إبداع أدبي تربوي (قصة) بعنوان: أيام المشمش
المصطفى سالمي
كان معمل المشمش بمدينة آسفي يستقطب العديد من العمال والعاملات في شهر ماي من كل سنة. وكانت الشاحنات تأتي من مدينة مراكش محمّلة بصناديق من فاكهة صفراء تميل إلى الحمرة قليلا.
انطلق السيد حميد إلى المعمل في يومه الأول بعد أن أغلق دكانه حيث يمارس مهنة الخياطة. أحس بأن هذه المهنة تتآكل في مدينته المهمّشة، فالناس ـ بفعل الكساد الجاثم على وضعهم الاقتصادي ـ ما عادوا يقومون بتفصيل الثياب الجديدة، فقد ألزمهم الفقر والعوز شراء القديم والبالي من الثياب، بينما الموظفون يتوجهون إلى قلب المدينة حيث المتاجر الكبرى، أو إلى مدن البيضاء ومراكش حيث الواجهات الزجاجية التي تُغري ببريقها أصحاب الجيوب الدافئة. لقد مل "حميد" حياة الترقيع، فحياته أيضا مرقعة وهو لا يفعل في دكانه في أيامه الأخيرة غيرَ ترقيع بعض السراويل والأقمصة المتهالكة بدراهم معدودات.
في صبيحة ذلك اليوم تعرّف "حميد" على زملائه في العمل الجديد بمخازن معمل المشمش: "خالد" و"محمد" شابان قويان وصديقان عاشا تجربة السفر إلى ليبيا وعادا بخفي حُنين. و"نبيل" خريج جامعي سيعرف فيما بعد أنه مجاز في اللغة العربية. و "شُعيب" ابن صاحب المخزن الذي تخزّن فيه السلع وأدوات العمل، ومنه تُخرج صناديق المشمش إلى المعمل.
شرح لهم المسؤول مهمتهم. إذ عليهم أن يقوموا بمدّ عظام المشمش على الأرض في مساحة مبلطة واسعة بواسطة مذراة حتى تجف، وأثناء ذلك يقومون بتنقيتها من بقايا المشمش والنفايات الأخرى. ويستمر التقليب بالتناوب بين العمال الخمسة في المخازن طوال النهار. وأما اليابسة من العظام والتي قضت ـ تحت شمس النهار الحارقة ـ يومين أو ثلاثة، فيتم تجميعها في صناديق خاصة وشحنها بواسطة شاحنات تحملها نحو معمل اللصاق بالبيضاء حيث تُستَخرج منها المادة السائلة التي يستعملها الطلاب لتلصيق الأوراق. بينما القشور تُستعمل كوقود في الأفران. وفي المساء عليهم تفريغ الصناديق المليئة بالمشمش على طاولات النساء في المعمل وحمل صناديق العظام إلى المخازن.
كان المعمل حيث تعمل النسوة أشبه بالحمام الشعبي، هرج ومرج ونساء لا يتوقف صراخهن الذي لا يعدو أن يكون حديثا في عُرفهن. إنهن يقمن بتقطيع حبة المشمش بواسطة آلة حادة إلى نصفين، ثم يتم غسل هذه القطع ووضعها في أوعية معدنية صفراء، ويصب علها ماء مُحلّى بالسكر. وتوضع الأوعية في الأفران قبل أن يُوضع عليها الملصق الجميل وتُرصّ في صناديق خاصة لشحنها نحو التصدير. ويحكي المسؤول عن المخازن ـ الذي حرص على اشتغال ولده مع الأربعة لتدبّر لوازمه الدراسية ـ أن هذا الصنف من المنتوج هو الأحسن جودة وأكثر مردودية من باقي المنتوج الذي يخصص للاستهلاك المحلي، وهذا الأخير ليس إلا المُربّى الذي يتناوله مواطنو هذا البلد من الفئات المسحوقة. كانت البراميل البلاستيكية الضخمة يتم ملؤها بالمشمش المهترئ، وتُصبّ عليه مادة: "الصودا" ويُحكم إغلاقها، ثم يقوم العمال بدحرجة البراميل في وضعية المقلوب جيئة وذهابا عدة مرات، وتركها بعد ذلك بضعة أيام قبل أن تُصفّى المادة العسلية بمصفاة تعزل العظام، حينئذ فقط تختفي الديدان البيضاء بقوة مفعول "الصودا" من هذا المُربّى. ثم تُصفف القنينات.
كان " نبيل" ـ مُجاز العربية ـ يعتبر نفسه محظوظا بالعمل في المخازن، حيث يحظى بمعاملة أكثر إنسانية مقارنة بالذين يعملون داخل المعمل فقد كان عرقهم يتصبب وحركتهم لا تتوقف في الشحن والتفريغ. وحمل الأوعية إلى الأفران أو إلى الشاحنات. هنا الأوامر لا ترحم والتعليمات لا تتوقف. كان "نبيل" يستشعر بعض الراحة مع الأربعة والمسؤول المباشر الذي كان يسمح له أحيانا بالذهاب لبيته لتناول وجبة الغذاء ثم العودة السريعة لمواصلة العمل الذي يمتد لظلام الليل. ساعات متصلة تصل أحيانا لستة عشرة ساعة، وإن كان (المايسترو) يُقزّمها لتصبح النصف أحيانا. ولم يكن مسموحا بالاحتجاج أو الاعتراض وإلا يمزق بطاقة العمل ـ التي يدون عليها ساعات العمل من بداية الاشتغال ـ وحينئذ إلى الله المشتكى. وكم عاملة كان يوقع لها ـ بتواطؤ مع صاحب المعمل ـ أربع أو ست ساعات فتكتفي بالنحيب والبكاء طيلة نهار عملها وليله، أو تصبّ جام غضبها على المنتوج الذي أمامها فتبصق فيه أو ترمي فيه من النفايات ـ خلسة ـ ما تشاء، ولكنها لا تدري أنها تنتقم من بؤساء مثلها ـ سيستهلكونه ـ دون أن تدري.
وفي المساء تتدثر النساء بـ (الحايك) ـ "اللباس التقليدي للمرأة العبدية" ـ ثم ينطلق العمال رفقة النساء لإيصالهن قريبا من بيوتهن ، خاصة وأن مساحة واسعة خالية من العمران بين الحي الصناعي ومنطقتي "كاوكي والقليعة" التي هي المنطقة الأشد بؤسا وفقرا وتصديرا لليد العاملة الرخيصة، وتصديرا كذلك للمتشردين والمجرمين ومدمني الكحول والمخدرات.
كان السيد (العبدي) ـ المسؤول عن المخازن ـ يتعاطف مع العمال والعاملات، وأحيانا يغامر مغامرات كبيرة كيوم جلب لرفاقه في المخازن وعاء أصفر ساخنا ـ لم يكن مسموحا لأي كان من العمال باستهلاكه ـ وقدمه مع أرغفة وعلب سردين من المعمل المجاور في وجبة الغذاء. أحس "نبيل" بأن "العبدي" أشبه بالوالد الذي افتقده منذ سنوات. كان الرجل يتعاطف معه لأنه يعلم مستواه الجامعي، ويخاف أن يتهدد المصير نفسُه ابنه الطالب بالباكالوريا.
شرب رفاق العمل الستة الشاي المنعنع واستلقوا على الورق المقوى ليستريحوا قليلا. ففي هذا الوقت يذهب (المايسترو) للغذاء في بيته بواسطة سيارته الأنيقة. هم لذلك في مأمن من زيارات تفقدية مفاجئة.
في المساء كانت شاحنة النفايات تخرج من الباب الخلفي، ووسط النفايات كان السيد "العبدي" يخفي صندوقا من أحسن صناديق المشمش ـ وربما صناديق أخرى كانت تتخذ لها وجهة مجهولة ـ وخارج المعمل خلف الحي الصناعي يوزع الرجل بضعة أكياس على مرافقيه الذين اشترك معهم "الملح والطعام" ليضمن عدم وشايتهم، ويبرر صنيعه بأن رب المعمل يسرق عرقهم، فالمعاملة بالمِثل ـ في شرعه ـ جائزة ما دام البادئ أظلم.
تمر أسابيع المشمش الثلاثة. صناديق تأتي و تذهب محمّلة بعظامه وبأوعية معدنية وأخرى زجاجية. ثم تأتي لجان ـ قيل إنها أجنبية تتفقد المنتوج المفترض تصديره ـ وهنا تُسمع همهمات وتهديدات بأن السلع إن لوحظ عليها اختلالات، فلن ينال العمال أجورهم، لكن الله لطف.
تمر أيام المشمش وتبدأ أيام انتظار صرف المستحقات. يأتي العمال والعاملات ويجلسون بجوار جدران المعمل صباحا ومساء طيلة أسبوع كامل أو أكثر، قبل أن يُطلَبَ منهم أن يشكلوا طابورا كبيرا في شمس حارقة. وعليهم أن يتصببوا من جديد عرقا بعد أن جفّ عرقهم الأول ولم ينالوا أجرتهم، في انتظار الانتقال لمعمل آخر يذوقوا فيه ويلات أخرى من زمن التعاسة المتعددة الألوان، في بلد مترامي الأحزان.
0 تعليقات
السلام عليكم و مرحبا بكم يمكنكم التعليق على أي موضوع ،شرط احترام قوانين النشر بعدم نشر روابط خارجية سبام أو كلمات مخلة بالآداب أو صور مخلة.غير ذلك نرحب بتفاعلكم مع مواضيعنا لإثراء الحقل التربوي و شكرا لكم.