أطروحة جامعية لنيل شهادة الدكتوراه بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالجديدة تفتح دفاتر السجن، وتتصفح أوراق الإنصاف والمصالحة بمنظار البلاغة والحجاج.
نوقِشَت صبيحة يوم الثلاثاء 18 أكتوبر 2022م، بكلية
الآداب والعلوم الإنسانية بالجديدة، أطروحة دكتوراه
في الأدب العربي، تقدّم بها الطالب الباحث إبراهيم العدراوي، تحت إشراف الدكتورة
نعيمة الواجيدي، بعنوان "الكتابة
عن الذات وإعادة بناء الذاكرة في سياق الإنصاف والمصالحة بالمغرب ــــ مقاربة
حجاجية بلاغية"، وتكوّنت لجنة المناقشة من:
الدكتورة لطيفة الأزرق
رئيسا
الدكتورة نعيمة الواجيدي
مشرفا ومقررا
الدكتور عادل عبد اللطيف
عضوا
الدكتورة رحمة توفيق
عضوا
الدكتورة ثريا وقاص عضوا
وبعد المداولة التي تلت
مناقشة مستفيضة للأطروحة، أعلنت رئيسة اللجنة عن قرار منح الباحث درجة الدكتوراه
بميزة مشرف جدا، مع التوصية بالطبع.
ونظرا لقيمة الأطروحة
وجديتها وأهميتها، نعرض الخطوط العريضة للملخص الذي قدمه الباحث أمام أنظار
اللجنة.
تحدث الباحث في مستهل
كلامه عن أهمية الذاكرة، بوصفها مطلبا اجتماعيا وإنسانيا، يؤسس لمستقبل يسمح
للأفراد والمجتمعات بإمكانيات العيش المشترك، ورَبَطَ الموضوع بواقع مغرب نهاية
القرن العشرين الذي شهد ميلاد هيأة الإنصاف والمصالحة، ومَنَّتْ فيه شرائح واسعة
نفسَها بالتصالح مع الذات والآخر، والتأسيس المدني لذاكرة عادلة، وخرجت فيه إلى
وجود كتابات تَحَدَّثَ أصحابُها عن تجاربهم السجنية المريرة، وسوقوا جميعا لصورة
الضحية، وعقدوا محاكمة متأخرة لمن وصفوهم بالجلادين، مستغلين جو الانفراج السياسي
وهامش الحرية الذي واكب نشر تجاربهم.
وقد تبنى الباحث، في
معرض تحليله لبعض هذه الكتابات، بلاغة الحجاح إطارا منهجيا في البحث، معللا ذلك بأن
"الكتابات عن الذات في سياق الإنصاف المصالحة بالمغرب، اتخذت طابعا مرجعيا
واضحا، واتجهت إلى الشهادة على وقائع وأحداث ماضية، انطلاقا من الذاكرة الفردية"،
مضيفا أن بعدها الترافعي ظاهر وملموس، فهي تسعى "إلى نقل تجربة عاشتها الذات
في سياق سياسي واجتماعي مضطرب، وتهدف إلى الإقناع بعدم تكرار ما حدث مرة أخرى".
وقد استدل الباحث، لتأكيد وجهة نظره، بقول البلاغي محمد الولي عن هذا النوع من
الكتابات: "إنها، إذن، سِيَرٌ تقصد إلى الفعل ... أي لم تكتب لأجل التسلية
الفنية، بل كتبت للمساهمة في التغيير، أو أن الأحداث المعروضة في السيرة كانت
تندرج ضمن حركة نضالية تستهدف إقامة ديموقراطية حقيقية وتوفير حياة كريمة لكل
المواطنين"[1] .
حدد الباحث إشكالية بحثه في: البعد الحجاجي في الكتابة عن الذات
وإعادة بناء الذاكرة في سياق "الإنصاف والمصالحة" بالمغرب. ونوه إلى أن
هذه الإشكالية تتأسس على مفهومين رئيسين هما: الكتابة عن الذات، وإعادة بناء
الذاكرة. ولدراسة هذه الإشكالية، انطلق من سؤال مركزي: -هل يمكن أن تكون الكتابة
عن الذات، في سياق الإنصاف والمصالحة في المغرب، خطابا حجاجيا يروم الإقناع
والتأثير؟ وإذا كان الأمر كذلك، فما هي أبرز المقومات الحجاجية التي انطلق منها
المؤلفون للإسهام في بناء ذاكرة جماعية؟ وما هي الأساليب الحجاجية والبلاغية التي
توسلوا بها من أجل إقناع القارئ بفحوى "الحقيقة" التي ينقلونها في
خطاباتهم؟
طرح
الباحث، انطلاقا من هذا السؤال الإشكالي المركزي مجموعة من الأسئلة، وصاغ عدة
فرضيات، وللإجابة عن الأسئلة وافتحاص الفرضيات، قسم بحثه إلى قسمين، تناول في
أولهما ثلاثة مداخل نظرية ومنهجية: أولها-مدخل إلى الكتابة عن الذات، وقد حدد من
خلاله خصائص الشهادة في هذا النوع من الكتابة، كما تطرق لأهم المفاهيم المرتبطة بخطاب
الشهادة، لاسيما مفاهيم: الشهادة، والشاهد، والسياق. وثانيها- مدخل إلى الدراسات
البينية للذاكرة، وحدد فيه تقاطعات البحث في الذاكرة بين مجالات معرفية متعددة،
وعرض أهم الدراسات التي اشتغلت في هذا المجال، وركز على المفاهيم الإجرائية؛ مثل
الذاكرة الفردية، والذاكرة الجماعية، وإعادة بناء الذاكرة، وعلاقاتها المتشعبة
بالمجتمع والتاريخ والسياسة والأدب... وثالثها- مدخل منهجي أبرز فيه أهم المفاهيم
والأدوات الحجاجية التي اتخذها منطلقا وإطارا لتحليل الكتابات عن الذات، مركزا على
مكونات الإقناع الثلاثة: الإيتوس واللوغوس والباتوس، وعلاقة هذه المكونات بالقيم،
وبالصور والأساليب البلاغية، ووظيفتها في المرافعة، والتأثير، والإقناع.
أما
القسم الثاني فقد قسمه الباحث إلى ثلاثة فصول، درس في أولها تقاطع الذاكرات في
"كتابات تازمامارت" من زاوية حجاجية، وركز على ثلاثة مباحث. أولها
-وظيفة البورتريه في استحضار شخصية الفاعل التاريخي، وبناء صورة
"النموذج" أو "عكس النموذج"، عن طريق استحضار القيم، مراكمة
الأوصاف المؤثرة، والانتقاء المعجمي والاستعارات. وثانيها-الحجاج بالوقائع واختلاف
رواية الشهود للحدث التاريخي الراهن في الشهادات المتقاطعة، ووقف، في هذا المبحث،
على حدث محاولة انقلاب الصخيرات، وكيفية سرد الشهود لتفاصيله، ومدى تمكّن الشهادات
المتقاطعة من تقديم صورة للحدث التاريخي الراهن الذي يلفه غموض كبير.
وثالثها-البعد الحجاجي في تمثل الشهود للفضاء السجني، وتمثلاتهم له، بعد التجربة، ووظيفة
الصورة في شحن معاناة الضحايا بعاطفة قوية في مستوى التعبير عن قسوة التجربة، وفي
نقل تفاصيل مؤثرة عن مصير الذين قضوا في ذلك المعتقل الرهيب، الذي أصبح عنوانا
يرمز إلى أحد أماكن الذاكرة الجماعية.
وقد اشتغل الباحث في هذا
الفصل على ثلاثة متون رئيسة، وهي شهادات: " تذكرة ذهاب وإياب إلى
الجحيم" لمحمد الرايس، و"تازممارت الزنزانة رقم 10" لأحمد
المرزوقي، و"تازماموت" لعزيز بنبين.
تناول الباحث في الفصل الثاني البعد الحجاجي في تمثيل محاكمة
1977، واختار محاكمة 1977، المعروفة بقضية "السرفاتي ومن معه" أنموذجا
للتحليل. درس فيها طريقة تمثيل المحاكمة، وكشف عن الأسلوب الذي ترافعت به الذات عن
مواقفها، وتوقف عند وظائف الحوار، والاستعارة، والصراع الخطابي بين المُحاكَمين وهيئة
المحكمة، والبورتريهات التي رسمها الكتاب للمحامين والقضاة والمتهمين الآخرين. وركز
في تمثيلية المتون على درجة حضور تمثيل المحاكمة في الشهادات، من جهة، وعلى تقاطع
الشهادات، من جهة أخرى. واشتغل لإبراز ذلك على شهادات: "درب مولاي الشريف الغرفة
السوداء" لجواد مديدش، و"تحت ظلال للاشافية" لإدريس بويسف الركاب،
و"كان وأخواتها" لعبد القادر الشاوي، و"أحلام الظلمة، سيرة معتقل
سياسي" لمحمد الأمين مشبال.
وخصص الباحث الفصل الثالث لحجاجية الكتابة الذاتية في مستوى
التحولات القيمية، واختار ثلاث سير لكتاب عاشوا تجربة الحياة الجامعية في بداية
السبعينيات من القرن الماضي، وانحدروا من مناطق مختلفة من المغرب، وانخرطوا في
الحركة الطلابية المطالبة بالتغيير، وعاشوا تجربة الاعتقال، وكانوا شهودا فاعلين
في الحياة الثقافية والجامعية، وهذه السير هي: سيرة "زمن الطلبة
والعسكر" لمحمد العمري، وسيرة "وتحملني حيرتي وظنوني" لسعيد
بنكراد، وسيرة "جمر تحت الجلد" لمحمد أقضاض. وركز في تحليل هذه السير
على مستويات الحجاج المتنوعة في التعبير عن التحولات القيمية التي شهدها المجتمع
المغربي، لاسيما في مستوى ذاكرة جيل السبعينيات، وبحث في هذه الذاكرة الجماعية،
انطلاقا من الأطر الاجتماعية للذاكرة الفردية، مثل؛ الانتماءات الفكرية لهذا
الجيل، واختياراته الإيديولوجية، وارتباط هذه السير بالمناطق التي ينحدر الكتاب
منها، وبالقيم التي تشبعوا بها.
وقد
أجمع أعضاء اللجنة على اعتبار العمل المنجَز إضافة نوعية للبحث الأكاديمي،
وللمكتبة الجامعية، وأثنوا على المجهود الذي بذله الباحث.
[1]
- حوار مع محمد الولي، "حياة الشخص أقرب مادة قابلة للصياغة والحبكة
الحكائيتين"، أجراه محمد عبد الغني، جريدة الأخبار، عدد 28 يناير 2022.
0 تعليقات
السلام عليكم و مرحبا بكم يمكنكم التعليق على أي موضوع ،شرط احترام قوانين النشر بعدم نشر روابط خارجية سبام أو كلمات مخلة بالآداب أو صور مخلة.غير ذلك نرحب بتفاعلكم مع مواضيعنا لإثراء الحقل التربوي و شكرا لكم.