البلاغي محمد مشبال في كلمة توجيهية لطلبة الدكتوراه بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالجديدة: التحليل البلاغي يصنع شخصيتكم وتميزكم، وبلاغة الخطاب وفق الأجناس دليلكم إلى السداد التحليلي
متابعة نورالدين الطويليع
شدد الدكتور محمد مشبال، أستاذ
البلاغة وتحليل الخطاب بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بتطوان في لقاءٍ، نظمه
مختبر علوم اللغة والخطاب والدراسات الثقافية التابع لكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالجديدة خلال الأسبوع المنصرم، شدد في كلمة توجيهية لفائدة طلبة
الدكتوراه والماستر، على ضرورة إكثار الطالب من تحليل النصوص باختلاف أنواعها، معتبرا
ذلك مدخلا أساسيا وضروريا لصناعة شخصية الباحث، وإكسابها التميز والتفرد، مضيفا أن
التحليل خزانٌ، يجعلنا نضيف ونبدع ونستمر في العطاء، ودعا المتحدث إلى ضرورة التخلص
من الفكرة الخاطئة التي تقلل من أهمية التحليل، وتخلع عنه البُعْدَ التثقيفي،
وتنظر إليه بوصفه مضيعة للوقت، وعَقَّبَ على هذا الرأي، معتبرا أن الإكثار من
تحليل النصوص يجعلنا نتعلم، ونستفيد مما نقرأ، ونتجاوزه و نتحرر منه في الوقت نفسه،
ونظل وإياه على مسافة معينة، دون أن ننصهر فيه أو نذوب.
وبخصوص آليات هذا التحليل
وضوابطه وإجراءاته، أكد الدكتور محمد مشبال على ضرورة الأخذ بمقاربة النوع التي
سماها "بلاغة الخطاب وفق الأجناس"، وأحال، في سياق الإقناع بوجهة نظره،
على مشروعه البلاغي الذي دشنه بكتاب"مقولات بلاغية في تحليل الشعر" الذي
كتبته في العشرينيات من عمره، يقول بهذا الصدد: " مازلت أجد نفسي في هذا
الكتاب، ما سأقدمه الآن هو مجموعة من الأفكار التي بدأت تتشكل منذ هذا الكتاب
الصغير الذي أحبه كثيرا، وقد ازددت حبا له عندما كبرت، قلت: يا إلهي!، هل أنا الذي كتبت هذا الكتاب؟، لم أصدق الأمر، بمعنى أن ما يخرج
من أيدينا في مرحلة مبكرة هو صناعة فيها مجموعة من المقومات، لا تتوفر لاحقا. منذ
هذا الكتاب وحتى الكتاب الأخير الذي أشتغل عليه الآن، وهو يحمل عنوان "بلاغة
الأجناس السردية"، فأنا أتحرك في مجال علاقة البلاغة بالأجناس".
وفي سياق ضبط التعامل مع
المفاهيم أكد المتحدث أن البلاغة ليست علما منمطا مقننا، يفرض علينا الخضوع له،
ويجبرنا على عدم الانحراف عنه، بل هي مجموعة من التقنيات، تحدث فيها السكاكي وحازم
والجرجاني، وكل منهم خاض في البلاغة على طريقته، وحتى أرسطو، يقول المتحدث، عندما
تحدث في الخطابة، فقد كان يتوجه إلى الخطيب، وكيف يكون مقنعا، ففي كتابه لا يوجد
تحليل نص خطابي على الإطلاق، إنما ترسيم لمجموعة من المفاهيم التي تحقق الإقناع، فالتحليل
البلاغي الحجاجي، حسب المتحدث، لم يكن مع
أرسطو، ولم يكن حتى مع كتب البلاغة الكلاسيكية، هذا التحليل جاء معاصرا، وحتى
الكتب البلاغية العربية القديمة كان تحليلها محدودا لمجموعة من الآيات القرآنية
الكريمة، أو الأبيات الشعرية.
ولفت المحاضر الاهتمام إلى
وجوب تطعيم المفاهيم القديمة بالجديد، مشددا على ضرورة انطلاق الباحثين، لا من
البلاغة، بل من المفاهيم التي تشكلت في ما يسمى بعلم البلاغة، وفي ما يسمى بكتب
البلاغة، والتعامل مع البلاغة بوصفها مفهوما ديناميا ومفهوما متحولا، وليس منهجا
محدد المعالم والحدود.
ووجه المتحدث من يريدون أن
يطبقوا التحليل البلاغي على مختلف النصوص، وعلى النصوص الأدبية المعاصرة، إلى الانفتاح
على المناهج النقدية الحديثة، يقول بهذا الصدد: "ما دمت في لقاء تكويني، أنبه
الطلبة إلى ضرورة الوعي بهذه الأمور، لأن البلاغة وحدها لا تنفع إطلاقا، بل هي لا
تنفع حتى في الخطاب المرجعي العادي، لكي نحلل اللوغوس والإيتوس الباتوس في النصوص
الخطابية لابد من أن نستمد المفاهيم من الحقول الأخرى، نحن نحتاج إلى ما يمكن أن
يسمى بتداخل الاختصاصات، بمعنى أننا عندما نريد تجنيد البلاغة، لكي تواجه نصوصا
أدبية أو حجاجية ينبغي أن نجعلها في مفترق الاختصاصات، وننفتح على مجالات معرفية
أخرى، استفادت بدورها من البلاغة، ولابد للبلاغة أن تستفيد منها هي كذلك"، وعطفا
على ذلك أشار الباث إلى أن مشروعه ينبني على هذا الأساس، فهو لا يُعنى ببعث
البلاغة من مرقدها، ولا يتغيا إحياء علم ماتَ، أو إنعاش جسد ميت، وإنما يقوم على
الإفادة من البلاغة ومختلف المناهج النقدية في تحليل النصوص، في إطار تصور يتأسس على الجواب عن السؤال الآتي: كيف نحول البلاغة من
مجرد تقنيات، تصف النص البليغ إلى جهاز يحلل النصوص؟.
وفي معرض شرح الخطوط العريضة للمشروع البلاغي
المشبالي، تحدث المحاضر عن البلاغة بوصفها فعلا حجاجيا، يحصل من خلال ثلاثة مفاهيم،
وضعها أرسطو، وهي: الإيتوس ــ الباتوس ــ اللوغوس، وحث الطلبة الباحثين على التحلي
بالذكاء التحليلي، وبفضيلة التفكير الحر في التعامل مع النصوص، واستحضر بهذا الصدد
تصور أرسطو للإيتوس الذي يتأسس على دراسته في النص دراسة جوانية، بعيدا عما يتعلق
بشخصية الخطيب خارج النص، على اعتبار أن الإيتوس هو المتكلم كما يظهر في الخطاب،
لا كما نعرفه، معلقا على ذلك بأنها هذا مستحيل في الخطابات المرجعية والخطابية،
ويدعونا إلى ألا نثق في أرسطو ثقة عمياء، فالنصوص المرجعية لا يمكن أن ينفصل فيها
الإيتوس الداخلي عن الإيتوس الخارجي، ومعرفتنا السابقة بالخطيب تتدخل في عملية
الإقناع، لا يمكن أن يقنعنا خطيب سياسي نحن نشك في شخصيته، أو نعرف أن سيرته سيئة،
مهما حاول أن يقدم العكس في خطبته.
ودعا المتحدث بهذا الصدد إلى
التمييز بين النص المرجعي، وبين النص التخييلي أثناء الاشتغال على تحليل الإيتوس،
مشددا على ضرورة استحضار مقولة النوع التي تعني وضع النص في إطاره النوعي قبل
مباشرة التحليل، ففي نص سردي يمكن الاقتصار على الإيتوس الداخلي، لأننا لا نعرف
الشخصيات، وكل الصفات والسمات التي نستخلصها هي مستقاة من طبيعة النص.
وفي سياق السعي إلى تحقيق الراهنية والدينامية
التحليلية دعا المتحدث إلى إعادة النظر في ماهية الإيتوس، وعدم الاقتصار فيه على
صفات السداد والبر والفضيلة التي جاء بها أرسطو، مشددا على أن الأمر نفسه يسري على
الباتوس الذي هو مجموعة من الانفعالات، انفعالات القارئ، أوانفعالات السامع، ويعتبره
أرسطو وسيلة لإثارة عواطف الجمهور، عواطف السامعين، وتساءل المتحدث بهذا الصدد
قائلا: "عندما نحاول أن ندرس الآن العواطف في رواية، في نص روائي، هل نحصر
أنفسنا في العواطف والانفعالات التي ذكرها أرسطو؟، مستحيل، إذن لابد أن نوسعها
لتشمل عواطف النص التخييلي، ما معنى هذا؟، معناه أنه ينبغي أن ننفتح على الدراسات
الجمالية المرتبطة بدراسة الأنماط، وخصوصا نظرية التلقي، وهذا ليس تلفيقا على
الإطلاق، هذا ينم عن شيء مهم، هو أن المناهج تتكامل، والمناهج لن تحقق قطائع،
فالشكلانيون الروس عندما تحدثوا عن الأدبية، هل كانوا يقطعون مع البلاغة قطيعة
نهائية؟، مستحيل، في كل المناهج النقدية المعاصرة توجد بلاغة".
وألح المحاضر على ضرورة
تكييف التقنيات البلاغية حسب النوع الخطابي المدروس، يقول بهذا الصدد: "حينما
أحاول أن أطبق مفهوم الباتوس على النص الروائي، فكأنني أقحم أرسطو في نص لم يفكر
فيه، في نص لا ينسجم معه، أرسطو اشتغل على نصوص مرجعية ونصوص خطابية شفهية إقناعية
خالصة، وليست نصوصا تخييلية، إذن لا بد من توسيع مفهوم الانفعالات، ليس فقط الغيرة
والشفقة وغير ذلك، ولكن انفعالات أخرى، مثل الانفعالات الجمالية، بمعنى أننا يجب
أولا أن نوسع مفهوم الباتوس، ثانيا أننا يجب أن نوسع التقنيات والمؤشرات المحدثة
للباتوس، لأن أرسطو لا يذكر هذه التقنيات التي تحدث الباتوس، ولا يشير إليها، ولا
البلاغة العربية ربطت بين الباتوس وبين هذه التقنيات، لكن هناك اجتهادات حديثة لتحديد
هذه التقنيات التي تحدث الانفعالات، نحن حينما ندرس الانفعالات في النص فنحن
ندرسها كاستراتيجيات خطابية، كوسائل خطابية أو لغوية أو حجاجية بشكل عام، ندرسها في
النص، ولا ندرسها عند المتلقي، لا ندرس كيف حدث هذا الانفعال؟ وما الوسائل لتي
أحدثته؟، عندما يتعلق الأمر بالنص التخييلي يجب توسيع هذه الوسائل، لأنه، لا
اللسانيين ولا البلاغيين كانوا يفكرون في الخطاب العادي"، وأشار المتحدث إلى إمكانية أن تكون التقنيات السردية ذاتها محدثة
لهذه الانفعالات.
وأكد الدكتور محمد مشبال على
حق الباحث في الاشتغال على بلاغة الرواية، دون أن يملك أحد الحق في اتهامه بالخروج
على أرسطو، مضيفا إلى أنه ينبغي على الطالب الذي يشتغل في الرواية أو في النصوص
السردية أن يتعلم من السرديات التي ضبطت وجهات النظر، وضبطت مجموعة من المصطلحات
مثل التبئير والزمان والمكان، لكن دون إسراف، محيلا على بعض التجاوزات التحليلية
التي ترى في المكان والزمان حجة في ذاتهما، وعقب على ذلك قائلا: "كيف يمكن أن
يكون كل منهما حجة؟، مستحيل، نعم يمكن أن يكون المكان حجة عاطفية في نص مرجعي
خطابي، في اللغة اليومية، في ملفوظات عادية، حدث مؤلم في حد ذاته هو مؤلم، هناك
أحداث مؤلمة وأحداث مفرحة، الحدث في حد ذاته مؤشر على إحداث العاطفة، لكن هذا
الحدث إذا حدث في مكانٍ ما، له تأثير علينا، مثلا جريمة وقعت في مسجد، ليس هي أن
تقع في مكان آخر، هذا يضاعف من انفعالاتنا وتأثرنا. في النصوص المرجعية يمكن أن
نقول إن المكان حجة، لكن في النص التخييلي لا يمكن أن نقول إن المكان هو بحد ذاته
حجة، وإنما هناك وسائل وصف هذا المكان، تقديم هذا المكان، هذا الذي يكسبه حجاجيته".
ودعا المتحدث، في سياق
الحديث عن ثنائية الإيتوس والباتوس، واستثمارهما في تحليل النصوص، إلى الأخذ بمقولة
النوع كمعيار، وكضابط من الضوابط الموجهة للقراءة والتحليل، وضرب مثالا على ذلك
بتحليل الموعظة الدينية التي تقتضي من المحلل أن يدرك ماهيتها، وألا يتوه في البحث
عن الإيتوس داخلها، لأنها "ببلاغتها النوعية مؤسسة على إثارة العواطف، وليست موضعا للحجاج بأخلاق الخطيب، ولكن يمكن أن
تسخَّر صفات الخطيب تسخيرا عاطفيا، وليس
أخلاقيا، يمكن للخطيب أن يجهش بالبكاء، وهذا يدخل في الباتوس، بل أكثر من هذا، بعض
البلاغيين يوصون الواعظ بألا يثير اهتمام المتلقين إلى ذاته، لأنه مجرد واسطة
بينهم وبين الله، الخطاب الوعظي تعبير عن الله، فالأقوال التي يقولها الواعظ هي
حجة في ذاتها، ولا تحتاج إلى إيتوس"، وهذا بخلاف الخطاب السياسي الذي يعد الإيتوس
ركنا أساسيا من أركانه، ويفرض على المحلل نفسَه، ونبه المتحدث إلى التنويعات الداخلية
للخطاب التي تجعل لكل نوع إيتوسه الخاص، وضرب المثل لذلك بالمناظرة السجالية
المتلفزة التي تعد موقفا تواصليا يتأسس على "بلاغة الانتصار، والسجال هو أن
أتغلب عليك، أو أنتصر عليك سياسيا، وأحافظ على وجهي نحو الجمهور الذي يشاهدني، إذن
الإيتوس هنا يتأسس على أن أظهر بمظهر الغالب أمام الجمهور، لكن دون أن أفقد رصيدي
الأخلاقي، دون أن أتورط في العنف، تورطي في العنف يفقدني رصيدي، العنف هنا غير
مطلوب، لأننا في سياق نوعي خاص محكوم بطبيعة المتلقي المتنوع".
وأشار المتحدث، في سياق التذكير
بوجوب التحلي بالذكاء التحليلي إلى خلو خطابات سياسية من الإيتوس، رغم ما قد يظهر
في ثناياها من أنه كذلك، وأعطى مثالا بخطبة الحجاج بن يوسف الثقفي التي توعد فيها
أهل العراق، ف"هذا النص لا وجود للإيتوس فيه، الإيتوس يتأسس على كسب الثقة،
هنا تنصرف الخطبة إلى تخويف المتلقين وترهيبهم، هنا نحن أمام باتوس وليس إيتوس،
حتى لو تعلق الأمر بالذاتي".
وختم الدكتور محمد مشبال
محاضرته بالتأكيد على أن ما يسمى بمقولة النوع يقتضي إعادة بناء مفاهيم البلاغة، كمفهوم
الباتوس الذي وَسَّعَهُ، في إطار مشروعه البلاغي، لكي يشمل ما هو جمالي، ولا يتوقف
عند ما هو سيكولوجي محض، كما وسع من مفهوم التقنيات التي تحدث الباتوس، حسب النوع
المدروس، مشيرا إلى أن هناك تقنيات مستوحاة من الطبيعة النوعية لهذه النصوص، فلا
يمكن أن نتعامل مع الرواية كما نتعامل مع خطاب شعري، فالحجاج في الخطاب الشعري يجب
أن ينصب على ما يكسب هذا النص شعريته الحجاجية.
وبعد انتهاء المحاضر من
إلقاء محاضرته، تناولت الكلمة كل من الدكتورتين لطيفة الأزرق ونعيمة الواجيدي،
فأكدتا على قيمة المحاضرة، باعتبارها درسا تكوينيا متميزا ودقيقا للطلبة الدكاترة،
وحلقة ضمن مشروع علمي، سطره مختبر البحث في علوم اللغة والخطاب والدراسات الثقافية
منذ إنشائه.
وأعطيت الكلمة بعد ذلك
للطلبة الدكاترة الذي قدموا مداخلات، تناولت بالنقد والتحليل المنجز البلاغي
للدكتور محمد مشبال، وقد تفاعل معها إيجابيا، وعبر عن إعجابه بمستواها العلمي
وقيمتها الأكاديمية، ونشر بهذا الصدد تدوينة في حائطه الفيسبوكي، جاء فيها:" في
طريق عودتي من مدينة الجديدة إلى تطوان، أوجه رسالة شكر للدكتور عز العرب إدريسي أزمي
مدير مختبر البحث في علوم اللغة والخطاب والدراسات الثقافية بكلية الآداب بالجديدة،
وللسادة الأساتذة الكرام د.لطيفة الأزرق، ود. نعيمة الواجيدي، ود.رحمة توفيق، ود.
محمد فوزي الذين وجهوا لي دعوة للمشاركة في يوم دراسي تكويني لطلاب الدكتوراه.
وبهذه المناسبة أشيد بالجهد العظيم الذي يبذله هؤلاء الجنود في تكوين طلاب الماستر
والدكتوراه تكوينا علميا رفيع المستوى. وإني لأشهد أن مستوى العروض التي استمعت إليها
فاق توقعاتي بمسافة كبيرة. كنت قبل أيام أعبر عن تشاؤمي من انحدار المستوى في
كلياتنا، والآن أعود إلى مدينتي بحكم آخر مختلف. إن ما صنعه هؤلاء الأساتذة، وعلى
رأسهم الدكتورة لطيفة الأزرق، في تجديد الدرس الأدبي بشعبة الأدب العربي، لشيء
مذهل. هنيئا لكم، وهنيئا للثقافة المغربية بهؤلاء الشباب".
0 Comments
السلام عليكم و مرحبا بكم يمكنكم التعليق على أي موضوع ،شرط احترام قوانين النشر بعدم نشر روابط خارجية سبام أو كلمات مخلة بالآداب أو صور مخلة.غير ذلك نرحب بتفاعلكم مع مواضيعنا لإثراء الحقل التربوي و شكرا لكم.