في مؤسسة واحدة شتان بين أستاذ وأستاذ ...

 في مؤسسة واحدة شتان بين أستاذ وأستاذ ...

في مؤسسة واحدة شتان بين أستاذ وأستاذ ...


بقلم نور الدين الداودي

مديرية العيون
أستاذ متقاعد



أنا أكتب هذا المقال وأنا أعلم أنه سيغضب الكثيرين ممن لا يريدون أن ينظروا في المرآة ولا يحبون جلد الذات ولا يعترفون بالواقع كما هو بل كما يتمنونه أن يكون وأقول منذ البداية إني لا أعمم ولا أقدح في أحد وأني أنتمي إلى أسرة التعليم وأفتخر بذلك لكن الصدق مع الذات أول الطريق إلى الإصلاح.
الله خلق الناس مختلفين وليسوا سواسية لا في الفهم ولا في الإدراك ولا في الشغف ولا في الرغبة في العطاء هناك من دخل ميدان التعليم عن جدارة واستحقاق وحب وعشق لهذه الرسالة واشتغل بروح عالية وتفانٍ لا يُصدق وتعلّم كل يوم وطور نفسه وقرّب من تلامذته واحتضنهم وساندهم نفسيا ومعرفيا ومنهجيا لم يكن عنيفا ولا فظّا بل صارما بقيمته وهيبته وكاريزمته يحترمه الجميع دون أن يصرخ أو يسب أو يهين أذكر أساتذتي الذين كانوا يكتفون بعقوبات تربوية رصينة يطلبون منا كتابة الدرس خمس مرات أو إنجاز تمرين صعب أو تلخيص فقرة ويكافئوننا بكلمة طيبة أو ابتسامة أو دريهمات أو حتى تصفيقات من زملائنا داخل القسم لم يسبق أن شعرت بالإهانة منهم بل كنت أشعر بالفخر حتى وأنا أُعاقب لأنني أعلم أنهم يعاقبونني حبّا لا كرها وكانوا إذا أخطؤوا يعتذرون منّا بكل احترام ورفعة أخلاق وهذا لم يكن يُنقص من قيمتهم بل يزيدها ويغرس فينا الإعجاب والاحترام ويجعلنا نحفظ كلماتهم إلى اليوم لم ننسَهم ولم ينسونا كانوا يحفرون في ذاكرتنا بأخلاقهم قبل علمهم يشجعون حتى الكسالى ويرون في كل تلميذ شمعة تحتاج فقط من يُشعلها.

لكن في المقابل رأيت وسمعت وعاينت أساتذة دخلوا هذا الميدان هربا من البطالة لا حبّا في الرسالة أساتذة لا يحضرون ولا يحضّرون ولا يقرأون لا يطورون أنفسهم ولا يهتمون بتلامذتهم همّهم البقع الأرضية والساعات الإضافية والمقاهي والسيارات والمشاريع الخاصة لا تسمع منهم إلا السب والشتم والتجريح في حق أطفال ومراهقين في سن حساس جدا كلمات كالسكاكين "كسول" "مكلخ" "الحمار" " الجليج" وغير ذلك من المصطلحات الجارحة التي لا تزيد المتعلم إلا نفورا ولا تزيد القسم إلا توترا.

أذكر يوما وأنا أستاذ متدرب في الثمانينات في مدينة من مدن المغرب رأيت أستاذة قالت لتلميذة أمام الجميع "سكتي علينا نتي الأم ديالك غير صبّانة ديال لحوايج عند ناس" عجز لساني عن الكلام احمرت عيناي بالدموع وشعرت بخنجر يغرس في قلبي التلميذة صمتت وانكمشت على نفسها أرادت أن تختفي في الأرض إهانة قاسية لفتاة بريئة وإهانة لوالدتها التي تشتغل عملا شريفا لتكسب لقمة عيش بالحلال أما زملاؤها فانفجروا بالضحك ضحك الجهل لا الفرح هل هذا تعليم وهل هذه قدوة وهل هذه إنسانة تستحق أن توصف بالأستاذة

هناك أساتذة يمثلون على المفتشين إذا زاروهم فجأة يصبحون ملائكة يتكلمون بلطف ويبتسمون للتلاميذ ويشرحون بوضوح ويمثلون دور الأستاذ المثالي تمثيلا بارعا ثم بعد انصراف المفتش يعود إلى سبابه وتهكمه وكسله وسطحية شرحه نفاق تربوي لا ينطلي على التلاميذ حتى نحن كنا نراه ونفهمه ونحن أطفال.

من المؤسف أن تجد أستاذا يبتز التلاميذ للحضور عنده في مركز خاص للساعات الإضافية يشتغل هناك بكل طاقته ويشرح بكل حماسه ثم في القسم يتكلم بنصف صوت ويكتب بعشوائية ولا يصحح ولا يتفاعل ولا يكلف نفسه عناء التواصل مع أبناء الشعب.

رأيت أساتذة لم يفتحوا كتابا منذ أن كانوا تلاميذ مجتهدين فقط أصبحوا أساتذة وما زالوا بتفكير التلميذ المجتهد لا يقرأون لا يبحثون لا يطوّرون أساليبهم لا يواكبون لا يبتكرون لا يجربون الجديد لا يطرحون الأسئلة حول مدى تأثيرهم لا يراقبون تقدم متعلميهم فقط يحضر ويشرح ويخرج.

أنا كتبت هذا الكلام من قلبي بعد أكثر من ثلاثين سنة في التعليم والله يشهد أنني لم أحتج يوما إلى صراخ ولا سب ولا عنف لم أسمع يوما أن تلميذا اشتكى مني كنت قريبا منهم أعرف أسماءهم وحكاياتهم وأحوالهم ونقاط قوتهم وضعفهم كنت أنظر إلى المتعثر كفرصة لا كمشكل كنت أقول له "أنا معك حتى تنجح" لم تكن عندي عصا لكن كانت عندي كلمة صادقة وحزم نافع وروح عالية كنت أحب أن أبتكر ألعابا داخل القسم للتعلم كنت أقرأ وأتعلم وأفرح عندما أكتشف فكرة جديدة وأجربها.

أقولها لكم وأنتم ما زلتم تمارسون هذه الرسالة الجليلة تواصلوا مع تلامذتكم تواصلوا من القلب إلى القلب قل خيرًا أو اصمت لا تسخر لا تجرح لا تحتقر من فضلكم التلميذ إنسان صغير وليس جمادا يحتاجك نفسيا أكثر من حاجته للدرس أنت هو سيد القسم بهيبتك وشخصيتك وأخلاقك وليس بعصاك ولا بلسانك القاسي.

المهنة تحتاج إلى أنقياء لا إلى انتهازيين إلى عشاق لا إلى باحثين عن الربح السريع إلى حالمين لا إلى تجار أكرر أنني لا أعمم ولكنني أحكي الحقيقة كما عشتها كتلميذ ثم كأستاذ هذه تجربتي وهذا كلام من القلب وأعلم أن البعض سيهزأ به أو يهاجمه لكنني أكتب للحقيقة ولضميري وأعرف أن في قلوبكم من يفهمني ويشعر بما أقول.

رحم الله كل أستاذ كان مربيا بحق وجازاه عن كل حرف علمه خيرا وهدى الله كل من ضل الطريق وتذكروا أن الكلمة الطيبة قد تغيّر مسارا وأن العنف قد يحفر جرحا لا يُشفى أبدا.