حين أبصرت العمياء
وصلت إلى محطة الطاكسيات وسط ركام الأجساد المتدافعة نحو العربات التي تجرها البغال، ورؤوس متدلية من فوق، تتصايح وتتسابق لكسب عدد من الزبائن تنقلها إلى أمكنة مجهولة، لايعلم أصحابها إلا صيحات آتية من هوامش المدن الكبرى، الفارة من دهاليز السخط العارم الذي يكنه لها عرف مجتمعي قبيح، وعمياء تتهكم على سائق عربة نحيف، تقذفه بأبشع كلمات السب والشتم لعدم السماح لها بركوب العربة، لتصل قبل أن يعود زوجها الهارب.
وبعد لحظات من التجاذب، استطاعت العمياء أن تجد لنفسها مكانا فوق عربة يجرها حمار قصير الذيل، يحني رأسه للأرض من فرط الحرارة كأنه يفتش عن شيء، وصاحبه يهوي على مؤخرته بضربات طفق لها الركاب، ولاموه بعلة المناخ الحار وسعيه لإرضاء العمياء، والأخيرة لا تكف عن توجيه عبارات خشنة للمارة والسائقين، وأبنائها وزوجها والساسة القائمين على تدبير شؤون المدينة ... أختها العرافة، الوحيدة التي نالت حظها من المديح، فأعجب بها الركاب، وأعجبوا بالصورة التي رسمتها لهم العمياء على لوحة من المخيال الشعبي المغربي، الذي يصنع من الوحل آلهة عالمة تفك سراح المكبلين الغائضين في مشاكل الإرث أو الزواج أو الطلاق أو حرث الأراضي .
أخيرا وصلت العربة أمام مكان الإقامة، لا صوت يعلو على صوت الاحتقان، واحد يعرض زوجته للتنكيل، وأخرى زوجها جن وحاول إضرام النار في أبنائه الأربعة، ورجل شرطي يشهر مسدسه في رأس حماته مهددا إياها بضرورة المغادرة قبل أن يرتكب جريمة داخل بيته، والعمياء تتسلل بحذائها الصامت أمام أبواب بيوت الجيران، تردد عبارتها: مالنا على حالتنا، باقين غنعيشو مائة عام.
وصلت إلى منزلها، أخرجت المفتاح من جيبها العريض، تلمست الثقب بأصابعها الثقيلة، قيل أنها فقدت حركة الذراع الأيسر بسبب تحريركها للوصفات بشكل مستمر. وطأت عتبة الدار وموجة الغضب العارمة لا تفارق وجهها الشاحب. ألقت بردائها الثقيل فوق الأسرّة المطروحة في البهو، وأخذت هاتفها القديم تضغط على أزراره الملعونة، لتحول اتصالاتها المتكررة إلى العرافة البوهالية، ناقلة إليها أخبار الجيران لعلها تجد وصفة تهجير تريح بها أعصاب السيدة العمياء .
ذات صباح ممطر مطرود بحرارة الأمس المفرطة، استيقظت العمياء على خيبة أمل كبيرة، بعد أن رأت في منامها سائق العربة يوجه لها لكمات وسط عينيها الواسعتين، ويقسم بأغلظ الإيمان أنه سيتابعها، ويلاحقها كظل حتى تفقد الحركة، بعد أن سطت على ممتلكات الركاب الآخرين، مما تسبب في اسنطاقه من قبل السلطات الأمنية، وفرضوا عليه عقوبة مالية، لم يستطع البغل دفعها من أعباء يومه وأثقال ظهره. صرخت على غير عادتها هذه المرة، لم تقدر على تحريك جسدها بالكامل، بقيت متسمرة في فراشها كقطعة لحمة متعفنة، ثم استحضرت صورة الأقرع ذي الزبيبتين وهو ينخر جسدها المترهل، يحاسبها على أفعالها الشيطانية، حاملا سوطه و يجلدها بضربات طفق لها الجيران الذين غادروا قهرا منها. طردت هذه الصورة من عينيها واستخضرت لهيب صقر، فاحترقت بدموع الخوف وتعالت على الندم، استحضرت صورة شبابها وقوتها القاهرة ، ثم استحضرت قوة أختها العرافة البوهالية واستجمعت قوتها، ثم نفضت كوابيسها في الفراش، وقامت لتجري مكالمة غير معروفة ، طائعة هذه المرة، مستسلمة خائفة، تكرر تعويذات بشكل سريع، تفرك بيديها وتقلبهما يمينا وشمالا. تجوب زوايا الغرفة باحثة عن زوجها المشلول. تذكرت أنها طردته، عادت إلى الهاتف تستنجد بالبوهالية. رن الهاتف مرات و مرات،، أغمضت عينيها لعل صعوبة اللحظة تزول، استلقت على الأرض، ما إن فتحتهما حتى وجدت قطعة ثوب أبيض فوق رأسها. والملائكة تنفر من هول المكان، وزوجها الهارب المشلول عاد ليلحد جثتها. وأختها البوهالية تعتلي ظهور المشيعين فوق التابوت، تصرخ مرتدية قماشها الممزق، وتضرب ساقيها العاريتين، وسائق العربة ينتظر قدوم الحشد لحمل الجثة إلى مثواها الأخير .
0 Kommentare
السلام عليكم و مرحبا بكم يمكنكم التعليق على أي موضوع ،شرط احترام قوانين النشر بعدم نشر روابط خارجية سبام أو كلمات مخلة بالآداب أو صور مخلة.غير ذلك نرحب بتفاعلكم مع مواضيعنا لإثراء الحقل التربوي و شكرا لكم.