في انتظار الترقية

تاريخ النشر: آخر تحديث: وقت القراءة:
للقراءة
عدد الكلمات:
كلمة
عدد التعليقات: 2 تعليق
نبذة عن المقال: في انتظار الترقية

 في انتظار الترقية

المهدي قنديل

المهدي قنديل

لهاث ساخن جارح، وجبين يتفصد عرقا، وكتف تثاقلت من جراء الحمل الثقيل الذي يمسكه عباس منتظرا قدوم رئيس مصلحة الموظفين لمدّه بالملف القانوني المقدّم لنيل الترقية التي انتظرها لسنوات، وخطط أنه سيفعل بمبلغها وقيمتها العجب العجاب، لأنه أخيرا سيضع حدّا للفقر الذي نخره منذ أن وطِئت رجلاه عتبة الوظيفة العمومية، وأصبح التلاميذ ينهلون من دمّه البارد.

أخيرا، وصل الموظف المكلف بإدارة مصالح الموظفين العموميين بعد قعود دام لساعات، حتى فقد عباس الإحساس في منطقة معينة من جسمه، وغالبه النوم فوق كرسي قديم هرم ممسوخ عن كرسي دنسن القابل للطي، غير أن كرسي الإدارة العمومية قد يطوى للأبد، لأنه لا يقوى على حمل رجل بدين مثله، كهل يعاني قرحة المعدة وهشاشة العظام، بل إنه يقوى على إثقال جالسيه بأمراض أخرى كآلام الظهر وارتفاع الضغط والسكري وغيرها.

بعد لحظات من الأمل والانبعاث، وتبادل عبارات السخط بين الجالسين المنتظرين، سمع عباس اسمه ولقبه ورقم ترتيبه في اللائحة: "عباس بن زيدان"، فاستجمع مفاصله التي كانت تبدو كآلة مفككة تحتاج إلى تصليح، ثم دلف المكتب المنبعثة منه رائحة الشيخوخة المبكرة، أوراقه مبعثرة تطايرت بفعل روامس الاحتجاجات الأخيرة. فلم تقو الأيدي على إعادة ترتيبها في رفوفها كما يستحق أصحابها، بينما الألسن استجمعت صلابة قوية لنهر المرتدّين وإعادة تثنيتهم. وجّه الموظف سؤاله المعتاد: " آش جابك السي عباس ؟

 جئت بملفي إليكم لأستفيد من حقي في الترقية، فأنا ولله الحمد استوفيت مدة عشرين عاما قابعا في السلم التاسع، حتى ألف الشباك الأوتوماتيكي عدد الدراهم التي تصله نهاية كل شهر. ويسعد في بعض الأشهر الأخرى إذا أضيفت إليه بعض السنتيمات المسترجعة من نفقة الأدوية، وهذه السنة، لا محالة سيسعد كثيرا بعد أن تدرّ عليه الخزينة العامة مبالغ شهرية، مسبوقة بمبلغ كبير، أفكر في شراء قطعة أرضية بالقرب من "أولاد زيان"، حيث موطن أهلي وأهل زوجتي. ثم خطرت بباله فكرة الاستثمار في مشاريع البناء، والتجول أمام العمال بسيارته الفارهة ذات اللون الأبيض الناصع، صنعها العقل الألماني على نحو رفيع، قبل أن يطرد عباس فكرة التجول بها داخل أسوار المدينة الراقدة، وسرعان ما خضع ملفه للمراقبة، وعدِّ سنوات العمل، طلب منه الموظف المغادرة والانتظار إلى حين تسوية ملفه من قبل لجنة المالية بالرباط، وقبله التأشير على ترقيته بالإدارة العليا التابع لها، ليبدأ مسلسل التخمين والتكهن، فكر أن يطرح سؤاله على الموظف حول المبلغ الضخم الذي سيتوصل به، غير أن الحشمة اغرورقت في عينيه، فلفّ سعادته تحت إبطه، ثم غادر.

خرج عباس والفرح يغمر محياه متمنيا للجميع ترقية سعيدة وغنيمة مباركة، ثم عدّ خطواته نحو بيته، وقبل الوصول أشعل سيجارة من نوع "غولواز" معتبرا أنها مسألة وقت وترقية لهجر هذا النوع من السجائر الخاص بطبقة الفقراء والمسحوقين، والتوجه نحو شراء "مارلبورو" للإنعام بحياة الأغنياء. وفور وصوله إلى المنزل، تلقى وابلا من الأسئلة التي تحتاج إلى أجوبة واستفسارات. فزوجته تأمل في تغيير أفرشة البهو وشراء عقد أجود وأرفع من العقد الفريد لابن عبد ربه، ثم أطلقا العنان لضحكاتهما السريعة، ومناقشة مقدار المبلغ الضخم الذي ستدرّه وزارة المالية في حسابه، ربما سيتصلون به من مكتب الوكالة البنكية لاستفساره عن الصيغة التي سيصرفون له بها المبلغ. فكرت الزوجة في إفراغ حقيبتها الخشبية من الألبسة التي لا تستعمل، وتسليمها لعباس للذهاب بها إلى البنك. وسرعان ما ردّ عليها أن هذا غير لائق بموظف عمومي سيحصل على ترقية سمينة. فكر في استعارة الحقيبة الجلدية ذات اللون البني لجاره عبد السلام، فأيقن أن هذا الفعل سيكلفه إعارة جزء من المبلغ للجار بعد علمه بأن عباس بلغ الثراء الفاحش. طرد كل هذه الصور من ذهنه وباشر عمله في اليوم الموالي متيقنا بأن الوزارة ستبعث له رسالة مكتوبة وليس رسولا يخبره بترقيته حفاظا على خصوصية الأمر، وهكذا قضى الأيام غارقا في التفكير حتى أنهكه الإعياء والتعب، ولم يعد للمبلغ الكبير سنتيم واحد دون التخطيط له أين سينفق، بل وضع احتياطات إذا ما بقي من المبلغ شيئا لما يسمى بالظروف المفاجئة.

 ذات صباح، وبينما عباس منهمك في تعليم الصغار قيم المواطنة، وما يجب أن يكنه الصغار من محبة للوطن، واستعداد للتضحية من أجله كما ضحى هو بنصف عمره في الفيافي والقفار، ملتزما بتعليم التلاميذ الحروف وقراءة الكلمات والرسائل، وحثهم على الصبر أسوة بما قام به أستاذهم الذي عمّر طويلا وسط حضيض الجبال الشاهقة، مستمتعا بأنغام الغزلان، ورقصات الأفاعي والعقارب على إيقاعات الصيف الحارة.

 دخل المدير حاملا ملفّه اليومي، ضاحكا مستبشرا، سلّم الرسالة لعباس، طلب منه التوقيع على التسلم، ثم غادر القاعة. قعد عباس على كرسيه الخشبي منتشيا بالخبر الصباحي الجميل، يتأفف من اختلاط المشاعر والأحاسيس عليه، ويشعر بالتوتر لعدم قدرة قراءة أصفار المبلغ الكبير المكتوب داخل الرسالة، أخذته رغبة في أن يطرد التلاميذ من الفصل، أو يتركهم عند السيد الحارس بوعبيد، والذهاب عند زوجته لإخبارها بقدوم المبلغ محنطا في رسالة مقفلة بإحكام، لم يعد قادرا على التفكير، غاب في غابة الترقية وأنسته غبطة المال أنه حامل الظرف. قعد ثم وقف ثم أعاد القعود هذه المرة، أمر التلاميذ بالتصفيق على ريح عاتية، ابتسم الملاعين الصغار، وبعضهم قهقه حتى ظهرت أسنانه الخلفية، وبعضهم أطلق صفيرا وصيحات. ربما عباس توصل بخبر انتقاله وهو الآن يشاركنا سعادته، هكذا فكر الصغار، ثم شرع في تهدئة الأوضاع، وعاد إلى مكتبه ماسكا رسالته المقدسة كما لو يمسك سرّا جنونيا، فتح الظرف، قلّبه بين يديه، اطلع ترويسته، فوجد مكتوبا بالخط العريض:

- "في شأن إخباركم بموضوع ترقيتكم وتسوية وضعيتكم إلى الرتبة 5"

- يشرفنا إخباركم بتسوية ملفكم في شأن ترقيتكم إلى الرتبة 5، ونحيطكم علما أن مبلغ الرتبة محدد في 80 درهما.

شعر عباس بعرق بارد ينزل أسفل ظهره، عرق أبرد من الثلج، وتحسس أصابع تمسكه من رقبته، تمنع وصول الهواء إلى رئتيه الضعيفتين، اللتين أنهكهما التدخين، وبدأ مسلسل التخمينات يتقافز إلى ذهنه بشكل متسارع...البقعة الواسعة ضيقت مساحة التفكير في عقله، والسيارة البيضاء الناصعة تحولت إلى تابوت يرى فيه نفسه ملفوفا في كفن، ويسمع لترهات المعزين وخرف المشيعين. هم لا يعرفون أن الترقية ربما وضعت بين أيدي غير آمنة، وربما خضعت لمسطرة ستجعلها تتأخر، هكذا اختلطت عليه الأسئلة لحظتها، ووقف عاجزا عن إيجاد حل لها. خرج أمام عتبة الفصل، جلس على حجرة صلبة في الأرض، سالت دموعه المتراخية، أغمض عينيه وتمعن في سماع نباح كلاب القرية البعيدة، ما إن فتحهما حتى وجد المدير يسلمه إخبار إحالته على التقاعد.



التصنيفات

قد تُعجبك هذه المشاركات

إرسال تعليق

السلام عليكم و مرحبا بكم يمكنكم التعليق على أي موضوع ،شرط احترام قوانين النشر بعدم نشر روابط خارجية سبام أو كلمات مخلة بالآداب أو صور مخلة.غير ذلك نرحب بتفاعلكم مع مواضيعنا لإثراء الحقل التربوي و شكرا لكم.

تعليقان (2)

1141781167114648139

العلامات المرجعية

قائمة العلامات المرجعية فارغة ... قم بإضافة مقالاتك الآن