حـق التعليـم وكابـوس القطـاع الخـاص
لن نعيد اختراع العجلة بالحديث عن الحق في تعليم عمومي موحَّد جيّدٍ للجميع، لكننا مضطرون إلى ذلك في المغرب، وما اضطرارنا إليه إلا بسبب الواقع الذي أصبح يفرضه قطاع التعليم الخصوصي في البلد، مسنودا بشكل سافر من لدن الدولة بكل مؤسساتها!
تنص "الاتفاقية الأممية الخاصة بمكافحة التمييز في مجال التعليم"، والمعتمدة منذ 1960، على محاربة كافة أنواع التمييز التي تشمل كل ما يتعلق بـ"فرص الالتحاق بالتعليم، ومستواه، ونوعيته، والظروف التي يوفرها"، كما ينص البند الثاني من المادة 13 من "العهد
الدولي الخاص بالحقوق الثقافية" المصادق عليه منذ 1966 على "أولا: جعل التعليم الابتدائي إلزاميا، وإتاحته مجانا للجميع. ثانيا: تعميم التعليم الثانوي بمختلف أنواعه، وجعله متاحا للجميع. ثالثا: جعل التعليم العالي متاحا للجميع، على قدم المساواة، تبعا للكفاءة".
وتبعا لهذا، لم يكن مستغربا أن تُصدر الأمم المتحدة في أبريل 2015 تحذيرا للمغرب، تطالب فيه "لجنة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية" الحكومةَ المغربية بالوفاء بالتزاماتها فيما يتعلق بالحدّ من اللامساواة في ولوج الأطفال إلى المدرسة، منبهة إياها إلى ما اعتبرته تطورا غير متحكم به فيما يخص التعليم الخصوصي، مما أدى إلى توسيع مظاهر الاختلال في ضمان حق الأطفال المغاربة في التمدرس، بعد أن رصدت – بإحصائيات خطيرة – توسع رقعة المؤسسات الخاصة على حساب المؤسسات العامة التي أغلقت الدولة نفسُها كثيرا منها، أو حوّلت وظيفتها، في انتظار تفويتها إلى لوبي التعليم الخاص ضمن ما سمي بـ"المدارس الشريكة"، وهو ما أوقد نارَ صراع داخلي غير أخلاقي للظفر بهذه "الغنائم"، وصل بتجار التعليم من أرباب المال إلى وصف بعضهم البعض بالإقطاعيين! كما فضح التحذيرُ الأممي ما ليس يخفى من كون "السلطات المغربية هي من تعمّم فكرة أن التعليم الخصوصي أفضل وأحسن من التعليم العمومي، رغم أن الفكرة غير صحيحة... وذلك لأن الدولة المغربية تريد التقليص من أدوارها، فترمي بالثقل نحو القطاع الخاص، معتقدة أنه يقدم حلولا ناجعة لمشاكل التعليم التي لم تستطع إصلاحها"!
وتجدر الإشارة إلى أن هذا التحذير الأممي، من باب تجريم التمييز، تنبني أدبياته على قياس تطور نسبة الخوصصة في قطاع التعليم؛ إذ كلما كانت وتيرة النسبة في تصاعد أسرع كانت مؤشرا حادا على تراجع الاستفادة من الحق في التعليم العمومي بشكل أسرع كذلك. وباستدعاء معطى أن نسبة الخوصصة في الدول النامية قد تضاعفت في حدود النصف 50% خلال العشرين سنة الماضية، فإن المغرب قد شهد ارتفاعا في السياق نفسه بنسبة 133% بالنسبة للمؤسسات الخاصة، و300% بالنسبة لأعداد المتمدرسين الذين التحقوا بها في الفترة ما بين 2000 و2015 فقط!! وهو ما يبعث الرعب والرهبة معا في قلوب المتتبعين لسيرورة هذا القطاع، على اعتبار أن هذا "التغوّل" المكتسِح ما كان له أن يتحقق لولا التدليل الحكومي الرسمي.
فمن مجرد "مكتب" مكلَّف بشؤون التعليم الخاص في وزارات ما قبل 1985، أصبح الاهتمام به في هذه السنة يستدعي خلقَ "مديرية" كاملة سميت بـ"مديرية التعليم الخاص"، ومع ذلك ظلت المديرية محتشمة، إلى أن برزت للوجود بقوة في تشكيلة الوزارة لسنة 1998، حيث أصبحت تتضمن ثلاثة أقسام كبرى – وتحت كل قسم مصالح، وتحت المصلحة الواحدة مكاتب – منها "قسم الارتقاء بالتعليم الخصوصي" الذي جعلته الدولة أداة قوية لتحقيق ما أسمته "هدفا استراتيجيا" يتمثل في بلوغ الخوصصة نسبة 20% في أفق سنة 2015، وهو ما لم تبلغه (حققت 15% فقط) رغم كل الدعم الذي حظي به القطاع، لا سيما بعد اتفاقية 8 ماي 2007 بين الحكومة وفيدرالية أرباب التعليم والتكوين الخصوصي، والذي تمثل في تسليمه امتيازات ضريبية وعقارية وتربوية، بل وحتى تقنية وجمركية هائلة، مما أسست له الدعامة 18 مما سمي بـ"الميثاق الوطني للتربية والتكوين" من قبل! جنبا إلى جنب الخطاب الرسمي الذي نمثل له بدعوة الملك في خطاب 20 غشت 2012 إلى "النهوض بالمدرسة العمومية، إلى جانب تأهيل التعليم الخاص، في إطار من التفاعل والتكامل"، وكذا بتصريح رئيس الحكومة أمام البرلمان في 19 يناير 2012 الداعي إلى "تثمين دور القطاع الخصوصي، وضمان جودته، واستقلاله بموارده البشرية عن التعليم العمومي، ليكون مجالا للتشغيل، وضامنا لحقوق العاملين فيه".
ورغم كل ذلك، سعى لوبي التعليم الخصوصي – وكثير من أربابه من المتنفذين في حكومة العلن، وحكومة الظل، والبرلمان، ووزارة التربية الوطنية نفسها! علاوة على رجال الأعمال والمنعشين العقاريين!! – إلى حلب البقرة بكل ما أوتوا من قوة، دون الالتفات إلى قيد شعرة مما يحسّن صحتها الغذائية التي تكفل بقاء الحليب، فبالأحرى إدراره؛ وهو ما كشفت عنه محطات مختلفة اتضح من خلالها الجشع الرأسمالي الرهيب الذي يقف وراء القطاع، ويكشف كذب الشعارات التمويهية التي تم ترويجها من أجل إيقافه على سوقه، من قبيل "تعميم التعليم" و"تنويع العرض التربوي أو الخيارات التربوية" و"تكافؤ الفرص" و"التكامل مع التعليم العمومي" وغيرها، مما نقتصر على ذكر التمثيل لشناعاته بحدثين بالغي الدلالة.
فبعد أن ظل هذا القطاع يعتمد بشكل طفيلي واسع على أطر وزارة التربية الوطنية العموميين في استثماراته منذ أنشئ، قدمت له الدولة بحسب اتفاق 8 نونبر 2008 عرضا في طبق من ذهب، تمثل في تكوين وزارة التربية الوطنية عشرة آلاف إطار 10000 لصالحه من حملة شهادات الإجازة، بغلاف قدر بـ 161 مليون درهم من المال العمومي، على مدى ثلاث سنوات؛ وذلك على أساس أن يلتزم القطاع المذكور بتوظيفهم، وهو ما لم يلتزم به البتة، مفضلا عليه الاشتغال بأطر أقل من ثلثها (29%) فقط حاصل على الإجازة، و23% منهم مستواهم دون الباكلوريا!! مع كثير من أطر وزارة التربية الوطنية الذين ظل لوبي القطاع يتشاكى ويتباكى على حرمانه من خدماتهم بموجب تجميد الوزير المأسوف عليه محمد الوفا للمذكرة 109/2008، ابتداء من شتنبر 2012، وبالتالي عدم السماح لأطر الوزارة (مفتشين وأساتذة) بالعمل في مؤسسات التعليم الخاص، وهو القرار الصائب الذي اتخذه كوضع لتلك المؤسسات أمام الأمر الواقع بسبب تلكئها القديم عن الوفاء بالتزام استقلالها بأطرها، ولتكون رافعة حقيقية لتحدي التشغيل... إلى أن جاء الوزير الحالي محمد حصاد، ليعيد الوضع إلى ما كان عليه بإلغاء المقرر الوزاري في اجتماع مع فيدرالية التعليم الخاص بالمغرب لم يتجاوز 20 دقيقة!! وبالتالي ردّ استقلالية هذا القطاع الخاص الذي يحقق أرباحا خيالية بأطر الدولة من جديد إلى مربع الصفر، تحت الذريعة القديمة نفسها "تمكين القطاع الخاص من توفير حاجياته من الأطر التربوية المؤهلة، من أجل سد خصاصه"، حسب بلاغ تالٍ للوزارة!!
رغم هامش الربح الفلكي الذي تحققه مؤسسات التعليم الخاص في ظل فراغ قانوني يثير استمرارُه الريبة بخصوص حيثيات العرض والطلب داخل السوق المغربي، مما جعل تلك المؤسسات تتبارى سنويا وباستمرار في رفع رسوم التدريس الشهرية، بلا حد ولا سقف، بل ورسوم التسجيل والتأمين التي تُؤكل سحتا باطلا من جيوب المواطنين، وابتكار مصاريف أخرى لا تقف وراءها حاجة تربوية، ولا ضرورة تعليمية، وتتواطأ أيضا – بالمقابل - على التقتير على الطاقم التربوي والإداري والتقني الذي ألجأته الضرورة إلى العمل مع هذا القطاع – وأغلب مُجازيه مستعدون للهروب في أول فرصة كما فعل ألفان 2000 منهم في مباراة التوظيف بالتعاقد الأخيرة (نونبر 2016)، وقد ضمن لوبي الخواص عدم إتاحة فرصة هروبه مرة أخرى بـ"انتزاعه" – وأشكُّ أنه كان انتزاعا - اتفاقا مع الوزير رشيد بلمختار في مارس من نفس السنة، يسمح لهم بالمتابعة القانونية للذين تعاقدوا مع وزارة التربية الوطنية، كما فاز اللوبي بالتزام هذه الأخيرة بعدم التعاقد مع أي من "أطره" مستقبلا، بل وضمان إشراكه في إعادة بلورة رؤية توظيف المتعاقدين، طريقة وإجراءات وتوقيتا، مراعاة السير العادي لمؤسساتهم!!
قلت: رغم هامش الربح الهائل الذي طالما راكمه المستثمرون الخواص في قطاع التعليم بمتواليات هندسية، فقد انفضح الوجه الربحي الجشع لمقاولاتهم من خلال ما كشفت عنه المراجعات الضريبية التي أنجزت منذ أشهر من تهرب ضريبي مُهول، قُيّم بملايير الدراهم، من خلال ممارسات منحطة، تتمثل في تقزيم الأرباح، والنفخ في المصاريف، وتهريب خدمات النقل والإطعام. ورغم أن المحاولات التي قادها بعضهم لانتزاع "تخفيضات" و"تسهيلات" من مديرية الضرائب حين تفجر الفضيحة لم تنجح، مما دفعه إلى عمل غير أخلاقي آخر، تمثل بخوض إضراب – لأول مرة في تاريخه – توقف فيه عن العمل ليوم كامل في طول البلاد وعرضها، كنوع من المساومة باستعمال التلاميذ وأوليائهم رهينة لتحقيق ما يُعد اقترافه جريمة مالية كفيلة بتعريض مقترفها للمحاسبة، علاوة على استرداد الحقوق من الحجز على ممتلكاته... هذا إن لم نفاجأ في مقبل الأيام بالْتِواء على المراجعة في شكل تخفيض، أو تصحيح، أو إعادة مراجعة، أو – ولمَ لا - إعفاء ضريبي شامل، مع الحرص على تكرار اللازمة نفسها حول "دور التعليم الخاص في... وفي... وفي..."!!
والحاصل مما سبق أن مراهنة الدولة على خوصصة التعليم لا يمكن اعتبارها إلا تهربا من واجباتها التي تفرض عليها توفير الحقوق الأساسية للمواطنين بموجب رابط العقد الاجتماعي. وأفتح هنا قوسا للتنبيه على خطورة استعمال مصطلح "التعليم المجاني" أو "مجانية التعليم" عوض "التعليم العمومي" و"الحق في التعليم"، لأن هذه الخدمة/الحق لا مجانية فيها البتة، ما دام المواطن دافعا للضرائب، ومالكا من مُلاك الخيرات المشتركة في الوطن على الشياع. وعلاوة على أن تخلي الدولة عن واجبها خرم للعقد الاجتماعي، فإنه لا يمكن للتعليم الخاص أن يكون مشروعا تربويا وطنيا أبدا، بحكم المنطق التجاري الربحي الذي يحكمه، والذي مفاده أن التعليم "سلعة" يوفرها المستثمرون فيه للقادرين على الدفع، يتقدمهم الأغنى، وليس حقا إنسانيا، يُوفَّر للمواطنين أجمعين القادرين على التحصيل الدراسي، يتقدمهم الأنجب. وباعتبار هذا المبدإ المفسد لماهية التعليم وطبيعته التي تكره التسليع، تُستدعى سلوكيات الرأسمال الجشع إلى ميدان أبعد ما ينبغي أن يكون عنها، كالمنافسة غير الشريفة، وآليات التسويق (الماركتينغ) المضللة المختلفة، وأخطرها الإشهار الكاذب، والنفخ في النقط، والاحتكار متى ما أمكن، والغش في سلعة التعليم كجميع باقي السلع! مع هضم حقوق نسبة كبيرة من "العمال"، تكريسا لوضع مضن يُستنزفون فيه من كل النواحي، في غياب الالتزام بأدنى حقوقهم المقررة، وعلى رأسها الحد الأدنى للأجرة، وتحديد ساعات العمل، والرخص، والضمان الاجتماعي، والتقاعد، مما يبرر الهروب الجماعي الكبير للألفي إطار الذين تحدثنا عنهم آنفا.
وهكذا، وبعيدا جدا عن العدالة الاجتماعية التي تسعى إليها الدول التي تحترم إنسانية الإنسان عامة، وشرف مهنة المدرِّس خاصة، يكرّس القطاع الخاص بالواضح الفاضح مفهومَه للعمل في قطاع التعليم باعتباره "تجارة" لا خدمة اجتماعية، وتزيد معطيات أخرى كثيرة البرهنة على عدم وطنيته، على رأسها توزيعه الجغرافي غير المتوازن، حيث إن قرابة نصف استثماراته (47%) يحتكرها شريط الجديدة – القنيطرة، فأحرى أن يُطلب منه دعم التعليم في فيافي العالم القروي، وعلى قُلل الجبال، أو الإسهام بفعالية في محو الأمية، أو في التربية غير النظامية، أو في حصص الدعم للضعاف، والتقوية للمتفوقين، أو في الدعم الاجتماعي للأسر المعوزة والهشة، من باب الوطنية المدعاة مِن لدن مَن يسوقونه "مكملا" للتعليم العمومي، وما هو إلا "مزاحم" و"منافس شرس" – مع انعدام الشروط الموضوعية للمنافسة العادلة، وأولها عدم استقلالية الحَكَم – يعمل ليل نهار ليكون "بديلا" لا يراهن عليه إلا الذين يراهنون بالمقابل على تخريب المدرسة العمومية التي بإمكانياتها الضعيفة جدا، ورغم كل العوائق الرهيبة التي تُركت وإياها، لا تزال تحقق مستويات عليا من الكفاءة في التحصيل المشهود لها بها دوليا، والتي ينبغي للدولة – إن كانت تريد خيرا بمستقبل البلاد – أن تضطلع بمسؤوليتها الواجبة إزاءها، ولا أقول إنقاذها فقط، ولكن رفعها إلى المكان والمكانة اللذيْن يليقان بها، كما هو الشأن في الدول التي تصنف ضمن الأوائل عالميا على صعيد التعليم، والتي اضطلع فيها الرأسمال الوطني بدور المدعم والراعي، لا بدور المنافس الشره للربح. كما ينبغي ألا تنخرط، ولا تسمح لأحد بالانخراط المجاني في تضخيم أسطورة انهيار التعليم العمومي، والترويج للـ"التفوق" و"الجودة" و"التميز" المزعومة للتعليم الخصوصي، في غياب أية دراسات علمية معترف بها تحيط الظاهرة من كل أبعادها العلمية والتربوية والاجتماعية والنفسية، ولا تروج للأضاليل توطينا لما يراد له أن يكون البديل.
0 Comments
السلام عليكم و مرحبا بكم يمكنكم التعليق على أي موضوع ،شرط احترام قوانين النشر بعدم نشر روابط خارجية سبام أو كلمات مخلة بالآداب أو صور مخلة.غير ذلك نرحب بتفاعلكم مع مواضيعنا لإثراء الحقل التربوي و شكرا لكم.