دراسة مقارنة من خلال مجالات تقاطع الاختصاصات والجهات القضائية بالمغرب
الجيلالي شبيه - أستاذ التعليم العالي بكلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية - جامعة القاضي عياض - مراكش
في معنى القضاء
في الواقع القضائي بصفة عامة، وفي الواقع القضائي الحالي بالمغرب على وجه الخصوص، ليس فقط القضاء الإداري والقضاء الدستوري اللذان يلتقيان، وفي العديد من المجالات كذلك، بل كل الجهات القضائية معنية، وتوجد في نفس الوضعية·
لكن لماذا؟ إن الجواب على هذا السؤال المحدد يأتينا من تعريف القضاء نفسه· فهو، مبدئيا، سلطة فض النزاعات وحماية الحقوق والحريات ومنع الضرر· فالقضاء هو، من حيث المبدأ، الحق في قول الحق · الإلتزام بالفصل بين الطرفين بالحق· الحق في القول، قضاء، أن هذا الفعل أو هذا الأمر أو هذا الحدث غير عادل، غير منصف· الحق في القول، قضاء، أن هذا الفعل أو هذا الأمر مدان، مستنكر، معاب، معاقب عليه· أو العكس أن هذا الفعل أو هذا الأمر أو هذا الحدث ليس مدانا، ليس مستنكرا، غير معاب، ولا يمكن المعاقبة عليه، لأنه لا يستحق عقابا ·
وبالمفهوم العملي، الواقعي، أو البراكماتيكي، فالقضاء مؤسسات وقواعد اجتماعية ناتجة عن سلطة حاكمة، تهدف إلى تكريس وضع اجتماعي-سياسي معين · والقضاء قديم قدم التجمع الإنساني المنظم، وقد ظهر في حضارة ما بين النهرين، أو بلاد الرافدين (العراق حاليا)، منذ أكثر من ستة آلاف سنة · وفي تاريخ الفكر الفلسفي القضائي، يقول الفيلسوف اليوناني هيراكليت (2600 سنة): " لو لم يكن الظلم (أو اللاعدالة) لجهلنا حتى إسم العدالة نفسها" ·
والقضاء إجمالا، ومن خلال القضاء، العدالة، فقد تكون العدالة إصلاحية تأديبية، وقد تكون عقابية، جزرية (بدنية أو مالية)، وقد تكون كذلك توزيعية إنصافية، وقد تكون أخيرا تبادلية، أو تعاوضية· والغاية من القضاء، أقول الغاية، لأن الفرق يظل شاسعا بين ما ينبغي أن يكون وما هو كائن بالفعل، هو احترام قواعد العيش الجماعي، والتوازن والاستقرارية في العلاقات الاجتماعية، أي الحفاظ على النظام العام والمصلحة العامة، ويعاقب على المخالفة، ويحمي الضعيف، والمهضومة حقوقه، أي حماية الحقوق والحريات وتأمين المرافق العمومية·
وهذا بالضبط هو مضمون القضاء الإداري والقضاء الدستوري والقضاء العادي، مدنيا كان أم جنائيا، تجاريا أم اجتماعيا، ونفس الشيء بالنسبة للقضاء الدولي الذي يهتم بملاحقة ومحاكمة الأفراد المتهمين بالجرائم ضد الإنسانية وانتهاكات حقوق الإنسان الطبيعية، كالحق في الحياة، خاصية أساسية لكل كائن حي ·
إذن فالقضاء، ومن خلال القضاء، العدالة، يجب أن يكون هذا القضاء، وأن تكون هذه العدالة، أخلاقية ولصالح المساواة، لصالح الإنصاف والحرية، وليس لفائدة نظام إيديولوجي مصلحي، لفائدة نظام قمعي مهيمن· وعدالة القضاء الوضعي، إدارية كانت أم دستورية، عادية أم دولية، تقاس بحسب طبيعة سيرها وجريانها ونتائجها، أي بحسب نسبة أو درجة إنصافها وهدوئها، حكمتها وتجريدها، كفئها وعدم انحيازها لطرف معين خلال البت في القضايا والنوازل المعروضة عليها ·
ولهذا فيجب أن تراعى في القضاء، دستوريا كان أم إداريا، عاديا أم دوليا، ماليا أم جنائيا، المبادئ الأخلاقية الإنصافية في الحياة الاجتماعية المبنية على احترام حقوق الأخرين، أشخاصا طبيعية أم اعتبارية، وطنية أم دولية، من هذا العرق أو ذاك، من هذا اللون أو ذاك، من هذا الجنس أو ذاك، خاضعة للقانون الطبيعي أم للقانون الوضعي، للقانون العرفي أم للقانون المكتوب، للقانون العام أم للقانون الخاص، للقانون الدولي أم للقانون الداخلي ·
وعلى هذا الأساس نحاول مقاربة هذا الموضوع "دراسة مقارنة من خلال مجالات تقاطع الاختصاصات والجهات القضائية بالمغرب" انطلاقا من هذه المعطيات وارتكازا على هذه المحاور الثلاث:
- مجالات تقاطع الاختصاصات والجهات القضائية الدستورية والإدارية والعادية والدولية على مستوى التسلسل الهرمي للقواعد
- مجالات تقاطع الاختصاصات والجهات القضائية الدستورية والإدارية والعادية والدولية على مستوى المادة القانونية
- مجالات تقاطع الاختصاصات والجهات القضائية الدستورية والإدارية والعادية والدولية على مستوى الهيئات القضائية ودرجات التقاضي
أولا - مجالات تقاطع الاختصاصات والجهات القضائية الدستورية والإدارية والعادية والدولية على مستوى التسلسل الهرمي للقواعد
إن تراتبية القواعد القانونية، أي إلزامية احترام القواعد القانونية الدنيا للقواعد القانونية العليا، ليست علميا كما يدعي جل الفقهاء أنها من تركيب الفقيه هانس كلسن (1881 – 1973) في كتابه المشهور " النظرية الصرفة للقانون" الصادر سنة 1934، نسخة منقحة ومعمقة سنة 1960· بل إن أصلها الحقيقي يرجع إلى القرن السابع ميلادي، أي ما يناهز أربعة عشر قرنا، وذلك من خلال تدرج القواعد كما جاءت في مصادر التشريع الإسلامي (الكتاب، السنة، الإجماع، القياس، الاستحسان، المصالح المرسلة، العرف، سد الذرائع، الاستصحاب، وشرع ما قبل الإسلام فيما لا يخالفه)· بحيث نجد أن هذه التراتبية القواعدية ترتكز على القوة الإلزامية التي تتمتع بها القاعدة الشرعية الأعلى مرتبة والإجراءات المتبعة لتطبيقها من القاعدة الشرعية الأقل درجة منها · أليس القرآن نفسه أو الكتاب دستورا بوصفه يحتل المرتبة الأعلى في الهرم التشريعي ؟ وما دام الدستور بصفة عامة هو القانون الأساسي الأسمى في الجماعة الذي ينظم شكلها وطرق حكمها وتسيير سلطاتها وعلاقتها مع سكانها، حقوقهم وواجباتهم، ومع الجماعات الأخرى، أفلا يمكن اعتبار كل الأنظمة التاريخية التي كانت لها قوانين راسخة تحدد طبيعتها وهويتها والعلاقات الإجتماعية الممارسة داخلها كانت لها دساتير بالمفهوم النبيل للكلمة مثل النظام القانوني الرافدي والهندي والصيني والمصري والإغريقي والروماني والفرسي والإسلامي···
ويرتكز مفهوم دولة القانون، قانون "وشاورهم في الأمر"، القانون العادل والمنصف، على هذا المبدأ التسلسلي للقواعد واحترامه· ودولة القانون تعني احترام هذه التراتبية، وسمو القاعدة القانونية على السلطة السياسية، واحترام هذه القواعد بالنسبة للجميع، حكاما أو محكومين، إنما "أمرهم شورى بينهم"، وفصل أو توازن السلط واستقلالية القضاء وانحياديته في سير المحاكمات ·
فمثلا إذا كان القضاء الدستوري سلطة قضائية تجد مشروعيتها في مهمة الدفاع عن الحقوق والحريات العامة وبالتالي ضمان الديمقراطية ودولة القانون الحق فإن هذه المشروعية تتقلص بسبب طريقة تعيين قضاة المحكمة الدستورية· ونفس الشيء بالنسبة للقضاء الإداري، فإذا كان هذا القضاء يعتبر هيأة تناط بها مهمة التوفيق بين الدفاع عن حريات وحقوق الأفراد، كما جاء في الدستور، وبين الدفاع عن النظام العام، نفس المرجع، والدفاع عن القيم المجتمعية في البلد المعني بالأمر (المغرب في هذه الحالة) فكيف يمكن لهذا القضاء القيام بهذه المهمة الصعبة إذا كان الوضع لا يسمح، وإذا كانت تنقصه الصرامة والاستقلالية، ناهيك عن الانحيادية والنزاهة وروح المسؤولية ·
وتراتبية القواعد القانونية هي دعامة أساسية في الدول الديمقراطية الحقة، أي تلك الدول التي نظامها القانوني يضمن بالفعل التماسك الاجتماعي وصرامة القواعد الضبطية، ومراقبتها قضاء، ومرونتها وسلاستها إن اقتضى الحال· وهي تنبني على هذا المبدأ التسلسلي القائم نفسه على مرتبة السلطة - المعينة أو المنتخبة، الوطنية أم الترابية، الداخلية أم الخارجية - التي أصدرت القاعدة القانونية والذي يقتضي احترام القاعدة الأقل درجة للقاعدة الأعلى درجة، وتطبيقها أدق تطبيق· وفي حالة تعارض القاعدتين تسمو القاعدة الأقوى على القاعدة الأضعف منها· ونفس الشيء بالنسبة لتنازع الاختصاص، الإيجابي أم السلبي، الإقليمي أم المادي، الكمي أم الكيفي، الحالي أم الزمني، تسمو المحكمة الأقوى أو الأعلى درجة على المحكمة الأضعف أو الأقل درجة منها· وتأتي في نفس السياق قواعد المسطرة الجنائية المقارنة أولا ثم الوطنية تانيا عندما تأكد الأولى أنه إذا تم رفع الدعوى إلى المحكمتين المدنية والجنائية وأن الدعويين يتعلقان بالوقائع نفسها، يتعين على القاضي المدني تعليق حكمه في انتظار الحكم الجنائي، وتتخذ الوقائع نفس الإجراء إذا تعلق الأمر بالقاضي الإداري ·
وهكذا فالمراسيم والقرارات الإدارية ملزمة باحترام القوانين التنظيمية والعادية، والمعاهدات والاتفاقيات والدستور· ويستلزم هذا الارتباط القوي بين فروع القانون ارتباطا مماثلا بين الجهات القضائية ·
فالرقابة القضائية التي ترتكز على الاجتهاد القضائي وعلى المبادئ العامة للقانون التي قد تكون عنصرا من الاجتهاد القضائي تسمو على السلطة التنظيمية وتمارس على هذا التدرج الشكلي للقواعد عن طريق الدعوى الأصلية، أي من خلال تحريك الدعوى بداية، أو عن طريق دعوى الدفع أثناء سريان الدعوى الأصلية· فإذا رجعنا مثلا إلى المادة 44 من القانون رقم 41.90 الصادر بتاريخ 1993 المحدث بموجبه محاكم إدارية نجدها تنص بوضوح العبارة على إلتقاية اختصاصات وجهات قضائية مختلفة· "إذا كان الحكم في قضية معروضة على محكمة عادية غير زجرية يتوقف على تقدير شرعية قرار إداري وكان النزاع في شرعية القرار جديا، يجب على المحكمة المثار ذلك أمامها أن تؤجل في القضية وتحيل تقدير شرعية القرار الإداري محل النزاع إلى المحكمة الإدارية أو إلى محكمة النقض بحسب اختصاص كل من هاتين الجهتين القضائيتين···ويترتب على الإحالة رفع المسألة العارضة بقوة القانون إلى الجهة القضائية المحال إليها البت فيها"·
وتضيف المادة 44 في فقرتها الثانية "للجهات القضائية الزجرية كامل الولاية لتقدير شرعية أي قرار إداري وقع التمسك به أمامها سواء باعتباره أساسا للمتابعة أو باعتباره وسيلة من وسائل الدفاع"·
ونفس المسألة العارضة نجدها على مستوى القضاء الدستوري في مادة الحقوق والحريات بحيث ينص الفصل 133 من الدستور الحالي 2011 "تختص المحكمة الدستورية بالنظر في كل دفع متعلق بعدم دستورية قانون، أثير أثناء النظر في قضية، وذلك إذا دفع أحد الأطراف بأن القانون، الذي سيطبق في النزاع، يمس بالحقوق وبالحريات التي يتضمنها الدستور" ·
وفي المقتضيات الدستورية المتعلقة بالتصدير نجد أن المغرب يؤكد ويلتزم بجعل "الاتفاقيات الدولية، كما صادق عليها، تسمو فور نشرها، على التشريعات الوطنية، والعمل على ملاءمة هذه التشريعات، مع ما تتطلبه تلك المصادقة "· وهنا يمكن التساؤل، ما هي القواعد القانونية التي تتمتع بقوة إلزامية أعلى من غيرها وبالتالي يجب احترامها، قانونا وقضاء، ومطابقة باقي القواعد لها الأدنى درجة منها، هل هي المقتضيات الدستورية أم قواعد الاتفاقيات والمعاهدات الدولية؟ وبالتالي هل يمكن ترتيب هذه القواعد على هذا الشكل (الاتفاقيات والمعاهدات الدولية، الدستور، القوانين التنظيمية، القوانين العادية، المراسيم، القرارات، العرف، العقد، القانون الداخلي للمنظمة، القضاء والمبادئ العامة للقانون، الفقه) أم على هذا الشكل (الدستور، الاتفاقيات والمعاهدات الدولية، القوانين التنظيمية، القوانين العادية، المراسيم···؟)·
عموما، تنحصر مهام القاضي، مهما كانت صفته وطبيعة مهامه، في المطالبات والدفوعات المقدمة من الأطراف ، وتنحصر كذلك هذه المهام في مراقبة مطابقة القوانين الدنيا للقوانين العليا· ونحن دائما، والحالة هذه، نفكر ونحلل ونعلل في هذا السياق انطلاقا من منطق قاعدي تدرجي ديمقراطي، أي أن القاعدة العليا عادلة ومنصفة تحديدا· وهكذا فإذا انطلقنا من المراقبة القضائية لمطابقة القواعد القانونية الأدنى درجة للقواعد القانونية الأعلى درجة فسيكون ترتيب هذه القواعد القانونية ومرتبة السلطات التي أصدرتها كالتالي:
Le contrôle de la conformité des règlements à la loi ou contrôle de légalité (bloc de légalité et exception d’illégalité), le contrôle de la conformité des lois à la constitution ou contrôle de constitutionnalité (bloc de constitutionnalité et exception d’inconstitutionnalité), le contrôle de la conformité des lois aux conventions, traités et accords internationaux ratifiés ou contrôle de conventionnalité (bloc de conventionnalité et exception de conventionnalité).
ونجد هذه التراتبية كذلك بين درجات التقاضي أمام قضاء القرب والمحاكم الابتدائية ومحاكم الاستئناف ومحكمة النقض، بحيث يختص قضاء القرب، كما حدد هذا الاختصاص قانون 5 سبتمبر 2011 المادة 10 منه، "في الدعاوى الشخصية والمنقولة التي لا تتجاوز قيمتها 5000 درهم، ولا يختص في النزاعات المتعلقة بمدونة الأسرة والعقار والقضايا الاجتماعية والإفراغات"· وتختص المحاكم الابتدائية في القضايا المعروضة عليها ابتدائيا، ومحاكم الاستئناف (قانونا وواقعيا) في النوازل المرفوعة إليها استئنافا، وتراقب محكمة النقض قرارات المحاكم الابتدائية والاستئناف من حيث مطابقتها للقانون الجاري به العمل على الصعيد الوطني · بحيث لا يتمثل دور محكمة النقض في النظر من جديد في الوقائع، بل تقتصر مراقبتها على الاختيار العادل للقانون المطبق، طريقة تأويله وتفسيره والأسباب التي أدت إلى هذا النوع من الأحكام ·
ثانيا مجالات تقاطع الاختصاصات والجهات القضائية الدستورية والإدارية والعادية والدولية على مستوى المادة القانونية
إن المادة القانونية بصفة عامة، دستورية كانت أم إدارية، مالية أو قضائية، مدنية أم تجارية، جنائية أو دولية، تتقاطع بعضها البعض، تلتقي بعضها بالبعض الآخر، تتشارك وتتماسك بعضها البعض، إلى أقصى حد، وبالتالي تقسيمها إلى عامة وخاصة، أو داخلية وخارجية، أو مسطرية وجوهرية، أو طبيعية ووضعية، أو موضوعية وذاتية، لا أساس له علميا بتاتا· فأكثر ما يمكن أن نقوله في حق هذه الانشطارية الثنائية أنها طريقة في الدراسة والتحليل بيداغوجية ديداكتيكية اختزالية، ومفهوم خاطئ للبحث العلمي الحقيقي، وفلسفة منهجية ورثت، خاطئة وتجوزت، تختزل العمل رغم خصوبته إلى أدناه، وتقزم المضمون رغم غناه إلى فقره، تعود عليها للأسف التيار الفرانكفوني· وهذا لا يعني أني من أتباع التيار الأنجلوسكسوني، بل أفضل الطريقة العلمية التي تنطلق من الموضوع نفسه، وتهتم، في التقسيم، بطبيعة الموضوع لا غير·
فإذا تصفحنا مثلا مضمون الدستور الحالي (2011) نجده يتناول المادة الجنائية في الفصل 23 حيث يؤكد "لا يجوز إلقاء القبض على أي شخص أو اعتقاله أو متابعته أو إدانته إلا في الحالات وطبقا للإجراءات التي ينص عليها القانون" ويضيف نفس الفصل في الفقرة الثانية "الاعتقال التعسفي أو السري، والاختفاء القسري، من أخطر الجرائم، وتعرض مقترفيها لأقصى العقوبات"· وفي الجانب المالي، الفصل 36، "يعاقب القانون على المخالفات المتعلقة بحالات تنازع المصالح، وعلى استغلال التسريبات المخلة بالتنافس النزيه، وكل مخالفة ذات طابع مالي"·
ويضيف نفس الفصل، الفقرة الثانية منه، في المادة الإدارية والمالية والزجرية "على السلطات العمومية الوقاية، طبقا للقانون، من كل أشكال الانحراف المرتبطة بنشاط الإدارات والهيئات العمومية، وباستعمال الأموال الموجودة تحت تصرفها، وبإبرام الصفقات العمومية وتدبيرها، والزجر عن هذه الانحرافات"· وينذر جبائيا في الفصل 39 "على الجميع أن يتحمل، كل على قدر استطاعته، التكاليف العمومية التي للقانون وحده إحداثها وتوزيعها، وفق الإجراءات المنصوص عليها في الدستور"·
وفي المادتين الدستورية والسياسية ينذر الفصل 46 "شخص الملك لا تنتهك حرمته، وللملك واجب التوقير والاحترام"· لكن من جهة أخرى، يميز الفصل 118، في مجال القضاء الإداري، بين هذه الحالة وباقي الحالات الأخرى "حق التقاضي مضمون لكل شخص للدفاع عن حقوقه وعن مصالحه التي يحميها القانون" وفي الفقرة الثانية، نفس الفصل "كل قرار اتخذ في المجال الإداري، سواء كان تنظيميا أو فرديا، يمكن الطعن فيه أمام الهيئة القضائية الإدارية المختصة"·
وفي الفصل 132، تحدد اختصاصات المحكمة الدستورية، حيث تبت في مطابقة القوانين (التنظيمية والعادية) للدستور وفي صحة إنتخاب أعضاء البرلمان وعمليات الاستفتاء، وكذا الأنظمة الداخلية لغرفتي البرلمان قبل الشروع في تطبيقها · ويحتاط الفصل 134، الفقرة الثانية منه " لا تقبل قرارات المحكمة الدستورية أي طريق من طرق الطعن وتلزم كل السلطات العامة وجميع الجهات الإدارية والقضائية"· وبإمكاننا في هذا السياق أن نتساءل: هل أصبحت المحكمة الدستورية بعد أن حلت محل المجلس الدستوري في شهر يوليو 2011 تتمتع، زيادة على اختصاصاتها التقليدية، بمهمة محكمة تنازع الإختصاص، كلما تعلق الأمر بتنازع يشرك جهات قضائية عليا: نقضية ومالية، نقضية ودستورية، مالية ودستورية، إدارية وعادية، داخلية ودولية ؟
وفي مادة تدبير المال العام وانعكاساته السلبية (سوء التدبير) على المواطن، ينص الفصل 147 من الدستور: "تناط بالمجلس الأعلى للحسابات مهمة مراقبة وتتبع التصريح بالممتلكات، وتدقيق حسابات الأحزاب السياسية، وفحص النفقات المتعلقة بالعمليات الانتخابية" · بحيث تتمثل مهمة المجلس الأعلى للحسابات أساسا، بوصفه سلطة قضائية مستقلة، من حيث المبدأ، مثلها مثل باقي الجهات القضائية العليا الأخرى، في ضمان التدبير السليم للمال العام وإخبار المواطنين بطرق تدبير هذه الأموال·
إن الدول الضريبية مثل المغرب، أي الدول التي ترتكز أساسا، في تدبير اقتصادها، على الضريبة، أي على الاقتطاعات الاجبارية من أموال الملزمين، ملزمة هي كذلك بتقديم الحسابات لكيفية استعمال هذه الأموال، أموال الخواص . ويميز الفصل 107 بين السلطات الثلاث ويؤكد على استقلالية السلطة القضائية والتشريعية والتنفيذية، ويضيف الفصل 109 "يمنع كل تدخل في القضايا المعروضة على القضاء، ولا يتلقى القاضي بشأن مهمته القضائية أي أوامر أو تعليمات ولا يخضع لأي ضغط"، وينذر الفصل 114 "تكون المقررات المتعلقة بالوضعيات الفردية، الصادرة عن المجلس الأعلى للسلطة القضائية قابلة للطعن بسبب الشطط في استعمال السلطة، أمام أعلى هيئة قضائية إدارية بالمغرب"·
وفي المادة 7 من القانون رقم 41.90 المحدث بموجبه محاكم إدارية: "تطبق أمام المحاكم الادارية القواعد المقررة في قانون المسطرة المدنية ما لم ينص قانون على خلاف ذلك". وحسب المادة 8 "تختص المحاكم الادارية، مع مراعات أحكام المادتين 9 و11 من القانون (المشار إليه أعلاه)، بالبت ابتدائيا في طلبات إلغاء قرارات السلطات الإدارية بسبب تجاوز السلطة وفي النزاعات المتعلقة بالعقود الإدارية ودعاوى التعويض عن الأضرار التي تسببها أعمال ونشاطات أشخاص القانون العام، ماعدا الأضرار التي تسببها في الطريق العام مركبات أيا كان نوعها يملكها شخص من أشخاص القانون العام" فهي من اختصاص القضاء العادي· وفي المادة 10 من نفس القانون: "تطبق أمام المحاكم الإدارية قواعد الاختصاص الملحي المنصوص عليها في الفصل 27 وما يليه إلى الفصل 30 من قانون المسطرة المدنية، ما لم ينص على خلاف ذلك" في القانون المذكور أو في نصوص أخرى· واستثناء من ذلك يضيف نفس الفصل " ترفع طلبات الإلغاء بسبب تجاوز السلطة إلى المحكمة الإدارية التي يوجد موطن طالب الإلغاء داخل دائرة اختصاصها أو التي صدر القرار بدائرة اختصاصها"·
وتقوم شرعيا دعوى الإلغاء بسب تجاوز السلطة المرفوعة إلى المحاكم الإدارية على الأسباب التالية: صدور القرار موضوع النزاع من جهة غير مختصة، عيب في شكل القرار، انحراف في السلطة، انعدام التعليل، أو مخالفة القانون· ويحق لكل متضرر من قرار إداري شابه عيب من هذه العيوب الخمسة الطعن في القرار أمام الجهة القضائية الإدارية المختصة ·
وإذا تصفحنا مضمون قانون المسطرة المدنية، نجده غني بمقتضيات إدارية ومالية وجنائية··· يؤكد الفصل 25، الفقرة الثانية منه: " ولا يجوز للجهات القضائية أن تبت في دستورية القوانين"· وفي الفصل 124 " يحكم بالمصاريف على كل طرف خسر الدعوى سواء كان من الخواص أو إدارة عمومية"· وفي الفصل 152 " لا تبت الأوامر الاستعجالية إلا في الإجراءات الوقتية ولا تمس بما يمكن أن يقضى به في الجوهر"· ويلح الفصل 267 من قانون المسطرة المدنية على أهلية الدولة للإرث عند انعدام وارث معروف للإرث· ونلاحظ أن هذه الحالة يرجع أصلها في القانون الإسلامي إلى أكثر من 14 قرنا "وإذا مات المالك من غير وارث انتقلت ملكية المال إلى الدولة، وكان من موارد بيت المال التي تنفق لتحقيق التكافل الاجتماعي "·
وفي المادة التحكيمية، ينص الفصل 23-327 من قانون المسطرة المدنية "يصدر الحكم التحكيمي كتابة···ويجب أن يكون معللا ما لم يتفق الأطراف على خلاف ذلك ··· أما الحكم المتعلق بنزاع يكون أحد الأشخاص الخاضعين للقانون العام طرفا فيه، فيجب أن يكون دائما معللا"· ويؤكد الفصل 39-327 في مجال التحكيم الدولي وبصفة المغرب طرفا فيه وكل ما يتعلق بمصالح التجارة الخارجية على إلزامية احترام الاتفاقيات الدولية المصادق عليها من طرف المغرب والمنشورة بالجريدة الرسمية·
وتبت كذلك محكمة النقض، كما جاء في الفصل 353 سالف الذكر، الهامش رقم 16، ما لم يصدر في هذا الشأن نص يخالف ذلك، في "الطعون الرامية إلى إلغاء المقررات الصادرة عن السلطات الإدارية للشطط في استعمال السلطة"· ويضيف الفصل 379 -ج "يقبل تعرض الخارج عن الخصومة ضد القرارات الصادرة عن محكمة النقض في طعون إلغاء مقررات السلطات الإدارية"· وفي نفس السياق ينص الفصل 402 في مجال إعادة النظر: "يمكن أن تكون الأحكام التي لا تقبل الطعن بالتعرض والاستئناف موضوع إعادة النظر···1- إذا بت القاضي فيما لم يطلب منه أو حكم بأكثر مما طلب أو إذا أغفل البت في أحد الطلبات 2- إذا وقع تدليس أثناء تحقيق الدعوى 3- إذا بني الحكم على مستندات اعترف أو صرح بأنها مزورة وذلك بعد صدور الحكم 4- إذا اكتشفت بعد الحكم وثائق حاسمة كانت محتكرة لدى الطرف الآخر 5- إذا وجد تناقض بين أجزاء نفس الحكم 6- إذا قضت نفس المحكمة بين نفس الأطراف واستنادا لنفس الوسائل بحكمين انتهائيين ومتناقضين وذلك لعلة عدم الإطلاع على حكم سابق أو لخطأ واقعي 7- إذا لم يقع الدفاع بصفة صحيحة على حقوق إدارات عمومية أو حقوق قاصرين"·
فبالنسبة للنقطة الأولى "إذا بت القاضي فيما لم يطلب منه أو حكم بأكثر مما طلب أو إذا أغفل البت في أحد الطلبات" فمن باب الأمانة العلمية يجب أن أقول إن هذه القواعد القضائية المنصوص عليها في هذه الفقرة، وكذا في المادة 9 من قانون قضاء القرب (أغسطس 2011)، يرجع أصلها إلى أكثر من 2700 سنة في ظل النظام الروماني والحضارة الرومانية، والتي دامت أكثر من 1100 سنة · ونفس الشيء بالنسبة للفقرات 2 و3 و4 و5، لكن هذه المرة تم الاستقاء من مصادر أخرى، فمضامينها يرجع أصلها إلى الحضارة العربية الإسلامية، في ولاية القضاء وذلك حوالي 1400 سنة · يقول ابن خلدون في المقدمة، الصفحة 244، "···وكان الخلفاء في صدر الإسلام يباشرونه بأنفسهم ولا يجعلون القضاء إلى من سواهم وأول من دفعه إلى غيره وفوضه فيه" الخليفة عمر بن الخطاب (584-644) "فولى أبا الدرداء معه في المدينة وولى شريحا بالبصرة وولى أبا موسى الأشعري بالكوفة وكتب له في ذلك الكتاب المشهور الذي تدور عليه أحكام القضاة··· "·
وجاء في الفصل 514 من ق· م· م· المتعلق بمديونية الدولة والطرف المعني قانونا في تمثيليتها أمام القضاء، "كلما كانت الطلبات تستهدف التصريح بمديونية الدولة أو إدارة عمومية أو مكتب أو مؤسسة عمومية للدولة في قضية لا علاقة لها بالضرائب والأملاك المخزنية وجب إدخال العون القضائي في الدعوى وإلا كانت غير مقبولة"· ويضيف الفصل 515 في مجال تمثيلية الأشخاص المعنوية العمومية أمام القضاء، " ترفع الدعوى ضد: الدولة، في شخص رئيس الحكومة وله أن يكلف بتمثيله الوزير المختص عند الاقتضاء، الخزينة، في شخص الخازن العام، المؤسسات العمومية، في شخص ممثلها القانوني، المديرية العامة للضرائب، في شخص المدير العام للضرائب فيما يخص النزاعات المتعلقة بالقضايا الجبائية التي تدخل ضمن اختصاصاتها، مديرية أملاك الدولة، في شخص مدير أملاك الدولة فيما يخص النزاعات التي تهم الملك الخاص للدولة·
وبالنسبة للجماعات الترابية، فالفصل 515 غير كامل وخاطئ في نفس الوقت، بحيث إن الحالة في الوقت الراهن هي كالآتي: كلما كان النزاع، على المستوى الترابي، يقحم الجانب اللاتمركزي في الدعوى، أي أن المصالح اللاممركزة للإدارة المركزية هي المعنية، فالوالي بالنسبة للجهة، والعامل بالنسبة للعمالة والبلدية، هو الممثل القانوني · وكلما كان النزاع، على المستوى الترابي، يقحم الجانب اللامركزي في الدعوى، فرئيس مجلس البلدية (المادة 263)، أو رئيس مجلس العمالة (المادة 207)، أو رئيس مجلس الجهة (المادة 237)، هو الممثل القانوني للجماعة الترابية المعنية بالدعوى ·
وإذا تصفحنا مضمون القانون المتعلق بتنظيم قضاء القرب الصادر بتاريخ 17 أغسطس 2011، الملحق بقانون المسطرة المدنية، نلاحظ أن العديد من مواده، من المادة 15 إلى المادة 21، كلها تتخللها قضايا إدارية تتعلق بالإخلال بالنظام العام · ففي الفقرة 29 من المادة 15 "يعاقب بغرامة تتراوح بين 200 و 500 درهم··· من قام بدون رخصة إدارية بالكتابة أو وضع علامات أو رسوم" على الأملاك العمومية (عقار أو منقول)· وفي الفقرات من 6 إلى 10 من المادة 16 "يعاقب بغرامة تتراوح بين 300 و700 درهم" من شيد أو وضع أو ترك مواد، دون ضرورة، كانت سببا في عرقلة الطريق العمومية، أو ارتكب مخالفة في قضايا الصيد البري أو البحري أو بشأن أراضي عمومية مزروعة· وفي الفقرة 2 من المادة 17 "يعاقب بغرامة من 500 إلى 1000 درهم من ليس له محل إقامة··· ولجأ إلى الإقامة في الأماكن العمومية"، وفي هذه الحالة كذلك إخلال بالنظام العام· وفي الفقرات 2 و3 و5 و6 و7 من المادة 18 "يعاقب بغرامة تتراوح بين 800 إلى 1200 درهم ترك المواشي ترعى في المقابر، ألعاب القمار واليناصيب بدون رخصة في الأماكن العمومية، التصرفات والسلوكيات التي تقلق راحة السكان، كالضجيج والضوضاء والتجمع المهين أو الليلي، إتلاف طريق عموميا أو اغتصاب جزء منها، أو إحداث أضرارا بأموال منقولة للغير· وتضيف المادة 19 "تحرك الدعوى العمومية بواسطة النيابة العامة التي تحيل على قاضي القرب المحاضر المنجزة من طرف الشرطة القضائية أو الأعوان المكلفين بإنجازها"·
وتتميز هذه الدعاوى التي تدخل في اختصاص القضاء العادي بكونها متابعة أشخاص وليست مقاضاة قرارات بتهمة انتهاك السلامة المادية للملك العام وتخصيص ملحقاته (سرقة رمال الشواطئ، تلويث مجاري المياه، إتلاف طرق أو سكك حديدية، اغتصاب أملاك عمومية···) ومعاقبة مرتكبي هذه المخالفات بغرامات مالية تتراوح بحسب خطورة المخالفة من 200 درهم إلى 1200 درهم ·
وهذه الحالات والوقائع، والقواعد والإجراءات الناتجة عنها، التي يتناولها الآن قانون قضاء القرب (أغسطس 2011) والتي جلها كان يتضمنها قانون 15 يوليوز 1974 المتعلق بتنظيم محاكم الجماعات ومحاكم المقاطعات وتحديد اختصاصها، هي بالضبط ما يعرف في القانون الإداري المقارن، فصل المنازعات الإدارية، بالدعاوى أو المنازعات الزجرية· ورغم أن هذا النوع من القضايا قديم جدا في تاريخ المغرب، والتي كان يبت في جلها القائد على مستوى القرية أو المدينة، وكان البعض منها يفصل فيه القاضي، والبعض الآخر كان يحسم فيه شرفاء القرى وشيوخها أو شرفاء الزوايا، مثل الأدارسة وأهل وازان أو الزاوية الأمغارية أو الدرقاوية أو زاوية تامصلوحت وغيرها كثير · إلا أن هذا النوع من المنازعات في المادة الإدارية لم يؤخذ بعير الاعتبار في الفقه المغربي و لم نجد له بتاتا تصنيفا إلى جانب التصنيفات الموروثة والمكرسة في القضاء الإداري وفي الفقه الإداري بالمغرب: دعوى الإلغاء، دعوى القضاء الشامل ودعوى الاستعجال ·
بل إن هذه التصنيفات التي نقلت عن التصنيفات الفرنسية في مجال القضاء الإداري هي نفسها خاطئة لكونها تأخذ بضيق أو باتساع سلطة القاضي كمعيار ، في حين أن المنطق العلمي يقتضي الأخذ بعين الاعتبار طبيعة النزاع المعروض على القاضي وليس القاضي نفسه، لأن الأصل الدعوى، وليس المحكمة أو القاضي، كالنزاع في شرعية القرار الإداري، أو النزاع في تجاوز استعمال السلطة الإدارية، أو النزاع في العقود الإدارية، أو النزاع في المسؤولية الإدارية، أو النزاع في الوظيفة العمومية، أو المنازعات في الانتخابات أو الضرائب أو المال العام أو نزع الملكية···
وفي باب الإلتزامات الناشئة عن الجرائم وأشباه الجرائم ، من قانون الالتزامات والعقود (12 غشت 1913)، ينص الفصل 77 في باب القضاء بصفة عامة "كل فعل ارتكبه الإنسان عن بينة واختيار، ومن غير أن يسمح له به القانون، فأحدث ضررا ماديا أو معنويا للغير، ألزم مرتكبه بتعويض هذا الضرر، إذا ثبت أن ذلك الفعل هو السبب المباشر في حصول الضرر"· ويضيف الفصل 78 في نفس الاتجاه "كل شخص مسؤول عن الضرر المعنوي أو المادي الذي أحدثه، لا بفعله فقط ولكن بخطئه أيضا" كلما ثبت أن الخطأ هو السبب المباشر في الضرر· والخطأ، يتمم نفس الفصل "هو ترك ما كان يجب فعله، أو فعل ما كان يجب الإمساك عنه، وذلك من غير قصد لإحداث الضرر"· أما الفصل 79 فيقصد مباشرة السلطات العمومية ويؤكد على المسؤولية الإدارية للدولة والجماعات الترابية "عن الأضرار الناتجة مباشرة عن تسيير إدارتها وعن الأخطاء المصلحية لمستخدميها"· ويطرح الفصل 80 المسؤولية الشخصية لموظفي الدولة والجماعات الترابية كلما تعلق الأمر بالأضرار "الناتجة عن تدليسهم أو عن الأخطاء الجسيمة الواقعة منهم في أداء وظائفهم، ولا تجوز مطالبة" الإدارة، بسبب هذه الأضرار، دولة كانت أو جماعة ترابية، إلا عند إعسار هؤلاء الموظفين ·
وإذا تصفحنا قانون المسطرة الجنائية الصادر بتاريخ 10 فبراير 1959، المعدل في 18 شتنبر 1974، وفي سنة 1993، وفي 3 أكتوبر 2002، وعدة مرات أخرى، وخاصة في 18 يوليو 2019، فهو كذلك يتضمن الكثير من المقتضيات الإدارية والدستورية والمالية والدولية··· تنص المادة 2 منه " يترتب عن كل جريمة الحق في إقامة دعوى عمومية لتطبيق العقوبات والحق في إقامة دعوى مدنية للمطالبة بالتعويض عن الضرر الذي تسببت فيه الجريمة" وتضيف المادة 3 "يقيم الدعوى العمومية ويمارسها قضاة النيابة العامة، كما يمكن أن يقيمها الموظفون المكلفون بذلك قانونا···أو الطرف المتضرر طبقا للشروط المحددة في القانون"· يظهر لنا بكل وضوح من خلال هاتين الفقرتين أن القانون الجنائي عام وخاص، لا نقاش في ذلك، أي قانون مختلط· وتؤكد ذلك أكثر فأكثر المواد من 15 إلى 250 المتعلقة بالتحري عن الجرائم ومعاينتها، والسلطات المكلفة بالتحري عن الجرائم (الشرطة القضائية، النيابة العامة، القضاة المكلفون بالتحقيق، حماية الضحايا والشهود والخبراء والمبلغين، التنقل والتفتيش والحجز، التقاط المكالمات والاتصالات المنجزة بواسطة الاتصال عن بعد، استنطاق المتهم وأوامر قاضي التحقيق، الوضع تحت المراقبة القضائية والاعتقال الاحتياطي···
وفي مجال الفصل في تنازع الاختصاص بين محاكم تكون محكمة النقض أعلى محكمة بينها، أو بين محاكم لا توجد محكمة أعلى مشتركة بينها، تؤكد المادة 261 "···إذا تمت المتابعة من أجل نفس الفعل في آن واحد أمام محاكم استئناف ومحاكم أخرى، أو أمام عدة قضاة للتحقيق - إذا أعلنت عدة محاكم عن عدم اختصاصها بالنظر في نفس الفعل بمقرر نهائي - إذا أعلنت هيئة الحكم عن عدم اختصاصها بمقرر نهائي بعد أن أحيلت إليها القضية بأمر من قاضي التحقيق أو من الغرفة الجنحية"· وفي هذه الحالات، تضيف المادة 262، فإن النزاع يرفع إما إلى غرفة الجنح الاستئنافية، إذا كان النزاع بين محكمتين تابعتين لنفوذ نفس الغرفة، أو إلى الغرفة الجنائية بمحكمة النقض إذا كان النزاع بين محكمتين استئنافيتين، أو بين محكمتين تخضع كل واحدة منهما لنفوذ محكمة استئناف مختلفة، أو بين محاكم لا توجد محكمة أعلى مشتركة بينها·
وفيما يخص تدبير المناقشات والسهر على النظام والسلطة التقديرية للقاضي، تؤكد المادة 422 "يدير الرئيس المناقشات ويسهر على النظام وعلى احترام المقتضيات المتعلقة بسير الجلسات···"· وتضيف نفس المادة "يخول الرئيس سلطة تقديرية يمكنه بمقتضاها، وتبعا لما تمليه عليه قواعد الشرف والضمير، أن يتخذ جميع المقررات ويأمر بجميع التدابير التي يراها مفيدة للكشف عن الحقيقة، ما لم يمنعها القانون"· ونلاحظ من خلال هذه الفقرات أن جميع القضاة، كيف ما كانت اختصاصاتهم، دستورية أم إدارية، مالية أم عادية، داخلية أم دولية، تهمهم مضامين هذه الفقرات وملزمون باحترامها والتقيد بها والسهر على تنفيذها ·
وفي إطار الأحكام الخاصة بتمويل الإرهاب، المواد من 595.1 إلى 595.10، للوكيل العام الصلاحية إثر إجراء بحث قضائي أن يطلب من الأبناك والأبناك الحرة ومن مؤسسات الائتمان والهيئات المعتبرة في حكمها، جميع المعلومات "حول عمليات أو تحركات أموال يشتبه أن لها علاقة بتمويل الإرهاب"· ولا يجوز، تضيف المادة 80 من القانون رقم 34.03 المتعلق بمؤسسات الائتمان والهيئات المعتبرة في حكمها، "الاحتجاج بالسر المهني على بنك المغرب والسلطة القضائية العاملة في إطار مسطرة جنائية"·
وفي باب تنفيذ الاعتقال الاحتياطي والعقوبات السالبة للحرية، تنص المادة 608 " لا يمكن حرمان شخص من حريته إلا بمقتضى سند صادر عن السلطة القضائية يأمر باعتقاله احتياطيا أو بناء على سند يأمر بتنفيذ مقرر مكتسب لقوة الشيء المقضي به صادر عن هيئة قضائية يقضي عليه بعقوبة السجن أو الحبس أو الاعتقال أو الإكراه البدني···" أو الوضع تحت الحراسة النظرية لمدة لا تتجاوز 48 ساعة ·
ويعتبر كذلك مكرها بدنيا، حسب المادة 618، "كل شخص تم حبسه بسبب عدم أداء ما بذمته من دين" · وفي باب تنفيذ العقوبات المالية والإكراه البدني، تؤكد المادة 632 من ق· م· ج· "تتولى المصالح المكلفة بالمالية ومصالح كتابة الضبط بمحاكم الاستئناف والمحاكم استيفاء المصاريف القضائية والغرامات ما لم ينص على خلاف ذلك في قوانين خاصة"· وتضيف نفس المادة تؤهل هذه المصالح (مأمورو كتابات الضبط والقباض) للقيام "بالمتابعات المنصوص عليها في القانون رقم 15.97 بمثابة مدونة تحصيل الديون العمومية" الصادر في 3 ماي 2000 "بتحصيل الغرامات والعقوبات المالية"·
وإذا تابعنا هذه الدراسة وهذا التحليل إلى آخر مقتضيات قانون المسطرة الجنائية، من المواد 648 وما بعدها إلى المادة 749.1، نجدها كلها بدون استثناء تتعلق بالحريات والحقوق الأساسية المتضمنة في الدستور، وخاصة الفصول من 19 إلى 40· فسواء تعلق الأمر بتقادم العقوبات أو عدم تقادمها ، أو بالسجل العدلي، أو ببطائق الإدانة والحكم والعقوبات الصادرة في حق الأشخاص الذاتيين أو الأشخاص المعنوية، أو التبادل الدولي للبطائق، أو رد الاعتبار القضائي أو بحكم القانون، أو ببعض الجرائم المرتكبة خارج المغرب والعلاقات مع السلطات القضائية الأجنبية، فكل هذه القضايا تدخل مباشرة في مضمون الدستور ولا يمكن فصلها لا عن القانون الخاص ولا عن القانون العام· بل تشكل وحدة متجانسة ومتكاملة تنتمي في نفس الوقت إلى القانون العام وإلى القانون الخاص·
ثالثا مجالات تقاطع الاختصاصات والجهات القضائية الدستورية والإدارية والعادية والدولية على مستوى الهيئات القضائية ودرجات التقاضي
إن الجهات القضائية بالمغرب هي نتاج تفاعلات مركبة لعدة معطيات سوسيولوجية وسياسية، تبدأ بتاريخ القضاء وتنتهي بدرجات التقاضي، مرورا بالسياسة القضائية والنظام القضائي والسلطة القضائية، ثم التنظيم والاختصاص القضائيين· كل هذه التفاعلات أدت وتؤدي حتما إلى ارتباط ضروري بين كل هذه الجهات القضائية· بحيث نجد رغم القاعدة التي تحدد الاختصاص النوعي لكل غرفة قضائية، هناك استثناء مهما على مستوى كل جهة قضائية، يعطي الصلاحية لكل غرفة داخل المحكمة الابتدائية أو التجارية أو محكمة النقض أن تبحث وتحكم في القضايا المعروضة على المحكمة كيفما كان نوعها (القانون المتعلق بالتنظيم القضائي، الصادر بتاريخ 15 يوليوز 1974 كما تم تغييره وتتميمه، الفصل 2 المحاكم الابتدائية، والمادة 2 المحاكم التجارية )· وجاء في القانون المحدث للمجلس الأعلى بتاريخ 27 شتنبر 1957 وفي القانون الصادر يوم 25 أكتوبر 2011 الذي غير إسم المجلس الأعلى بمحكمة النقض : "يمكن لأية غرفة من غرف محكمة النقض أن تحقق بشكل صحيح وأن تحكم، مهما كانت طبيعتها، في القضايا المعروضة على المحكمة" ·
ومورست، تاريخيا، بالمغرب مهمة القضاء من طرف قاض، متمكن من الشريعة الإسلامية ويفصل في جميع القضايا الزوجية والعقارية والإجتماعية التي تطرح عليه· وكان رجال السلطة المخزنية، قيادا وباشوات، يمارسون كذلك مهمة القضاء في مجال الأمن والإدارة وقضايا القرب، في مقارهم ودوائر نفوذهم، وخلال أيام الأسواق، في القرى والبوادي، بالنسبة للقياد خاصة · وجاء الاستعمار الفرنسي الإسباني وفصل بين محاكم المخزن أو القضاء الشرعي الإسلامي، ومحاكم العرف الأمازيغية والمحاكم العبرية، ومحاكم المستعمر الفرنسي في الداخل والإسباني في الشمال والجنوب · وكان كل صنف يحاول فض نزاع فئة اجتماعية معينة، لكنه لم يخل، منذ البداية، من تداخل قضايا ذات أبعاد سياسية واقتصادية، وخاصة احتجاجات قوية أدت إلى انهياره· ومنذ الاستقلال إلى يومنا هذا (2022)، أدخلت عدة إصلاحات تريقعية، قانونية وقضائية ومؤسساتية، في المجالات المدنية والجنائية والإدارية والدستورية والمالية والدولية، تخللت هذه الفترة (1965 و1967 و1974 و1993 و2000 و2011 و2019···)، لكنها ظلت للأسف خالية من كل تصور جدري بنيوي، يجني الآن عواقبه الوخيمة النظام القضائي الحالي ·
والسياسة القضائية المتبعة في هذا المجال هي مجموعة التعاليم والمقتضيات المرسومة والمتخذة في هذا الإطار من طرف السلطة العليا بالمغرب· أما النظام القضائي بالمغرب، أي مجموعة الأعمال والطرق والمؤسسات السارية المفعول في هذا المجال، ما هي للأسف إلا انعكاس واضح لهذه السياسة· والسلطة القضائية هي حق وإمكانية العمل المقنن في الشؤون القضائية· صحيح أن الفصل 107 من الدستور يؤكد: "السلطة القضائية مستقلة عن السلطة التشريعية وعن السلطة التنفيذية"، لكن هل هناك فعلا استقلالية؟ هل هناك فعلا قضاء مستقل، خاصة الإداري والدستوري والجنائي، عن رئيس الدولة وعن الحكومة؟ هذا ما أشك فيه بالفعل ·
يضيف الفصل 107 "الملك هو الضامن لاستقلال السلطة القضائية"· لكن الفصل 109 يؤكد "يمنع كل تدخل في القضايا المعروضة على القضاء، ولا يتلقى القاضي بشأن مهمته القضائية أي أوامر أو تعليمات ولا يخضع لأي ضغط"· أملي أن السيدات القاضيات والسادة القضاة أن يتأملن وأن يتأملوا مضمون هذا الفصل وأن يمارسن مهامهن وأن يمارسوا مهامهم على هذا الأساس وفي هذا الاتجاه· كتب الخليفة عمر بن الخطاب، الذي دامت خلافته من 634 ميلادية إلى يوم اغتياله بتاريخ 4 نونبر 644، إلى أبي موسى الأشعري عندما عينه وليا بالكوفة قائلا : "···ولا يمنعك قضاء قضيته أمس فراجعت اليوم فيه عقلك وهديت فيه لرشدك أن ترجع إلى الحق فإن الحق قديم ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل··· "·
والتنظيم القضائي بصفة عامة، وبالمغرب خاصة، يميز بين المحاكم العادية ودرجاتها، مثل المحاكم المدنية والجنائية، والمحاكم المتخصصة ودرجاتها، مثل المحاكم الإدارية والتجارية، والمحاكم الاستثنائية ودرجاتها، مثل المحاكم العسكرية والسياسية· لكن هذا التقسيم ليس محكم السد، بل هناك تقاطع بين هذه التقسيمات، سواء في القانون المقارن أو في القانون المغربي : فالمحاكم المتخصصة مثلا، تعتبر محاكم استثنائية كذلك، والمحاكم الاستثنائية تعتبر محاكم متخصصة ، وتتمتع بعض المحاكم المتخصصة باختصاصات مدنية مثل المحاكم التجارية ومحاكم الشغل، أو باختصاصات جنائية مثل محاكم الأحداث أو المحاكم العسكرية أو السياسية· لكن التقسيم المعهود، الجاري به العمل والواقعي كذاك هو: محاكم القرب (التنظيم والمسطرة والاختصاص)، المحاكم الابتدائية (التنظيم والمسطرة والاختصاص)، محاكم الاستئناف (التنظيم والمسطرة والاختصاص)، محكمة النقض (التنظيم والمسطرة والاختصاص)، المحكمة الدستورية (التنظيم والمسطرة والاختصاص)، المجلس الأعلى للحسابات (التنظيم والمسطرة والاختصاص)، والمجالس الجهوية للحسابات (التنظيم والمسطرة والاختصاص)، المحكمة العسكرية (التنظيم والمسطرة والاختصاص) ·
وبالنسبة للاختصاص القضائي، مثله مثل التنظيم القضائي، فهو ليس حديث النشأة، بل يرجع عهده إلى آلاف السنين· ودراسة الماضي تربطنا بالحاضر وتكشف لنا أصله· ففي الحضارة الرافدية مثلا، حضارة ما بين النهرين، العراق حاليا، يمكن أن نستشف من خلال القوانين العرفية السائدة آنذاك والتنظيم القضائي لهذه الحضارة، التي أسست منذ أكثر من 8000 سنة، ووصلت أوجها منذ 6000 سنة ودامت قوية ساطعة حوالي 3500 سنة، وجود قضاء مركبا مدنيا وجنائيا وعسكريا · وفي مصر القديمة، التي شيدت منذ 5000 سنة، ودامت أكثر من 3000 سنة، كان التنظيم القضائي تنظيما محكما يميز بين المجال المدني والمجال العسكري، بين الجانب الموضوعي والجانب الإجرائي، بين المحاكم العسكرية والشرطة العسكرية· وكانت كل هذه القضايا والاختصاصات والمؤسسات تتقاطع وتتداخل فيما بينها·
أما الحضارة الصينية التي كانت قوانينها ترتكز على العقائد والطقوس والشعائر وعلى العقوبات الإجرامية لمرتكبي هذه الجرائم خاصة، يرجع عهدها إلى 4000 سنة· لكن المرحلة الحقيقية الحاسمة في القانون الصيني ظهرت حوالي 3000 سنة، وبالضبط مع كونفوشيوس والفلسفة الكونفوشيوسية، منذ 2500 سنة، التي بنيت على تقاليد وأحكام فلسفية واقعية، أخلاقية وسياسية، ودينية شيئا ما· بحيث كان اللجوء إلى القضاء مستنكرا ، وكان القاضي في أغلب الحالات موظفا إداريا أكثر منه قاضيا، لم يكن له تكوينا قضائيا، إلا نادرا، بل كان يرتكز في حكمه على أحكام وقواعد فلسفية أكثر منها قضائية، ولم يكن هناك تمييز بين الوظيفة القضائية والوظائف الإدارية · لكن كانت هناك نصوص قانونية على شكل شرائع ومراسيم ومقررات وأنظمة داخلية للإدارة تتعلق بالعقوبات وبقضايا الأسرة والنظام العام والأشغال العمومية وتدبير الإسطبلات والأنشطة المتعلقة بالخيول ·
أما الحضارة الرومانية، التي بدأت حوالي 2800 سنة، وبلغت أوجها منذ 2100 سنة، ودامت 600 سنة، فقد صنفت اختصاصات المحاكم بطرق واضحة، حيث ميزت بين الاختصاصات التي ماتزال مستعملة إلى الآن مثل الاختصاص الإقليمي والاختصاص الموضوعي أو النوعي، الاختصاص الشخصي والاختصاص القيمي، الاختصاص الزمني والاختصاص حسب موطن الشيء موضوع النزاع··· وهكذا يمكن التمييز بين أنواع الاختصاصات حسب اللغة الرومانية السائدة آنذاك كالتالي:
Ratione loci (en raison du lieu : ex. domicile du défendeur, lieu d’arrestation, étendue territoriale des compétences, lieu où se situe le bien immeuble) ; ratione loci damni (en raison du lieu du dommage) ; ratione materiae (en raison de la matière : civile, pénale, administrative, etc.) ; ratione personae (en raison de la personne, par exemple un mineur, un commerçant, un ministre) ; ratione quantitatis (en raison de la quantité, ou selon le montant de l’intérêt litigieux, ex. tribunaux de proximité ou de 1ère instance) ; ratione temporis (à raison du temps ou en fonction du temps passé, ex. le paiement d’un loyer dépend de la durée d’occupation ou d’exploitation d’un bien) ; ratione rei sitae (en raison de la situation de la chose, exemple compétence de la juridiction du lieu où est situé l’immeuble) ; ratione valoris (en raison de la valeur, ad valorem, c’est-à-dire en fonction de la valeur du bien objet du litige) ; ratio decidendi (raison de décider ou motif décisif de la prise d’une décision par le juge) ; ratio legis (raison d’être de la loi, c’est-à-dire que le juge doit pouvoir dégager l’esprit de la loi et déterminer le champ d’application que le libellé de celle-ci ne révèle pas) .
والحضارة اليونانية التي ظهرت حوالي 2700 سنة، وأدركت قمتها منذ 2500 سنة، كان نظامها القضائي، تفصيلا، يتوفر تقريبا على جميع العناصر التي يحتويها النظام القضائي الحالي· ففي أثينا مثلا، كان القضاء يمارس بالاقتراع المباشر لتشكيل محكمة شعبية سنويا من ستة آلاف عضو مقسمة إلى عشرة دوائر، كل دائرة مقسمة إلى مجموعة من القضاة، أشخاص بدون تكوين، يتراوح عددها حسب خطورة القضايا، ما بين 201 و401 و501 و2001 شخصا· وكانت محاكم 201 شخصا تفصل في القضايا البسيطة أو أقل قيمة مالية، وتفصل محاكم 401 شخصا في قضايا الخواص، ومحاكم 501 شخصا في القضايا العمومية، ومحاكم 2001 شخصا في القضايا الإجرامية · ضم القضاء اليوناني القديم قضاة حكام وقضاة نيابة عامة ودفاع وقضاة تحقيق· وشمل كذلك قضاء القرب وقضاء مدني وجنائي وتجاري، ودرجات التقاضي بحسب الاختصاص القيمي أو النوعي أو خطورة المخالفة أو الجريمة ·
كان القضاء، والفصل في الخصومات وفض النزاعات، في تاريخ العرب، وفي القبائل العربية، منذ 2900 سنة، بالجزيرة العربية، ثم بموريتانيا وبجنوب الصحراء السورية، يقوم على أساس التحكيم من طرف شيخ القبيلة ، وكان رغم ذلك، بموازاة مع التحكيم، يمارس نوع آخر من القضاء الخاص، أو ما يعرف بقانون السن بالسن، أو قانون العين بالعين ·
Radcliffe-Brown étudie la justice privée dans une approche d’anthropologie sociale « Structure et fonction dans la société primitive », chapitres écrits entre 1924 et 1952, « L’action de représailles est réglementée par la coutume ; la loi du talion exige que le dommage infligé soit équivalent à celui qui a été subi et, selon le principe de solidarité collective, ceux qui doivent se venger, peuvent tuer une personne autre que le meurtrier réel, par exemple, son frère ou, dans certains cas, un membre quelconque de son clan » .
وجاء الإسلام، أسس الخلافة ووحد القبائل، نما وكبر، ونمت معه الحضارة العربية الإسلامية، ثم تقوت واتسعت، ونما وتطور القضاء في أحضانهما · نظم القضاء الفردي بشكل تحكيمي، تولاه الرسول، أول الأمر، في عهده (623-632)، وكان أول قاض في الإسلام، ثم قام بعد ذلك، نتيجة توسع الدولة، بتفويض أو بتعيين الصحابة لتأمين هذه المهمة· واستمر الحال بهذا الشكل تحت الخلافة الراشدية (632-661)، ولما اتسع نطاق الدولة الإسلامية أكثر في عهد عمر بن الخطاب (634-644)، وكثرت مهام الخليفة، قام بتعيين قضاة مستقلين· واقتفى الخلفاء الأمويون (661-750) نفس النهج، حيث صار القضاء منفصلا عن الحكم، قائم الذات على مستوى المهام فقط، وليس التعيين، واكتفى خلفاء بني أمية بممارسة قضاء المظالم وقضاء الحسبة· وزاد التنظيم القضائي تطورا خلال الخلافة العربية الأمازيغية الإسلامية بالأندلس (711-1492)، ثم الخلافة العباسية (750-1258) وأصبح مرفقا عموميا محكما ومستقلا، يشتمل على وحدات متكاملة، تشبه إلى حد كبير التنظيم القضائي الحالي · وكان الخليفة المعز لدين الله أول من أسس نظاما قضائيا بالدولة الفاطمية، وأصبح القضاء آنذاك عنصر سيادة في حكم الإمبراطورية العثمانية الإسلامية (1299-1923)· واستمر القضاء على هذا النهج وتقوى، وعين إلى جانب القضاة أو على رأسهم، منذ الدولة العباسية والفاطمية والعثمانية، قاضي القضاة يفصل في الأحكام الشرعية وكان يمثل أعلى سلطة قضائية في الدولة· وفي المغرب كذلك، وحتى منتصف القرن العشرين تقريبا كان لا يزال منصب قاضي القضاة الذي كان بمثابة وزير العدل حاليا·
والنظام القضائي في الإسلام، عموما يتميز بوحدة القضاء وشموليته، أي اختصاص نوعي شامل، يرتكز على ثلاثة أركان، مثل ما هو الشأن حاليا، القاضي، والدعوى التي تضم المدعي والمدعى عليه والمدعى به، ثم الحكم · كانت تصدر الأحكام الشرعية في العهد النبوي بالرجوع إلى الكتاب والسنة والاجماع والقياس وعلى البينة واليمين والشهود والكتابة· وفي العصر الراشدي تم تعيين القضاة واستقل القضاء والأمور القضائية عن الولاة والأمور السياسية، واتبع الأمويون نفس الأسلوب في القضاء الذي كان سائدا زمن الخلفاء الراشدين، بحيث لم تكن هناك مذاهب فقهية، وأصبحت الأحكام الصادرة عن القضاة تسجل في سجلات خاصة يرجع إليها عند الضرورة· وفي العصر العباسي، مع اتساع جغرافية الدولة وسلطة القاضي وظهور المذاهب الفقهية الأربعة (القرن الثامن ميلادي: الحنفي والمالكي والشافعي والحنبلي) وإرساء أصول الفقه، أصبح القضاء متأثرا بالتيارات السياسية الحاكمة والمذاهب الفقهية السائدة في منطقة نفوذ القاضي· وعاصرت الدولة العباسية (750-1258)، الدولة الفاطمية (909-1171)، ودولة الأندلس الإسلامية (711-1492)، واستمرت هذه الأخيرة بعد الخلافة العباسية التي خلفتها الإمبراطورية العثمانية (1299-1922)· وصار القضاء منذ ذلك الحين مرفقا عموميا متميزا عن الولاية وعن الخلافة يفصل في الدعاوى والأوقاف وفي الخصومات والنزاعات المدنية والمخالفات والجرائم الجنائية· واختلفت درجات التقاضي بين القاضي العادي وقاضي الأقاليم وقاضي المظالم، بمثابة قاضي إداري، وقاضي الحسبة بمثابة قاضي تجاري، وقاضي القضاة، بمثابة سلطة قضائية عليا، وأول من تولى هذا المنصب منذ إحداثه، في العصر العباسي، هو القاضي أبو يوسف يعقوب أبو إبراهيم · وكان أبو حسن علي بن محمد بن حبيب البصري الماوردي (974 - 1058)، وهو من أكبر فقهاء الشافعية، أول من تولى منصب أقضى القضاة، أي أكبر القضاة، إلى نهاية الدولة العباسية ·
ودرجات التقاضي، بصفة عامة، تختلف باختلاف مجال الاختصاص، أو طبيعة الدعوى أو خطورتها، بحيث نجد القضاء الفردي والقضاء الجماعي، القضاء على درجة واحدة والقضاء على درجتين، القضاء على درجتين أو القضاء على ثلاث درجات··· ففي القضاء الفردي يحكم قاضي واحد، قاضي منفرد يحكم في القضية المعروضة عليه، مثل ما هو الشأن حاليا في قضاء القرب، المادة 2 الفقرة الثانية من قانون سبتمبر 2011 ، وفي القضاء العادي، المحاكم الابتدائية، الفصل 4 من نفس القانون ، وفي القضاء الاستعجالي، الفصل 149 من ق· م· م· وكذا الفصول 170 و203 و222 و230 من نفس القانون ، والفصل 19 من قانون 41.90 المتعلق بإحداث المحاكم الإدارية، والفصل 21 من قانون 53.95 القاضي بإحداث المحاكم التجارية، وقانون 80.03 المحدث لمحاكم الاستئناف الإدارية (المادة 6 منه)· أما القضاء الجماعي فهو يتكون عموما من ثلاث قضاة، وخمسة نقضا، يحكمون في النزاعات المعروضة على المحكمة، كما هو الأمر أمام المحاكم الابتدائية، في الدعاوى العقارية العينية والمختلطة وقضايا الأسرة والميراث، باستثناء النفقة (الفصل 4 من القانون المتعلق بالتنظيم القضائي الصادر في 15 يوليوز 1974)، وكذا دعاوى نزاعات الشغل والجنح المعاقب عليها بأكثر من سنتين، وفي القضايا المعروضة على محاكم الاستئناف (الفصل 7 من نفس القانون)، وأمام المحاكم الإدارية (المادة 5 من القانون رقم 41.90 المحدث بموجبه محاكم إدارية صادر في 10 سبتمبر 1993)، ومحاكم الاستئناف الإدارية (المادة 3 من القانون رقم 80.03 ج· ر· عدد 5398، 23 فبراير 2006، ص 490)، وأمام المحاكم التجارية ومحاكم الاستئناف التجارية (المادة 4 من القانون رقم 53.95 القاضي بإحداث محاكم تجارية، ج ر عدد 4482 في 15 ماي 1997، ص 1141)·
"يعقد المجلس الأعلى (محكمة النقض حاليا) جلساته ويصدر قراراته من طرف خمسة قضاة بمساعدة كاتب الضبط" (الفصل 11 من القانون المتعلق بالتنظيم القضائي الصادر بتاريخ 15 يوليوز 1974)· وحسب الفصل 371 من ق· م· م· "لا تحكم غرف محكمة النقض بصفة قانونية إلا إذا كانت الهيئة مكونة من خمسة قضاة"· كما يمكن أن يحال "الحكم في أية قضية على هيأة قضائية مكونة من غرفتين مجتمعتين" (نفس الفصل، الفقرة الثانية منه)· ولكل نوع من أنواع القضاء، الفردي أم الجماعي، مزايا وعيوب إلا أنه من الأفضل أن يهتم القضاء الفردي بالقضايا البسيطة والاستعجالية والقضاء الجماعي بالقضايا الصعبة والمعقدة ·
ففي القضاء على درجة واحدة، أو القضايا التي تختص فيها المحاكم الابتدائية أو غيرها، ابتدائيا وانتهائيا، تهم أساسا القضايا الصغرى والنزاعات ضعيفة القيمة، والأحكام التي لا تقبل الطعن بالاستئناف، مثل ما هو الحال في قضايا النفقة والطلاق والتطليق والخلع والفسخ طبقا للمادة 128 من مدونة الأسرة، ونفس الشيء بالنسبة للقضايا الاجتماعية (الفصل 21 من ق· م· م·) ، وقضايا الحالة المدنية والطلبات المتعلقة باستيفاء واجبات الكراء والتحملات الناتجة عنه أو مراجعة السومة الكرائية (الفصل 353 من ق· م· م·)، وبصفة عامة كل الأحكام التي انقضى أجل استئنافها أو التي وافق عليها المحكوم، صراحة أو ضمنيا، ولم يقبل باستئنافها، وكذا بعض الأحكام النهائية التي يمكن الطعن فيها بالنقض ·
تنص المادة 13 من القانون رقم 42.10 المتعلق بتنظيم قضاء القرب وتحديد اختصاصاته (ج· ر· عدد 5975 بتاريخ 5 سبتمبر 2011، ص 4392): "إذا تعذر الصلح بين طرفي الدعوى، بت في موضوعها داخل أجل ثلاثين يوما بحكم غير قابل لأي طعن عادي أو استثنائي···)· وجاء في المادة 9 من قانون رقم 41.90 المحدث بموجبه محاكم إدارية (ج· ر· عدد 4229 بتاريخ 17 نوفمبر 1993، ص 2261): "استثناء من أحكام المادة السابقة (بشأن اختصاص المحاكم الإدارية، المادة 8) تظل محكمة النقض مختصة بالبت ابتدائيا وانتهائيا في طلبات الإلغاء بسبب تجاوز السلطة المتعلقة بالمقررات التنظيمية والفردية الصادرة عن الوزير الأول (أي رئيس الحكومة حسب الدستور الحالي 30 يوليو 2011)، وبقرارات السلطات الإدارية التي يتعدى نطاق تنفيذها دائرة الاختصاص المحلي لمحكمة إدارية"·
وفي نفس السياق ينذر الفصل 114 من الدستور الحالي (30 يوليوز 2011 ج· ر· عدد 5964 مكرر ص 3600): "تكون المقررات المتعلقة بالوضعية الفردية الصادرة عن المجلس الأعلى للسلطة القضائية قابلة للطعن بسبب الشطط في استعمال السلطة أمام أعلى هيئة قضائية إدارية بالمغرب"· وكذلك الأحكام التي تصدرها المحكمة الدستورية، فهي تعتبر، من وجهة نظر المنطق القضائي، ابتدائية وانتهائية وحائزة لقوة الشيء المقضي به، بحيث أن الدعاوى المتعلقة بانتخاب أعضاء البرلمان أو بعمليات الاستفتاء التي تعرض على المحكمة، أو القوانين التي تحال إليها، تنظر في صحتها، أو تبت في مطابقتها للدستور، بصفة قطعية، نهائية (الفصل 132 من الدستور الحالي) · ونفس الشيء بالنسبة للمجلس الأعلى للحسابات فهو، كما يحدد ذلك الفصل 147 من الدستور، الهيأة العليا لمراقبة المالية العمومية، والسهر على تنفيذ قوانين المالية، بصفة باتة، ويتخذ، عند الاقتضاء، عقوبات عن كل إخلال بالقواعد السارية على هذه العمليات المالية ·
أما القضاء على درجتين فهو القضاء الذي تكون ضمنه أحكام محاكم الدرجة الأولى (مدنية، إدارية، تجارية، اجتماعية) تقبل الطعن بالاستئناف، سواء بنفس المحكمة، أمام غرف الاستئنافات، إذا كانت قيمة النزاع لا تتعدى 000 20 درهم، أو أمام محكمة الاستئناف كلما كانت قيمة النزاع تتعدى مبلغ 000 20 درهم (الفصل 19 من ق· م· م·)· والاستئناف، كما نظمه المشرع (الفصول من 134 إلى 146 من ق· م· م·)، هو طريقة من طرق الطعن العادية، كالتعرض (الفصول من 130 إلى 133 )، يجسد، كمبدأ التقاضي على درجتين، تظلما من تسيير القاضي للدعوى، أول درجة، للإجراءات المتبعة وتقدير الوقائع وتطبيق القانون· وبهذا يؤدي الطعن بالاستئناف إلى إعادة الفصل في النزاع من جديد، من جوانبه الموضوعية والقانونية، ويصدق هذا الطرح في التقاضي على القضاء المدني والجنائي والإداري والتجاري ·
صحيح أن هناك قضايا مركبة تربط درجات التقاضي بعضها البعض أشد الارتباط كما تطرق إليها بعض الباحثين مثل أحمد هندي، في كتابه "مبدأ التقاضي على درجتين، حدوده وتقسيماته في القانون المصري والقانون الفرنسي"، 1992، والتي يمكن استخلاصها كالتالي: هل يكون حكم محكمة أول درجة نهائيا إذا بتت في قضية إجرائية أو بعدم القبول؟ وفي حالة غموض أو إغفال أو خطأ شاب حكم محكمة أول درجة هل بإمكان عودة النزاع إلى المحكمة بعد أن فصلت في موضوعه؟ وهل يعتبر استكمال الحكم، بعد الحكم النهائي، أو تفسيره أو تصحيحه، من قبل محكمة الدرجة الأولى، تعارضا مع مبدأ استنفاد المحكمة لولايتها؟ وبالنسبة لمحكمة الدرجة الثانية هل بإمكانها النظر في طلبات أو مسائل لم يسبق طرحها على محكمة الدرجة الأولى؟
هذه بعض الحالات من بين العديد من القضايا التي تعكس ترابط درجات التقاضي فيما بينها، والتي لا يمكن الفصل بين عناصرها بطريقة قطعية، كما أنه لا يمكن اختزالها في درجتين، بل أعتبرها ثلاث درجات مرتبطة أشد الارتباط بعضها البعض، لأنه من الصعب الفصل في المنظومة القضائية، وفي كل منظومة اجتماعية على كل حال، بين ما هو مسطري وما هو جوهري، بين ما هو ابتدائي وما هو نهائي، بين ما هو قطعي وما هو غير قطعي، بين ما هو موضوعي وما هو قانوني·
ولهذا أعتبر الاختصام، أو التقاضي، على مستوى النقض، أو الطعن بالنقض، درجة من درجات التقاضي، تهتم بالجانب القانوني في النزاع، وبالتالي مبدأ التقاضي ليس على درجتين، بل على ثلاث درجات · لأن النزاع أمام القاضي، أو النازلة، تتكون من الوقائع والتكييف القانوني للوقائع، ثم الحكم، والقاضي على مستوى النقض يختص بالجانب الأكبر في النزاع، بالجانب المهم في النازلة: التكييف القانوني للوقائع والحل النهائي·
Si en matière contentieuse, le juge du fond apprécie les faits, et applique le droit, donc décide, le juge du droit, contrôle et vérifie la validité de la décision. Alors, ne s’agit-il pas d’une hiérarchie juridictionnelle, et par conséquent d’un degré de juridiction supérieur ?
0 Comments
السلام عليكم و مرحبا بكم يمكنكم التعليق على أي موضوع ،شرط احترام قوانين النشر بعدم نشر روابط خارجية سبام أو كلمات مخلة بالآداب أو صور مخلة.غير ذلك نرحب بتفاعلكم مع مواضيعنا لإثراء الحقل التربوي و شكرا لكم.