المعلم والبيض البلدي وأشياء أخرى..
لست أدري كيف تغير المجمع المغربي بهذا الشكل وبهذه السرعة، ولا كيف انهارت بورصة القيم وخسر الأكثرون منا أسهمهم، أو ربما ربحوا الكثير. الأهم في المهم أننا لبسنا جلابيب “لم تواتينا”، وفتحنا أفواهنا أكثر من “ذراعنا”، وتطبعنا مع الكثير مما كان يوصف بخوارم المروءة، وسوء الأخلاق، و”قلة التربية”، و”تربية الزنقة”، و”ماشي خدمة الرجال”… وغيرها من الاصطلاحات التي أفرغت من محتواها اليوم كليا، أو حذفت من قواميسنا الأخلاقية والعرفية. إن من حجج الحداثة والتقدم ومواكبة العصر ما يكفي لإقناعنا أن ما نحن فيه وعليه أمر طبيعي ـ طبَعي للحرصين أكثر على تطبيق قواعد اللغة العربيةـ.
في الحقيقة هذا تقديم طائش لأنه خارج الموضوع. أما داخل الموضوع فهو مجرد تأملات في جلسة شباب “يقرقبون الناب” في المعلمين والمعلمات الأحياء منهم والأموات، ويستحضرون ذكرياتهم مع غباء أهل قراهم عندما كانوا يمودون المعلم بالخبز والبيض البلدي أما اليوم ف”لهلا يوكلو لبوه”.
ليس جديرا بالذكر أن الغيبة في المعلم ليس حراما شرعا ولا قانونا ولا عرفا، ولا تشملها الآية ” ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا” فالمعلم ليس أخ أحد، إنما هو أخ الطباشير والسبورة وكراسات التلاميذ وسيارات الطرونزيت… وأكل لحمه حيا وميتا جائز في كل المذاهب ولا خلاف في ذلك بين فقهاء راس الدرب وراس الحانوت، بل إنه ينصح به طبيا لمعالجة الكثير من الأمراض منها “قلة ما يدار”.
ويقينا لم يتذكر أحد من هؤلاء أنه ما كان اليوم ليميز الألف من “عصا الطبال” لولا المعلم، كما لم يتذكر عدد المرات التي بال فيها داخل الفصل، بل إنه فعلها كبيرة في سرواله وفعل المعلم ما كانت تفعل أمُّه دون أن يشكره أحد، وحفاظا على الصحة النفسية للـ… توعد كل من ضحك من زملائه أو سخر منه بعقاب لم يذقه أحد قبله… ولم يذكر أحدهم أن المعلم كان يكتب ويقرأ كل سائل الدوار دون أن يفشي سر أحد، كما لم يتذكر أحد منهم أن أباه أصر على مغادرته المدرسة، فالرعي والفلاحة أفضل كثيرا من كلام المعلم الذي لا يملأ جيبا ولا يقضي دينا، بينما فعل المعلم كل ما يستطيع وشيئا مما لا يستطيع حتى يترك الأب ابنه أو ابنته يواصل دراسته. في انتظار أن يفعل القدر ما يشاء في مسألة أرزاق العباد.
ما لا يعرفه هؤلاء وغيرهم أن آباءهم القرويين حين كانوا يجودون بالبيض والخبز على المعلم لم يكونوا يفعلون ذلك وفي ذهنهم الكثير من النكت والقصص عن شح المعلم وفقره، أو طمعه وعدم قناعته براتبه من الدولة، أو أنه يستغلهم ليجمع قروشا في البنك ليبني بيتا في المدينة يكتريه منه أستاذ، بل كانوا يعبرون عن كرمهم، وسخاء أهل القرى الذين يجودون وهم المحتاجون، و”يوثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة”، ويخدمون بما يستطيعون، لأنهم يدركون أن المعلم ضيف عابر مهما طال مقامه – إلا أن يقع قلبه في حب إحدى بناتهم، وإذا حدث هذا فتلك حكاية أخرى دعوها الآن جانبا هناك أسفل أوراق الحركة الانتقالية- ولأنه يعطي أبناءهم شيئا غير متوفر في قراهم النائية المهمشة لسنين. البيض كان عندهم وما يزال، وأطفالهم رغم نصائح المعلم بأهمية البيض الصحية فهم يفضلون”الحلوى” و “الفرماج” و”اليوغورت” على البيض والعلة أن مطرب الحي لا يطرف:
والتبر كالترب ملقى في أماكنه +++ والعود في أرضه نوع من الحطب
وإنني لأظن أنه يصبح واجبا أحيانا أن يوفر أهل القرى النائية خبزا للمعلم فمن غير المعقول أن نترك معلما يموت جوعا وهو القادم من ظروف مغايرة من مدن فيها خبز يباع وفيها مطاعم… إلى قرية لا يجد دكانا وإن وجده فلا خبز يباع هناك.. ولا أنسى أنني اشتغلت في قرية حيث لا خبز، وكنا نبحث عنه في الدكاكين “بالريق الناشف” في ظهيرة حارقة، وبعد الفشل التام ينصحنا البقال بطهي الأرز، ولا أنكر أنني لفترة كرهت البقال صاحب فكرة الأرز، وكرهت المعلمين السيئين الذين لا أعرفهم لكنني أعرف قصصهم التي يكررها السكان كل مرة ليعللوا بها سوء تعاملهم معنا، كما كرهت الأرز لأنه لا مغربي يتغدى به كما أن طولي ولوني لا علاقة لهما بالصين الشعبية .. ومع ذلك فأنا مضطر لأشتري منه الأرز وهو ليس مضطرا ليتصدق علي بخبزة أو يبيعها لي.
كثيرون حاولوا الإجابة على السؤال: لم انهارت أسهم المعلم في بورصة القيم؟
لن أجيب لكن أذكر..
وأنا تلميذ قروي كان المعلم عندي شخصا مهابا، ويحصل لي الشرف لو قال لي السلام عليك، وعندما أراه يضحك أكون قد وصلت إلى اكتشاف فريد سأطلع عليه بقية الزملاء… لكن ما لم يتوقعه القرويون… أنه حدث وأن فرخت الدولة أقصد كونت أفواجا من المعلمين وبينهم نصيب وافر من “المراهقين والمراهقات” لم “يعيشوا” بعدُ فغزت بهم الوزارة القرى لتقريب المدرسة من المتعلمين. والحقيقة أن أكثرهم لم يفهم معنى أنه صار معلما بهذه السرعة وفي هذه السن، وكل ما فهمه أنه يتقاضى أجرة فأنفقها وأنفقتها في الملابس واللاملابس.. مما لم يستسغه الكثير من القرويين البسطاء فرأوا أمامهم شبابا يحملون من العلم القليل ومن الأدب القليل جدا ومن التباهي وسوء الأدب الكثير فكسروا أعراف القرى، وجاؤوا بصديقاتهم المعلمات ليقضين معهم “الويكاند” ويأكلن معهم البيض البلدي. ومنهم من جعل البيض البلدي ثمنا للنقط والجد في العمل فأتوا نهارا جهارا بما لم يأت به من سبقهم من العالمين المعلمين، دون يقدّروا الوسط الذي هم فيه. وكان رد القرويين أن حشروا كل المعلمين في سلة واحدة من أحسن منهم ومن أساء، فتعاونت معهم قنواتنا وجرائدنا في اصطياد كل حالة زل فيها معلم لتصبح قضية وطنية وحقوقية، لأنه ملاك لا يحق له أن يخطئ، وإذا أخطأ واحد فكلهم كذلك، وكذلك يفعلون، ثم إن المغرب كله بخير.. فلا غش ولا رشوة ولا جريمة ولا فقر ولا فساد ولا انحراف ولا خمر ولا دعارة … فكل الناس صالحون مصلحون وكل القطاعات بخير وعلى خير لا يسيء إليها إلا فضائح المدرسين. وما المعلم إلا فقير ابن فقير يدرس أبناء الفقراء فلينشغلوا ببعضهم، وللآخرين شغلهم وهم يقومون به على أكمل وجه.
أذكّر لا جواب عندي على السؤال من خرب التعليم وأفسد قيم المغاربة، وجعلهم يقيسون كل شيء بالدراهم، وأمات في أكثرهم الكثير من القيم الدينية والاجتماعية والوطنية والإنسانية. كل الإجابات المقدمة لها نصيب وافر من الصحة لكن في قلب كل المتحدثين الساخرين المستهزئين والمنصفين وغير المنصفين، الحاكمين والمحكومين… شيء يظل ينشد فيهم:
قم للمعلم وفه التبجيلا +++ كاد المعلم أن يكون رسولا
ويظل المعلم المعلم – والشاذ لا يقاس عليه- ينشد:
شوقي يقول وما درى بمصيبتي +++ قم للمعلم وفه التبجيلا
ثم إن الأمراض أجمعت أمرها على أن تفتك بصحته، وكلما سمع بانتحار أحد ما ابتسم ساخرا؛ الحمد لله المعلمون لا ينتحرون، ولا يصلون إلى اليأس أبدا كما لا يصل إليهم، وينشد في نفسه بيتا آخر لإبراهيم طوقان:
يا من يريد الانتحار وجدته +++ إن المعلم لا يعيش طويلا
ولم ينتبه إلى زوجته وقد تغير لونها بعدما لمحته يبتسم خلسة وعيناه مسمرتان على شاشة حاسوبه، فيعود إلى الاستغراق في التفكير وهذه المرة عن مسوغ لابتسامته وهو الذي لم يسأله أحد يوما لماذا لا تبتسم؟ وحتى لا يسمح للجارات بمد آذانهن لسماع ما يمكن يحدث بين المعلم وزوجته المعلمة – ربما- وقد أخرجت عينيها لتنظر ما يفعله كل هذه الساعات أمام شاشة زرقاء.. حتى لا يحدث شيء من ذلك، بادرها بالكلام:
تعالي يا... انظري ماذا كتب أحدهم عن المعلم والبيض البلدي وداكشي...
ـــــــــــــ
0 Comments
السلام عليكم و مرحبا بكم يمكنكم التعليق على أي موضوع ،شرط احترام قوانين النشر بعدم نشر روابط خارجية سبام أو كلمات مخلة بالآداب أو صور مخلة.غير ذلك نرحب بتفاعلكم مع مواضيعنا لإثراء الحقل التربوي و شكرا لكم.