إلى السيد وزير التعليم العالي والبحث العلمي والابتكار
إلى السيد وزير التربية الوطنية والتعليم الأولي والرياضة
على هامش إحداث سلك الإجازة في التربية لإصلاح المنظومة التعليمية
بداية لا بد من التنويه بهذا المشروع الطموح الذي يرمي إلى "الإصلاح البيداغوجي الشامل والمندمج" والذي """يرتقب أن يمد خريجيه بمواصفات عالية تتمثل في “التمكن من مادة أو مواد التخصص حسب سلك التدريس، والتمكن من العلوم والتقنيات البيداغوجية، مثل علم النفس التربوي، وعلم الاجتماع، والبيداغوجيا، وأخلاقيات مهنة التدريس”؛ فضلا عن إتقان لغات التدريس واللغات الأجنبية، من خلال “نظام الإشهاد. كما يرمي السلك ذاته إلى توفر الأستاذ على “الكفايات الذاتية والمهارات الأفقية”، دون إغفال “تطوير المهارات الرقمية، من قبيل الإنتاج الرقمي، تقنيات وآليات التدريس عن بعد"" (نقلا عن هيسبريس). نعم، مشروع طموح، خصصت له الدولة 4 مليارات من الدراهيم لتنفيذه قصد بلوغ الأهداف المسطرة المتوخاة منه. تم تبني هذا المشروع الضخم بعد أن تبين جليا أن المنظومة التربوية والتعليمية ليست كما يرام، بل في حالة مرضية مقلقة، لا تمكنها من ""مسايرة تطلعات البلاد، وعلى رأسها مسايرة التحولات السريعة، خاصة في مجال الاستثمار في الرأسمال البشري""".
إذن، هناك أهداف مسطرة واضحة، وضعت لها إمكانيات مادية معتبرة تفي بالمتطلبات الضرورية لإنجاح هذا المشروع الذي يتوخى منه، هذه المرة، الإصلاح الفعلي للمنظومة التربوية للبلاد.
وقبل التطرق "للمسالك المفتاح" الجامعية ومحتوياتها، والتي يتوخى منها تكوين معلمين (لطور التعليم الابتدائي) وأساتذة (التعليم الثانوي الإعدادي والتأهيلي) ذووا كفاءات مهنية تؤهلهم للقيام بمهامهم في التدريس على أحسن وجه، سأتوقف عند ما عرفته المنظومة التعليمية، من قبل، من إصلاحات متتالية، منها من خصصت لها إمكانيات مادية كبيرة، إلا أن النتائج المتوخاة ظلت مخيبة للآمال، بحيث استمرت الأوضاع في التدهور إلى أن وصلنا إلى ما نحن فيه اليوم.
نعم، لقد تعودنا أنه من إصلاح للمنظومة التربوية والتعليمية لآخر، تزداد أوضاعها ترديا واستفحالا، إلى أن بلغنا الوضعية التي نحن عليها اليوم. سبق أن تطرقنا، بكل التفاصيل، لكل الجوانب المتعلقة بسلبيات كل إصلاح (قصد العمل على تفاديها)، من خلال ما نشرناه من كتب ومقالات وما ألقيناه من محاضرات، لكن لا شيء تغير. تطرقنا لهذه الأمور من موقعنا، كأستاذ باحث، بالمدرسة العليا للأساتذة (الرباط) التي تعتبر، من خلال موقعها بالنسبة للمنظومة التعليمية، كمؤسسة "أوديت" ترصد كل التطورات والتغيرات عموديا وأفقيا. فهي منفتحة ومتفتحة على أطوار التعليم ما قبل الجامعي (عموديا) وعلى التعليم الجامعي (أفقيا).
وقد توصلنا من خلال الأبحاث الحثيثة (المنهج العلمي) والمتابعة، منذ بداية التسعينات من القرن الماضي، إلى أن اختلالات المنظومة التعليمية يمكن إجمالها في ثلاثة عوامل أساسية:
-عامل التضخم المعرفي الحاد الذي تعرفه كل أطوار التعليم ما قبل الجامعي؛ -عامل الإجهاز على تعلم اللغة والحساب بالتعليم الابتدائي (تبعات التضخم المعرفي الشامل)؛
-عامل محاربة الهدر المدرسي بالهدر التعليمي والانجاح المفرط للتلاميذ.
سلبيات عامل التضخم المعرفي تتجلى على عدة مستويات
على مستوى التلاميذ
التضخم المعرفي المهول، لا يسمح للتلاميذ باستيعاب ما يدرس لهم، وهو ما يجعلهم لا يبالون بالمواد المدرسة لهم، بل ينفرون منها، علما أن مستواهم اللغوي المتردي يزيد الطين بلة، يزيدهم نفورا. لم أتعلم الجيولوجيا إلا عندما ولجت الجامعة، بكلية العلوم بالرباط، الوحيدة آنذاك (أي، لم أدرسها من قبل، خلال أطوار التعليم ما قبل الجامعي)، بحيث عمل عاملان على تحبيبها إلي، هما: -عامل إتقاني للغة، وامتلاك المنهج العلمي والمنطق الفكري السليم (خلال التعليم ما قبل الجامعي لأيام زمان)؛ -عامل تحبيبها إلي من طرف مدرسيها، وعلى رأسهم الأستاذ مسوكر (رحمه الله)، أول أستاذ جامعي مغربي في الجيولوجيا، آنذاك. إذن لا بد من امتلاك أنزيمات اللغة الضرورية لتيسير هضم المواد المدرسة واستيعابها؛ كما أنه لا بد من المدرس الكفء، المتمكن مما يدرس، لكي يحبب مادته للتلاميذ (التعليم ما قبل الجامعي) أو الطلبة (التعليم العالي والجامعي). فإذن، عامل التضخم المعرفي المهول لما يدرس بالتعليم ما قبل الجامعي يجهز على كفاءة المدرسين، ويجهز على استيعاب التلاميذ لما يدرس لهم، فيؤدي بهم قطعا إلى النفور من المواد المدرسة لهم، وهو ما يمثل أقصر طريق لحصول الهدر التعليمي.
على مستوى المدرسين ومؤلفي الكتب المدرسية
التضخم المعرفي الحاد، الذي تعرفه أطوار التعليم ما قبل الجامعي، أعجز حتى مؤلفي الكتب المدرسية (كما تشهد على ذلك الكتب المدرسية التي ألفوها)، فكيف يطلب من المدرسين تدريس ما يتجاوز مستوياتهم المعرفية ومؤهلاتهم الأكاديمية وتحببيها للتلاميذ؟ والعجيب في الأمر، أن التضخم المعرفي، على مستوى التعليم ما قبل جامعي، يقابله تقشف وانحصار معرفي على المستوى الجامعي. فهذا التقشف طال مدة التكوين، بحيث تقزمت مدة التعليم الجامعي من أربع سنوات إلى ثلاث سنوات فقط. نعم، إنه لأمر عجيب، ومثير للاستغراب، أن يكون هناك نفخ وتضخم في مقررات التعليم ما قبل الجامعي، مقابل تحجيم وتقزيم مقررات التعليم العالي ... أصبح التعليم ما قبل الجامعي يخضع للتدريس بمقاربة الأندراغوجيا، بينما أصبحت مقاربة البيداغوجيا هي المعول عليها خلال التعليم العالي.
هذه الاختلالات المخلة بأبجديات التعليم، والتعلم، والتدريس، استفحلت وتجدرت حينما تم حرمان المدرسين، بالتعليم ما قبل الجامعي، من حقهم في التكوين المستمر "الأكاديمي" وإعادة التكوين، للرفع من كفاءتهم المعرفية والمهنية، من خلال تحيين المعارف واكتساب ما جد منها. فمهنة التدريس، تقتضي امتلاك المدرس للكفاءة المعرفية والعلمية اللازمة التي تؤهله لتدريس ما يدرس بكل أريحية، وهو ما يجعله يحبب المادة المدرسة للتلاميذ. فلا بد إذن من أن يمتلك المدرس الكفاءة المعرفية والعلمية أولا، قبل أن يتعاطى لامتلاك المؤهلات البيداغوجية التي تعينه على القيام بهمته على أحسن وجه. فالمقاربات البيداغوجية مطلوبة للرفع من جودة التدريس، فهي مطلوبة كوسيلة، وليس هدفا في حد ذاتها؛ فمتى انعدمت الكفاءة المعرفية والعلمية عند المدرس، فلن تغني عنه أية مقاربة بيداغوجية، كيفما كانت وجاهتها. فإذن، علينا نجعل الوسيلة في خدمة الهدف المنشود، وليس العكس.
الإجهاز على تعلم اللغة والحساب خلال طور التعليم الابتدائي
المنظومة التعليمية تلقت أكبر ضربة موجعة على مستوى طور التعليم الابتدائي، الذي يمثل حجر الزاوية في صرح المنظومة التربوية للبلاد. فمما هو معلوم بيداغوجيا، أن الحصول على الشهادة الابتدائية يعد حصولا على إجازة مصغرة في اللغة، كما كان عليه الحال من قبل، أيام زمان. فما لم يتمكن التلميذ الحاصل على هذه الشهادة من امتلاك الأسس اللغوية السليمة، فلا يمكنه الترقي، كما هو مفترض ومطلوب، في اكتساب المعارف والعلوم، خلال أطوار التعليم اللاحقة. فالهدر اللغوي، شكل اختلالا كبيرا أدى إلى تصدع صرح المنظومة التربوية والتعليمية للبلاد، تصدعات غائرة.
وحتى لا أطيل بهذا الخصوص، يكفي التطرق لمشروع إصلاح التعليم الجامعي "باشلور" (الذي كان على وشك أن يصبح نافذا) الذي يرمي، من بين ما يرمي إليه، إلى برمجة وحدات لتعليم اللغة للطلبة، بعد أن تبين للجميع أن تردي المستوى اللغوي للتلاميذ، ثم الطلبة فيما بعد، يمثل عاملا بالغ السلبية، يحد من ترقيهم في اكتساب المعارف والعلوم واستيعابها. نعم، يعد نظام "باشلور"، شاهدا مدويا على تصدع طور التعليم الابتدائي، خصوصا، بسبب الإخلال المثير بأبجديات التعليم اللغوي، كنتيجة لمسلسل الإصلاحات المعطبة التي عرفتها المنظومة التعليمية. وهنا لا بد من التنويه بالمدارس الجهوية لتكوين المعلمين الأكفاء، التي تم التفريط فيها (الموءودة)، من دون أي بديل يقوم مقامها. فما يتم العمل به اليوم، في المراكز الجهوية لمهن التربية والتكوين، بعيد كل البعد عن روح المراكز الجهوية لتكوين المعلمين الموءودة، ولن يغير من الأمر شيئا ما ستقوم به المدارس العليا للأساتذة من خلال منظور المشروع الجديد لإصلاح التعليم. فالتدريس بالتعليم الابتدائي ليس كالتدريس في باقي الأطوار التعليمية، فهو يتطلب مهارات خاصة، عبارة عن ألوان من الفنون الجميلة، لا يمتلكها إلا من تعلم على أيدي فنانين مهرة، كما كان عليه الحال من قبل.
أما بخصوص تعلم الحساب بالطرق الكلاسيكية، فيمثل الطريق المعبدة لنقش مراكز التفكير السليم وتنمية الذكاء على أسس لا تشوبها شائبة. فتعلم الحساب والحساب الذهني وكذا القيام بالعمليات الحسابية وإيجاد الحلول لتمارين محسوسة وملموسة، من واقع الحياة اليومية، يسهم في بناء المراكز الذهنية للتفكير السليم وتعهد موهبة الذكاء بالسقل. فما لم تتم إعادة الروح لتعلم اللغة والحساب، خلال طور التعليم الابتدائي، فلن تزداد أوضاع المنظومة التربوية إلى تدهورا واستفحالا.
محاربة الهدر المدرسي بالهدر التعليمي
محاربة الهدر المدرسي من خلال مقاربة الإبقاء على التلاميذ داخل جدران المؤسسات التعليمية بكل الوسائل، إلى نهاية طور التعليم الإعدادي، يمثل الوسيلة الفعالة للتمكين للهدر التعليمي على أوسع نطاق. تنزيل شعارات "تكافؤ الفرص" (التي تجلت في الغش والكسل) و" مدرسة النجاح" (التي تجلت في الإنجاح المكثف، حتى للأميين) على أرض الواقع، شكلا ضربة موجعة للتعليم والتعلم والترقي في اكتساب المعارف والمهارات. شعارين أجهزا تماما على خلق التربية على المواظبة والاجتهاد والمنافسة الشريفة، بين التلاميذ، في اكتساب المعارف واستيعابها. فلقد تفشت ظاهرة الكسل والغش عند التلاميذ، بحيث أصبح الغالبية العظمى منهم يعتمدون على تقنيات الغش المتطورة وما تؤمنه الخريطة المدرسية من إنجاح مكثف حتى للأميين.
إذن، هناك العديد من العوامل السلبية تفاعلت فيما بينها لتؤدي قطعا إلى الهدر التعليمي، الذي يعد الأخطر بكثير من الهدر المدرسي. دسامة المقررات التي شكلت تحديا كبيرا للمدرسين والتلاميذ على حد سواء؛ فبالنسبة للتلاميذ فقد زاد الطين بلة غياب أنزيمات الهضم المتمثلة في اللغة التي تم تضييع تكوينها خلال طور التعليم الابتدائي. هذه العوامل الأساسية أدت إلى استفحال عوامل (ظاهرة) الكسل، بالموازاة مع الإنجاح المكثف، مما أدى إلى التفريط في التربية على المواظبة والاجتهاد والمنافسة، التي تجعل التلاميذ يتمايزون على أسس تربوية وتعليمية سليمة. الهدر التعليمي أدى إلى تخريج الجامعة لحاملين لشهادات عليا يتطلبون دروسا لمحو الأمية اللغوية (شهادات عليا من دون لغة مؤهلة للفهم والاستيعاب؟). فإذن، لا بد لمشروع إصلاح المنظومة التربوية والتعليمية، الذي يدخل حيز التنفيذ خلال السنة المقبلة (2022 – 2023)، أن يأخذ بعين الاعتبار العوامل التي أدت إلى إخفاق الإصلاحات السابقة قصد تفاديها.
بعض المسالك المفتاح (filières clés) التي تبنتها وزارة التعليم العالي والبحث العلمي والابتكار لا تفي بتطلعات الوزارة
المسالك "المفتاح" تم النقاش بشأنها في 2018، وبما أنها لم تكن ملزمة، فلم تتبناها إلا بعض الشعب. المهم في الأمر أن بعض هذه المسالك لا تفي نهائيا بالمنتظر منها، بحيث أن تسلسلها ومحتوياتها لن تسهم في ضمان جودة التعلمات المرجوة ولن ترفع من كفاءة رجال التعليم، بل ستزيد الطين بلة. وعليه، فالمطلوب إعادة النظر في هذا الأمر مع أصحاب الاختصاص في هذا الميدان.
"الإصلاح البيداغوجي الشامل والمندمج" لن يتحقق إلا من خلال إعادة النظر في التضخم المعرفي المهول الذي تعرفه أطوار التعليم ما قبل الجامعي
كيفما كانت جدية ووجاهة مشروع خريطة (وليس خارطة) الطريق الجديدة لإصلاح التعليم فلن تؤتي أكلها أبدا ما دامت اطوار التعليم ما قبل الجامعي تئن من فرط التضخم المعرفي المهول التي تعرفه، والذي أعجز حتى مؤلفي الكتب المدرسية. فـــ "مشروع الإصلاح البيداغوجي الشامل المندمج" هذا لن يغير شيئا من الأوضاع البيداغوجية المتردية للتعليم ما قبل الجامعي ما لم يعاد النظر في المقررات، من التحضيري إلى الباكلوريا. فلا يعقل أن يصبح التعليم الثانوي التأهيلي ندا للتعليم الجامعي بكل ما في الكلمة من معنى. فلا يعقل أن يكون الرصيد المعرفي للمدرس بالتعليم التأهيلي والأطوار الأخرى يساوي ما يدرسه للتلاميذ، في أحسن الأحوال. فما لم يكن المدرس متمكنا مما يدرس للتلاميذ، فلن يتمكن من تبسيط المفاهيم ليستوعبوها، وبما أن الإنسان عدو ما لا يفهم، فسينفرون مما يدرس لهم. والحقيقة أن هذا هو واقع منظومتنا التعليمية المر، بحيث أصبح التضخم المعرفي يمثل ذلك الغول المخيف الذي ينفر منه الجميع، المدرس والتلميذ على السواء.
الرباط في 25. 7 . 2022
أ. د. عبد الله لخلوفي
0 Kommentare
السلام عليكم و مرحبا بكم يمكنكم التعليق على أي موضوع ،شرط احترام قوانين النشر بعدم نشر روابط خارجية سبام أو كلمات مخلة بالآداب أو صور مخلة.غير ذلك نرحب بتفاعلكم مع مواضيعنا لإثراء الحقل التربوي و شكرا لكم.