محاربة تكرار التلاميذ... بالإنجاح المكثف محاربة الهدر المدرسي ... بالهدر التعليمي
مقال نشر في "هيسبريس" يوم 23 يوليوز 2022، تحت عنوان "فيدرالية: وقف تكرار التلاميذ خطوة إيجابية" أثار فضولي، فلما قرأته أثار امتعاضي... فلننظر جميعا لماذا؟
نعم، أثار امتعاضي بالرغم من أنني أعلم أن مستوى أبنائنا اللغوي والمعرفي المتدني لا دخل لهم فيه، فهم ضحايا، بل الضحايا. نعم، هم ضحايا "الانجاح المكثف" من دون المؤهلات اللغوية والمعرفية. الإنجاح المكثف توافق مع تشهيات الآباء والأمهات (الكثيرون قد يدفعون الرشاوى من أجل ذلك) ومع نظرة المسؤولين عن المنظومة التعليمية ومع أجندة المنظومة الإعلامية، وكل مكونات المجتمع، وهو ما أدى إلى طمس ملكات أبنائنا وتحويلهم إلى كسالى متسولين يخطبون ود من يعمل على إنجاحهم، حتى الأميين منهم. سبق أن تطرقت لكل هذه الأمور بالتفاصيل المطلوبة والبراهين الدامغة، من قبل، لكن هذا المقال دفعني للتذكير ببعض ما سبق أن نشرته، وبما يجب القيام به لإعادة روح التعلم إلى مؤسساتنا التعليمي، إلى أقسامنا.
وإليكم بعض ما جاء في المقال المنشور في هيسبريس من أفكار. يبدأ المقال بــ "تدخل وزارة التربية الاستعدادات للموسم الدراسي المقبل برهانات الحد جذريا من التكرار في الأقسام الابتدائية والإعدادية"... وكذا "... بضرورة تمكين التلاميذ من اكتساب التعلمات الأساسية وإتمام فترة التعليم الإلزامي عن طريق الحد بشكل جذري من الهدر المدرسي والتكرار، وتشجيع التعليم الأولي""...، كما يجب الانتباه إلى ""الضغوط الكبيرة التي تشكلها التقويمات في مرحلة الابتدائي على صغار السن، وإدخالهم في مراحل الشك مبكرا في حالة لم يكن التحصيل جيدا"... كما نقرأ كذلك "ووفقا لمعطيات فيدرالية الآباء بالمغرب فالتكرار خلال المستويات الأساسية من ضمن أسباب الهدر المدرسي، مطالبة جميع المتدخلين بالإحاطة بالتلاميذ لمعرفة الأسباب الذاتية والموضوعية الدقيقة وراء ضعف التعلم والتكرار""...
وما إلى ذلك من الأفكار التي تدفع كلها في اتجاه الانجاح المكثف للتلاميذ، قصد محاربة الهدر المدرسي... ومما أثار انتباهي في المقال أن رئيس فيدرالية آباء وأمهات وأولياء التلاميذ، صرح لهيسبريس أن “الإحصائيات تفيد بتكرار ثمانين في المائة من المتمدرسين خلال هذه المرحلة (مرحلة التعليم الأساسي)”. فلا أدري من أين حصل على هذه الإحصائيات، فقطعا ليس هناك تكرار لثمانين في المائة من التلاميذ، فهذه النسبة تذكر بتعليم أيام زمان، حيث لم يكن ينجح إلا من يستحق ذلك، بينما من لا يمكنهم مواصلة الدراسة يغادرون ليلجوا أقسام المجتمع، حيث يتعلم كل واحد من الحرف وغيرها ما يؤمن به بناء مستقبله.
وتعليقا على المقال، وما هو رائج داخل المجتمع، فإن "نسبة نجاح" (بل الإنجاح) التلاميذ والطلبة هي التي أصبحت تشكل التحدي الأكبر للجميع، وليس مدارك التلاميذ ومدى تمكنهم وتأهلهم لغويا ومعرفيا. فلقد انقلبت المفاهيم رأسا على عقب، أصبح كل الهم موجه لمحاربة الهدر المدرسي (الانقطاع عن التمدرس) من خلال وصفة الإنجاح المكثف للتلاميذ، لإبقائهم في الأقسام إلى نهاية التعليم الإعدادي، ولا يهم ما يسببه هذا النهج المثير للاستغراب من هدر تعليمي محقق. نعم، هدر تعليمي مجسد في ناجحين يتطلبون دروسا محو الأمية اللغوية في الجامعة (مشروع الإصلاح الجامعي باشلور شاهد على ذلك)، ناهيك على انعدام الكفاءة المعرفية. فالإنجاح المكثف المقبول من طرف الجميع (مع شديد الأسف)، دفع بالغالبية العظمى من التلاميذ لامتهان الكسل واللامبالاة، فلماذا الاجتهاد والإجهاد النفسي والجسدي إذا كان النجاح مضمونا حتى للأميين؟
المطالبة بإلغاء الامتحانات (التقييم)
وللتوضيح بالواضح كما يقال، وكما سبق أن أوضحت من قبل، فإن الدول التي ألغت التقييم (الامتحانات) خلال تعليم الطور الابتدائي وحتى الإعدادي (في بعض البلدان)، كــ"فنلندا" مثلا، التي يتربع تعليمها عرش المنظومات التعليمية الناجحة في العالم، تعتمد ما هو أكثر فعالية من التقييم، ألا وهو المتابعة اللصيقة لكل تلميذ. فهذه الدول تعمل بنظام المدرس الرئيسي المؤازر من طرف مدرسين مساعدين إثنين. فما أن تنتهي الحصة، ويتبين خلالها أن بعض التلاميذ لم يستوعبوا الدرس، أو بعضه، يتم تعهدهم من طرف المدرسين المساعدين بالشرح وبكل ما يجب القيام به، لبلوغ نفس مستوى الاستيعاب كباقي زملائهم الذين استوعبوا ما درس لهم خلال حصة الدرس. إذن، هناك تقييم مباشر (من دون إجراء الاختبار) وتقويم آني (في الحين)؛ وعليه، فالمطلوب ممن يطالبون بحذف التقييم خلال التعليم الابتدائي والإعدادي عندنا، أن يطالبوا بأن يكون المدرس الرئيسي مؤازرا، في مهمته، بمن يساعدونه على جعل كل التلاميذ بالقسم يفهمون ويستوعبون ما يدرس لهم. ثم عليهم ألا ينسوا أن أقساما مكدسة، كما هو الحال عندنا، تتطلب 3 مدرسين مساعدين أو أكثر، في كل قسم. فإذن، علينا ألا نقف عند "ويل للمصلين"، ونحن نقترح ما نتوخى منه إصلاح منظومتنا التعليمية، أي إصلاح أحوالنا؛ نعم، بصلاح أحوال التربية والتعليم تصلح أحوالنا كأفراد وكمجتمع، والعكس صحيح.
ثم علينا أن نتيقن أن فعالية المنظومة التربوية ونجاحها، لا تتجلى في النسبة المئوية للمنجحين، بل في الناجحين عن استحقاق، الذين يمكن الاعتماد عليهم في أفق ربح الرهانات الوطنية الكبرى. فالبلاد في حاجة إلى أطر تعليمية وصحية واقتصادية ومهندسين وغيرهم، قادرين على رفع التحديات لضمان الأمن الوطني والاجتماعي للبلاد، على كل المستويات وفي كل الميادين. فعلينا ألا ننسى أن بناء أبطال الغد، حتى في كرة القدم (التي نعمل على شحن حتى البنات بالتعاطي لها، تنفيذا لأجندة من يخططون لقلب كل المفاهيم على مستوى الأسرة والمجتمع)، يبدأ في سن مبكرة، خلال طور التعليم الابتدائي، حيث يجب تربية الأطفال بسلاسة على المنافسة الشريفة والاجتهاد قصد النجاح المشرف، النجاح المستحق. ألم نكن أطفالا، درسنا بالتعليم الابتدائي، في زمن لم يكن يسمح باجتياز امتحان الشهادة الابتدائية إلا لمن تم انتقاؤهم. هؤلاء الذين يكتبون وينتقدون اختلالات المنظومة التعليمية وغيرها من شؤون المجتمع، ومن بينهم أنا، عبد ربه (كما يقال)، ما كانوا ليفعلوا لو أنهم امتهنوا الكسل واستفادوا من ريع الإنجاح المكثف، كما هو عليه الحال حاليا. فلن يصلح حال أبنائنا (منظومتنا التعليمية) إلا بما صلح به حالنا، من قبل. ولنا مثال حي يتجلى في النظام التعليمي لـــ "كوريا الجنوبية"، وكذا سنغافورا، بحيث يمثل طور التعليم الابتدائي المحطة الأساسية لبناء رجال ونساء الغد. فاجتياز حاجز الشهادة الابتدائية، عندهم، يشكل تحديا كبيرا للآباء الذين يجدون أنفسهم منخرطين بقوة في شؤون تدريس أبنائهم إن أرادوا لهم أن يجتازوا حاجز الشهادة الابتدائية، وبامتياز. ثم، إن التدريس في سنغافورا (وهي كذلك كفنلندا، يتربع تعليمها عرش المنظومات التعليمية الموفقة) يتم بمقاربة بيداغوجية الأهداف، والتي تخلينا عنها نحن منذ نهاية القرن العشرين، وارتمينا في أحضان مقاربات الكفايات والإدماج والفارقية وغيرها من المهاترات، والتي شكلت، في حد ذاتها، تحديا للمدرسين، زيادة على التضخم المعرفي المثير الذي بلغت دسامته انسداد شرايين المقررات التي لم تعد قابلة للفهم والاستيعاب.
تشجيع التعليم الأولي
ثم، تطرق المقال إلى "تشجيع التعليم الأولي" والذي سبق أن نعته، من قبل، بــ"التعويم" الأولي، أي التعليم الخارج عن سياق مفهوم التعليم والتعلم. ولتوضيح الرؤية بهذا الخصوص، لنأخذ كمثال دولة فنلندا، حيث المنظومة التعليمة ناجحة، لنجد أن الأطفال يلعبون حتى سن السادسة من العمر، وبعدها يلجون المدرسة، حيث يقضون سنة في اللعب الجماعي المؤطر، إلى أن يبلغوا السابعة من العمر الذي يؤهلهم لبدأ تعلم الكتابة والقراءة والحساب. السابعة من العمر، سن إتمام اكتمال نمو الدماغ والمراكز الذهنية، عمر يؤهل الأطفال ليستوعبوا بسلاسة ما يدرس لهم بطرق بيداغوجية كلاسيكية مثمرة، بعد أن يكونوا قد مروا بطور اللعب، الذي يعد ضروريا في بناء شخصية الأطفال واستكمال نموهم. فلا يمكن التكلم عن تعليم أولي واعتباره طورا تعليميا، بينما هو خارج عن السياق البيداغوجي للتعليم. فكما سبق أن أوضحت من قبل، فالتعليم في هذا العمر يعد كالنقش على الحجر، فلننظر ماذا ننقش في أدمغة أبنائنا، ومن هم النقاشون. إنه لأمر عجيب، نعمل على تكوين معلمين لطور التعليم الابتدائي، مكونين بيداغوجيا كما يجب (كما هو مفترض)، ليكونوا مؤهلين للتعامل مع أطفال هذا الطور العمري؛ فأين هو التكوين البيداغوجي المطلوب لمن يتعاملون مع صبية "التعليم" الأولي؟ فهذه المرحلة العمرية شديدة الحساسية، بحيث تتطلب تربويين بيداغوجيين من العيار الثقيل، يحسنون النقش في أدمغة الصبية، فلا يعقل أن تترك المهمة لبنات الروض المفتقدين لأبجديات طرائق التعليم وتربية الأطفال. ثم، لا بد من الاقتداء بالدول التي يتربع تعليمها عرش المنظومات التعليمية الناجحة عالميا كـــ" فنلندا"، مثلا، حيث لا يبدأ الأطفال في تعلم الكتابة والقراءة إلا بعد استكمال السن السابعة من العمر. أطفالنا يتم تشويه المراكز الذهنية في أدمغتهم وإعطاب ملكاتهم مبكرا جدا، مما يجعل أدمغتهم غير قابلة للنقش وإعادة البرمجة متى بلغوا طور التعليم الابتدائي، هذا الطور المفترض فيه أن يشكل القاعدة الصلبة التي تتمكن من تحمل ضغط الأطوار التعليمية اللاحقة.
خلاصة القول
إذن، على من يتعاطون لشؤون التربية والتعليم، أن يكونوا ممن يحيطون بكل الجوانب التي يتبارون في التنظير لها. فالمنظومة التربوية والتعليمية هي القلب النابض للبلاد، فلا يعقل أن يتعاطى مع ما تعرفه من اختلالات واضطرابات غير المتخصصين في طب القلب. فعلينا البدء بالتخفيف من دسامة المقررات المفرطة، بالموازاة مع تكوين مدرسين أكفاء، يمتلكون من المعارف والمهارات ما يمكنهم من القيام بمهامهم بنجاح وبكل أريحية. كما علينا إعادة الاعتبار للمنافسة الشريفة والاجتهاد بطرق تربوية سليمة سلسة، منذ طور التعليم الابتدائي، ليتذوقوا طعم النجاح المستحق، فيزدادوا تشوقا لنجاحات أخرى في التعلم وفي كل ما قد يقومون به من مهام في أي مكان وجدوا فيه. فأكبر فرية، بل جريمة ارتكبناها في حق أطفالنا، أننا وأدنا فيهم قابلية الاجتهاد والمنافسة والندية، وحقناهم بفيروسات الغش والنقيل والكسل منذ نعومة أظافرهم ... ثم نتهمهم وهم ضحايا، ونتباكى على ما آلت إليه الأمور، فكما يقال "اللي ضربتو يدو ما يبكي" (من ضربته يده لا يبكي) و"اللي عقدها بيديه يحلها بسنيه".
الرباط في 31.7.2022
عبد الله لخلوفي
0 تعليقات
السلام عليكم و مرحبا بكم يمكنكم التعليق على أي موضوع ،شرط احترام قوانين النشر بعدم نشر روابط خارجية سبام أو كلمات مخلة بالآداب أو صور مخلة.غير ذلك نرحب بتفاعلكم مع مواضيعنا لإثراء الحقل التربوي و شكرا لكم.