شبيبة الأحرار وحكاية الحمام الذَّارِقِ
نورالدين الطويليع
عرف المشهد الحزبي بالمغرب خلال الأيام القليلة الماضية انعقاد الجامعة الصيفية لحزب التجمع الوطني للأحرار، وهذا الحدث يختزل واقعا حزبيا، يثير كثيرا من التساؤلات، ويجسد أزمة خانقة في مستوى النخب الحالية والمستقبلية، ويصور الإخفاق الحاصل في بناء مشروع حزبي قادر على مواجهة التحديات، وبناء هوية حزبية واضحة، وإنتاج دعاية تليق بالمساحة المخصصة للأحزاب في التدبير السياسي، وتسمح باستقطاب المزيد من النخب والكفاءات والأطر الشابة، فلا مستقبل لأي هيأة كيفما كان نوعها بدون دعايةٍ مؤسسةٍ على بلاغة اختيار اللغة، وانتهاز فرص الظهور، والتكيف مع السياق، وتشفير الرسائل، وانتقاء الأساليب المناسبة للتأثير في الجماهير وإثارة عواطفها، وإقناعها بجدية المشروع الحزبي وراهنيته وقدرته على الاستجابة لتطلعات الشعب المغربي.
ونحن نضع هذه الأرضية، بدا لنا الفرق كبيرا والبون شاسعا بين ما يجب أن يكون في إطار الحاجة الدعائية الملحة، وبين الواقع البئيس لأحزاب تعاني من سكرات الموت في غرفة العناية السياسية المركزة، وتفتقد إلى الوعي النظري بقيمتها الوجودية واستراتيجية العمل الدعائي الكفيل بضخ دماء الحياة في شرايينها المتصلبة نتيجة ركود، طالت سنواته، فجعلها عاجزة عن الحركة السياسية الفاعلة التي من شأنها إصلاح الوضع والدفع بالعجلة الحزبية إلى الأمام.
اختار المنظمون لفعاليات الجامعة الصيفية لشبيبة حزب التجمع الوطني للأحرار التماهي مع أجواء الرقص والغناء "نكاية في تجار المآسي والأزمات" كما صرحت بذلك إحدى القيادات الشبابية للحزب، وهنا وقبل أن نسترسل في الحديث عن واقعة حَمَامِ الأحرار المنتشي بفرحه ونشاطه إلى حد الإسهال، نستأذنكم في استدعاء حدث تاريخي مرتبط بإحدى دورات الألعاب الأولمبية بدولة أوروبية، ارتأت إطلاق أسراب من الحمام في حفل الافتتاح، تعبيرا عن نشدان السلام، وتزامن ذلك مع بدء الاحتفال بالألعاب النارية، وتسبب صوت هذه الألعاب في إفزاع الحمام الذي أصيب بإسهال مفاجئ، جعل ذراقه (برازه) يتساقط بكثافة على رؤوس الحاضرين.
وكما هو معروف، فالتاريخ يعيد نفسه، لكن بصورة هزلية، ففراخ حمام الأحرار (ذَرَقَتْ) بدورها، ليس بسبب الخوف والفزع، بل من فرط الهيجان الذي أصابها بجنون الانتشاء على وقع أغنية "مهبول أنا" التي تلخص الحكاية، وتختصر علينا مسافة القراءة والتحليل بدلالتها اللغوية، ف "المهبول" هو فاقد العقل والأهوج والأحمق، ومن تمام الحَمَقِ خرق سياق معين، وإقحام أشياء لا علاقة له به، ونحن هنا لا نعقد محاكمة أخلاقية للحزب وشبيبته، وليست هذه مهمتنا، ولكننا نعلق على غياب الذوق والخلط بين أشياء متنافرة، لا تربطها رابطة، ويشهد الجمع بينها على فجاجة الاختيار، ويكفي أن نستشهد بهذا المقطع من الأغنية:
يؤكد البلاغيون أن كثيرا من المواقف الصائبة قد تغدو خاطئة بسبب عجز أصحابها عن تصريفها في الزمان والمكان المناسبين، فالتكيف مع السياق مطلب ملح، يحقق النجاح لصاحب الإرسالية، ويبدو أن منظمي هذا الملتقى كانوا على وعي بما أقدموا عليه، واختاروا بدورهم التكيف، ليس مع الواقع السياسي، وليس مع انتظارات المغاربة من حكومة يترأسها حزبٌ، قَدَّمَ لهم وعودا أدخلتهم جنة الخيال، وما زالوا ينتظرون جنة الرفاهية الحقيقية على جمر أحرقهم، ويوشك أن يحولهم وأحلامَهم إلى رماد.
يعلم المنظمون جيدا أن عرى الوصال الحزبي بالمغرب تكاد تكون منقطعة، ويدركون تمام الإدراك أن الشبيبة الحاضرة لا علاقة لها بالنضال الحزبي ومفرداته الثقيلة، لذلك كانوا كرماء مع (ضيوف)، استقدموهم من مختلف أقاليم المملكة ليؤثثوا المكان، وتنتهي مهمتهم بانتهاء (الحفل) ورجوعِهم إلى منازلهم بنشوة أيامِ (نِشاطٍ)، الباطنُ فيه أضعاف أضعاف الظاهر، وقد عبرت إحدى قيادات الحزب عن هذا الواقع حينما صرحت قائلة: "نحن الشبيبة التجمعية نمثل الشباب المغربي، الحمد لله اليوم الشباب المغربي ناشط وفرحان وضاحك، وحنا نشطحوا معاهم، ونغنيوا معاهم، وما عندناش المشكل، وهذه هي الصورة الحقيقية ديال الشباب المغربي، ما شي هاذيك الصورة اللي تيروجوها تجار المآسي والأزمات".
يذكرنا هذا التصريح بحكايةٍ من حكايات جحا الذي خرج يوما ليبيع عسلا مغشوشا، فعرض بضاعته في قارورة في أعلاها عسل، وفي الأسفل شيء آخر، وجعل الناس يتذوقون عسله ويمرون إلى أن أتوا على الطبقة العليا منه، فما كان منه إلا أن صاح في الوافدين الجدد: لا تأخذوا عسلا، ستصلون إلى الغائط".
ربما كان السكوت أحسن وأفضل من خرجة، جعلت المغاربة يصلون إلى ما حذر منه جحا، ويدركون وهن حزب يقود الحكومة، ويملك قدرات كبيرة لتعبئة الجماهير سياسيا وأيديولوجيا، لكنه اختار الأسهل، وفتح عيون الأحزاب الأخرى على اختراع جديد، يُسقط عنها تعب الهيكلة الحزبية والتنظيمية ومتعلقاتهما، ويجعل الحشود تحج إلى فعالياتها بالآلاف بطعم "الشطيح والرديح" وما جاورهما مما يقتضي ألا نسأل عن خبره.
فوداعا للتأطير الحزبي، ولا مرحبا بانخراط الشباب في هموم مجتمعنا، وهُلُمُّوا جميعا إلى مأدبة (النشاط) التي (تبشر) بغدٍ عنوانُه البقاءُ للتفاهة في واقع، تختزله هذه الأبيات لعبد القاهر الجرجاني:
عرف المشهد الحزبي بالمغرب خلال الأيام القليلة الماضية انعقاد الجامعة الصيفية لحزب التجمع الوطني للأحرار، وهذا الحدث يختزل واقعا حزبيا، يثير كثيرا من التساؤلات، ويجسد أزمة خانقة في مستوى النخب الحالية والمستقبلية، ويصور الإخفاق الحاصل في بناء مشروع حزبي قادر على مواجهة التحديات، وبناء هوية حزبية واضحة، وإنتاج دعاية تليق بالمساحة المخصصة للأحزاب في التدبير السياسي، وتسمح باستقطاب المزيد من النخب والكفاءات والأطر الشابة، فلا مستقبل لأي هيأة كيفما كان نوعها بدون دعايةٍ مؤسسةٍ على بلاغة اختيار اللغة، وانتهاز فرص الظهور، والتكيف مع السياق، وتشفير الرسائل، وانتقاء الأساليب المناسبة للتأثير في الجماهير وإثارة عواطفها، وإقناعها بجدية المشروع الحزبي وراهنيته وقدرته على الاستجابة لتطلعات الشعب المغربي.
ونحن نضع هذه الأرضية، بدا لنا الفرق كبيرا والبون شاسعا بين ما يجب أن يكون في إطار الحاجة الدعائية الملحة، وبين الواقع البئيس لأحزاب تعاني من سكرات الموت في غرفة العناية السياسية المركزة، وتفتقد إلى الوعي النظري بقيمتها الوجودية واستراتيجية العمل الدعائي الكفيل بضخ دماء الحياة في شرايينها المتصلبة نتيجة ركود، طالت سنواته، فجعلها عاجزة عن الحركة السياسية الفاعلة التي من شأنها إصلاح الوضع والدفع بالعجلة الحزبية إلى الأمام.
اختار المنظمون لفعاليات الجامعة الصيفية لشبيبة حزب التجمع الوطني للأحرار التماهي مع أجواء الرقص والغناء "نكاية في تجار المآسي والأزمات" كما صرحت بذلك إحدى القيادات الشبابية للحزب، وهنا وقبل أن نسترسل في الحديث عن واقعة حَمَامِ الأحرار المنتشي بفرحه ونشاطه إلى حد الإسهال، نستأذنكم في استدعاء حدث تاريخي مرتبط بإحدى دورات الألعاب الأولمبية بدولة أوروبية، ارتأت إطلاق أسراب من الحمام في حفل الافتتاح، تعبيرا عن نشدان السلام، وتزامن ذلك مع بدء الاحتفال بالألعاب النارية، وتسبب صوت هذه الألعاب في إفزاع الحمام الذي أصيب بإسهال مفاجئ، جعل ذراقه (برازه) يتساقط بكثافة على رؤوس الحاضرين.
وكما هو معروف، فالتاريخ يعيد نفسه، لكن بصورة هزلية، ففراخ حمام الأحرار (ذَرَقَتْ) بدورها، ليس بسبب الخوف والفزع، بل من فرط الهيجان الذي أصابها بجنون الانتشاء على وقع أغنية "مهبول أنا" التي تلخص الحكاية، وتختصر علينا مسافة القراءة والتحليل بدلالتها اللغوية، ف "المهبول" هو فاقد العقل والأهوج والأحمق، ومن تمام الحَمَقِ خرق سياق معين، وإقحام أشياء لا علاقة له به، ونحن هنا لا نعقد محاكمة أخلاقية للحزب وشبيبته، وليست هذه مهمتنا، ولكننا نعلق على غياب الذوق والخلط بين أشياء متنافرة، لا تربطها رابطة، ويشهد الجمع بينها على فجاجة الاختيار، ويكفي أن نستشهد بهذا المقطع من الأغنية:
يا حياتيانتيا عارفه عندي غاليةوڭاع اللي قالو هضره خاويةصافي الاولى نجيبوها التاليةتعالي ليا بيبي ضمينيانتيا ملاك..........................العمر والكبيدهانتيا اللي كنهواكوما على بالي بيهم انا
يؤكد البلاغيون أن كثيرا من المواقف الصائبة قد تغدو خاطئة بسبب عجز أصحابها عن تصريفها في الزمان والمكان المناسبين، فالتكيف مع السياق مطلب ملح، يحقق النجاح لصاحب الإرسالية، ويبدو أن منظمي هذا الملتقى كانوا على وعي بما أقدموا عليه، واختاروا بدورهم التكيف، ليس مع الواقع السياسي، وليس مع انتظارات المغاربة من حكومة يترأسها حزبٌ، قَدَّمَ لهم وعودا أدخلتهم جنة الخيال، وما زالوا ينتظرون جنة الرفاهية الحقيقية على جمر أحرقهم، ويوشك أن يحولهم وأحلامَهم إلى رماد.
يعلم المنظمون جيدا أن عرى الوصال الحزبي بالمغرب تكاد تكون منقطعة، ويدركون تمام الإدراك أن الشبيبة الحاضرة لا علاقة لها بالنضال الحزبي ومفرداته الثقيلة، لذلك كانوا كرماء مع (ضيوف)، استقدموهم من مختلف أقاليم المملكة ليؤثثوا المكان، وتنتهي مهمتهم بانتهاء (الحفل) ورجوعِهم إلى منازلهم بنشوة أيامِ (نِشاطٍ)، الباطنُ فيه أضعاف أضعاف الظاهر، وقد عبرت إحدى قيادات الحزب عن هذا الواقع حينما صرحت قائلة: "نحن الشبيبة التجمعية نمثل الشباب المغربي، الحمد لله اليوم الشباب المغربي ناشط وفرحان وضاحك، وحنا نشطحوا معاهم، ونغنيوا معاهم، وما عندناش المشكل، وهذه هي الصورة الحقيقية ديال الشباب المغربي، ما شي هاذيك الصورة اللي تيروجوها تجار المآسي والأزمات".
يذكرنا هذا التصريح بحكايةٍ من حكايات جحا الذي خرج يوما ليبيع عسلا مغشوشا، فعرض بضاعته في قارورة في أعلاها عسل، وفي الأسفل شيء آخر، وجعل الناس يتذوقون عسله ويمرون إلى أن أتوا على الطبقة العليا منه، فما كان منه إلا أن صاح في الوافدين الجدد: لا تأخذوا عسلا، ستصلون إلى الغائط".
ربما كان السكوت أحسن وأفضل من خرجة، جعلت المغاربة يصلون إلى ما حذر منه جحا، ويدركون وهن حزب يقود الحكومة، ويملك قدرات كبيرة لتعبئة الجماهير سياسيا وأيديولوجيا، لكنه اختار الأسهل، وفتح عيون الأحزاب الأخرى على اختراع جديد، يُسقط عنها تعب الهيكلة الحزبية والتنظيمية ومتعلقاتهما، ويجعل الحشود تحج إلى فعالياتها بالآلاف بطعم "الشطيح والرديح" وما جاورهما مما يقتضي ألا نسأل عن خبره.
فوداعا للتأطير الحزبي، ولا مرحبا بانخراط الشباب في هموم مجتمعنا، وهُلُمُّوا جميعا إلى مأدبة (النشاط) التي (تبشر) بغدٍ عنوانُه البقاءُ للتفاهة في واقع، تختزله هذه الأبيات لعبد القاهر الجرجاني:
كَبِّرْ على العلم يا خليلي ..... وملْ إلى الجهل مَيْلَ هائِموعِشْ حمارا تَعِشْ سعيدا .... فالسَّعْدُ في طالِعِ البهائم
0 تعليقات
السلام عليكم و مرحبا بكم يمكنكم التعليق على أي موضوع ،شرط احترام قوانين النشر بعدم نشر روابط خارجية سبام أو كلمات مخلة بالآداب أو صور مخلة.غير ذلك نرحب بتفاعلكم مع مواضيعنا لإثراء الحقل التربوي و شكرا لكم.