ريجيس دوبريه على متداول الفكرة (الرسالة)، وهذا الوسيط ينفتح على توظيف وسائل نقل شكلية، أو تسخير فكرة، على سبيل التمثيل: (لا تقبل المؤسسة إلا زبدة المدينة...). إضافة إلى استعمال خطابات إشهارية يقودها أولياء الأمور داخل أوساطهم لتلميع الصورة من خلال جمل الفرنسية التي يتلفظها أبناؤهم.
يعتبر مفهوم النقل حسب المفكر الفرنسي ريجس دوبريه أساس الميديولوجيا، أو ما يمكن تقريب استعماله بعلم الوساطة، فهو يعبر عن البعد السياسي للفضاء؛ إذ تمارس السلطة على الأراضي التي تحددها وتبنيها، والبعد السياسي للزمن؛ ليسرع المتحكم إلى إخفاء مقصدية الكلام، كي لا يفهم في سياقاته الزمكانية.
إن التركيز على النقل التأثيري داخل المؤسسات الخاصة ينطوي على مخاطر نسيان مسألة المعنى ومسألة الوساطة médiation ، في مسألة أخرى وهي الفصل بين الرسالة (إقناع المستهلك –والي أمر التلميذ- بمنتوج المؤسسة)، وتداوليتها (اقتناع والي أمر التلميذ والإيمان بأن المؤسسة الخاصة تنتج عكس نظيرتها العمومية). هذه الكذبة تتحقق –حسب دوبريه- داخل فعل التواصل من خلال مفهوم النقل، وكذلك تجريده من وظيفته التواصلية، إلى وظيفته الميديولوجية، فتسمى هذه اللحظة بلحظة السياسة. وهو ما يتيح قراءة رسائل أرباب المؤسسات على مرحلتين: الأولى تسويقية مصرح بها، والثانية مؤدلجة تم إضفاء عليها الطابع السياسي المؤسسي.
لا شك أن تداول الرسائل المحفوفة بالمرجعيات المادية التي قوامها الربح واللهث وراء توسيع النشاط التربوي المماثل في القطاع العام يظل حبيس الفهم في ظل عدم وجود وسيط، لأن هذا الأخير أشبه بتجريد تشييئي يغطي مستوعبا تجريبيا معينا (cours de médiologie, p14). ويمكن في هذا السياق إدخال فضاء المؤسسة و أطرها التربوية ومحيطها الجغرافي الكائنة فيه، وكذلك شهادات أولياء الأمور، والمواقع التواصلية عبر شابكة الأنترنيت...
إن وظائف الوسائط الميديولوجية هي إقامة العلاقات بين منتوج المؤسسات الخاصة وقبولها من لدن المستهلكين عبر مفهوم النقل، ثم تجديد بين ما يتغير باستمرار وما يبقى عبر الزمن، وضرورة استحضار التمييز النظامي للواقع ومقولة الزمن، بشرط أن يتضح كيف أمكن للحدود أن تختفي بين هذه الوسائط جميعها ؟. لكن، هناك أمور تجري وراء الإجابة عن هذا السؤال، كما لو أن هناك لعبة ذات مجموع يساوي صفر، هذه اللعبة بين المؤسسة المقننة للتعليم التجاري، وبين المؤسسات المنفذة له.
إن المسائل الأميرية المرتبطة بنظام مِلْكِية بيع المادة المعرفية لها بعد ضيق إلى حد ما، مهما كانت منفتحة على الفهم والتكيف، إذ يرجع هذا الغموض إلى الإضمار والاختباء وراء الكلفة المادية والزمنية التي تخصصها المؤسسة للمتعلمين من جهة، ولحجم التعويضات المغرية التي تكبح بها أصوات العارفين بخبايا القطاع من أساتذة ومؤطرين تربويين. لتظل الحاضرتان تنتميان إلى المجال الوسائطي نفسه، وكل وسيط يعد تشكيلا لعقد اجتماعي راسخ، يسهم هو الآخر في نقل الفكرة الجوهرية: من التعليم المنتج إلى إنتاجية التعليم.
يلاحظ في العلاقة القائمة بين منتج المؤسسات الخاصة والمستهلكين غموض التمييز بين البعد الحقيقي للفعل السياسي وما سماه دوبريه بالإيماءة التواصلية، والتي تتعلق أساسا بحقائق التنظيم المؤسسي، والبعد الرمزي للإنتاج، لأن المؤسسة ضمنيا لا تفكر في نفسها من حيث الكفاءة، بل تفكر كيف تفسر الإنتاج وتمثله. هذا التمثيل الذي يقوم على وسائط مختارة، تقيس البعد لثقافي للمجتمع، أو البعد الأنثروبولوجي. يصل فيه المتحكم من لحظة الثقافة إلى لحظة السياسة.
في السياق نفسه، وقياسا على ما سماه المفكر ريجيس دوبريه باللاوعي التقني لأجهزة الاتصال، فيمكن تفسير علاقة التأثير بين طرفي العملية بلاوعي غايات المؤسسة الخاصة، حيث تسعى الأخيرة جاهدة إلى إضمار فكرة الشركة الطامحة إلى بيع إنتاج لا يفوق أهمية عما يقدم في المؤسسات العمومية. بيد أن هذا الشرخ في ترجيح تعليم على حساب آخر، أسهمت فيه عوامل كثيرة أبرزها نسبة أجور موظفي القطاع العام التي تبلغ حدا متدنيا، وهو ما يدفع هؤلاء إلى تكثيف ساعات عمل إضافية، والإشادة بالمؤسسات التي تدفع تعويضات أكبر.
لقد تم إضفاء الطابع المادي على الوسائط الميديولوجية بين الرسالة وتداولها، مما جرد هذا الطابع من منطقه الثقافي إلى منطقه النفعي، ليفتح أفقا رحبة لأرباب المؤسسات في إيجاد سبل مختصرة للتأثير في الزبائن. هذا التغير سيعتبر موضع تساؤل -عنما نتحدث عن لاوعي غاية المؤسسة- في تأخر المقبلين في فهم الكلمات وعلاقتها بالأشياء. لذلك، ولتحقيق إيماءة تواصلية هادفة –بالرغم من أدلجة غاياتها- يقترح دوبريه ما سماه بتحليل الثخن la tekhne، أي المجال العقلاني القريب من تحليل الوسائط وأشكالها. فلا قيمة لتحليل الملفوظات في غياب الخطابات والتمثيلات التي تستند وسائط مؤسسية، تخدم استراتيجيات لتمنح لنفسها مكانة يعترف بها المستهلكون.
إن الحديث عن المؤسسات والفاعلين في كشف مضمرات الوسائط المستعملة من قبل المؤسسات الخاصة يصعب الوصول إليها نظرا لما تحتمي به من تعدد على مستوى التأويلات، وذلك وفق خلفيات متعددة تشترك في أمر واحد وهو تسويق المنتوج وتسليعه، ثم إن هذا الترويج يظل منغمسا في المرجعيات البراغماتية المتشعبة، والتي يصعب القبض عليها لأدلجتها، وهذا المعطى لا يمكن فضح المسكوت عنه إلا بمواجهة نتائجه على المستوى السياسي، والاجتماعي والأيديولوجي أيضا، حتى لا يسمى ذلك موقفا محفوفا بالأيديولوجيا. لأن فهم القائمين على المؤسسات وزبائنهم على المستوى العربي يحكمهم العرف التقليدي أكثر من فهمهم لخصوصية النظام المدرسي المؤهل. علاوة على المقارنات البعيدة بين نظامين أو أنظمة تشهد تباينا ملحوظا في وسائل العرض، ثم الانفتاح على الرقمنة، وكذلك تجريد المؤسسات من الأيديولوجيات المؤسساتية الضاغطة بأفكارها الموجهة، والتي تخدم ثقافة على حساب أخرى. فتسويغ الاختيار على المستوى الوطني ينبني على تنزيل مضامين المدرسة الفرنكوفونية، بينما تبقى مدارس البعثات منفتحة على مواكبة سير النظام العالمي بشقيه، الأنجلوسكسوني والأسيوي.
إن النظرة الدونية التي أضحت أعين المختصين توجهها سهاما حادة للمدرسة العمومية، خلقت منزلقا واعوجاجا خطيرا في تدبير شؤون الإدارات من جهة، ثم توجيه الأطر التربوية لفقدان الثقة في التعليم العمومي بشكل كلي، حيث فسح المجال أمام المخططات الاقتصادية لإغراق السفينة بقرارات غير مبررة أولها نظام التعاقد، وآخرها تقنين القطاع ضمن أهداف الجهوية الموسعة، إذ بدا للعيان أن شعارات الإصلاح ما هي إلا أصابع الاستشهاد تحملها الوزارة الوصية في ظرفية تحتضر فيها المؤسسة العمومية، وتساوم فيها المؤسات الخاصة جيوب المواطنين الذين لا مفر لهم في الخضوع لوسائط تسليع المنتج الخصوصي.
في سياق هذا الوضع، لا مفر من التحليل الميديولوجي لكل الوسائط التي تحمل شفرات التعليم الخاص، حتى تتضح الرؤية ويرد الاعتبار للمؤسسات العمومية، وللتفكير في وضع استراتيجية واضحة بعيدة عن الحيف والتحيز للمقاولات على حساب التعليم المجاني، لأن قطاع التعليم هو قطاع منتج وليس العكس، وتبدأ انتاجيته من توجيه التلاميذ المتميزين نحو مؤسسات التكوين المهني، لخلق أوراش وفتح مجال للابتكار، ووضع قطيعة مع فكرة إلحاق التلاميذ المنقطعين والذين يحصلون على معدلات متدنية جدا بهذه المؤسسات.
0 تعليقات
السلام عليكم و مرحبا بكم يمكنكم التعليق على أي موضوع ،شرط احترام قوانين النشر بعدم نشر روابط خارجية سبام أو كلمات مخلة بالآداب أو صور مخلة.غير ذلك نرحب بتفاعلكم مع مواضيعنا لإثراء الحقل التربوي و شكرا لكم.